من هنا وهناك

حين ينكأ الفلسطيني جرحه!- عبداللطيف مهنا

 

الجرح الفلسطيني عميق وغائر ومزمن، وهو إذ لا يتوقف نزفاً لما قارب قرناً نكبوياً مريراً، فإن جبهة ناكئيه متعددة وواسعة، كما تظل اطرافها المجتهدة والمتعاضدة في ادامة نكئه واطالة نزفه. هذه الجبهة معروفة، وإذا كان لابد من الإشارة السريعة اليها، فهى، إلى جانب الغزاة الصهاينة الغاصبين لفلسطين وناكبيها، صانعهم وظهيرهم وراعيهم الغرب، على اختلاف اطرافه وتلاوينه ومتواتر حقبه، والمختصر راهناً في الولايات المتحدة الأميركية وكافة ملحقاتها الكونية، بما فيها كافة اشكال ودرجات امتدادات هذا الغرب في كل من شقي ذيليته العربية، الرسمية التابعة والنخبوية المستلبة، كما لاحاجة للقول بأن لهذه الجبهة أيضاً مايردفها ويرفدها موضوعياً، وهو وبيل العجز العربي المديد، ودائم اللامبالاة الدولية المتواطئة.

لكنما قد يكون الأشد إيلامأً والموجع اكثر للفلسطينيين، وخصوصاً في هذه الأيام التي لم تبرد فيها بعد جراحهم في غزة، والتي لا تكاد تخرج بعد من تحت ركامها المدمَّر، هو توفُّر الناكىء الفلسطيني للجرح الفلسطيني! مبرر استذكارنا لهذا هو ما يعم من راهن احساس شعبي عام بالمرارة لدى قطاعات واسعة من الفلسطينيين، جوهره أن كل ما واجهه هذا الشعب الاستشهادي المضحي من ويلات في آخر المحارق المدارة ضده، أو آخر حلقات مسلسل الحروب الإبادية المستمرة عليه، قد تهون ايلاماً ووجعاً عنده مقارنةً بما يلحقه به بائس هذا التراشق الاعلامي المعيب واللامسؤول والآخذ في التصاعد هذه الأيام بين رام الله وغزة، والذي اقل مايمكن القول فيه هو أنه قد أنغص على هذا الشعب اعتداده بصموده الأسطوري واستبشاره بمنجزات دمه المقاوم الإعجازية المنتصرة بافشالها لكافة استهدافات هذه الحرب العدوانية الوحشية واجبارها لعجلة دورانها الطاحنة المنفلتة على التوقف ولو الى حين، كما أن من شأنه أن وجَّه طعناته المحبطة للآمال الواثقة باقتراب نهاية الحصار، والتي كانت قد تعززت بما بدى من وحدة الحد الأدنى على مطالب الحد الأدنى لدى الوفد الفلسطيني المشترك في مفاوضات القاهرة، ناهيك عن مايلحقه مثل هذا التراشق من اذى باحلامه التحريرية التي انتعشت اثر تحقيقه ما قدم من اجله ابهظ الاثمان وبذل من اجله اجل التضحيات.

نعم، إنه الى جانب صغائر المماحكات الفصائلية وبائس حساباتها الفئوية الضيقة المعتادة، والغياب المعروف للاجماع الوطني على برنامج الحد الأدنى لإداره الصراع، الى جانب محاولة البعض الجمع بين نقيضين هما السلطة في ظل الاحتلال ومقاومته في آن، هناك أيضاً من  الاسباب الموضوعية ما لايمكن تجاهله أو القفز عنه، ومنه استحالة التقاء مايفترض انهما تياران نقيضان، واحدهما مساوم احرق سفنه وذهب بعيداً بحيث لامن قدرة ولا من رغبة لديه للعودة عما هو فيه، والآخر يرفع شعار المقاومة ويمارسها، لكن، وعلى الرغم من هذا، فليس هناك من مبرر لمثل هذا التراشق الإعلامي البغيض الذي اقل ما يقال فيه أنه لايليق، بل ومشين، أن يأتي، وبهذه السرعة، عقب ما عرفته هذه الساحة من جليل كل هذه المآثر والبطولات الأسطورية التي خصتها به فرادة ملحمة غزة النضالية الإعجازية…وحتى لانزيد من نكىء الجرح، وإذ لانرغب في الخوض اكثر في تفاصيل مجها الفلسطينيون وكرهوها، نكتفي بالتوقف أمام مقولتين رددهما الأوسلويون بالذات عندما بدأوا في افتتاح بازار المماحكات ناكئة الجراح مؤخراً، وهما، “الشرعية”، وما وصفوه ب”قرار السلم والحرب”…ولنأخذهما بالتتالي:

كنا نظن، ويبدو الآن ما يثبت خطأ ظننا، أنه لم يعد هناك في الساحة الفلسطينية من يجروء على المحاججة بالشرعية واللا شرعية، بمفهومها الدارج أو المتعارف عليه…لماذا؟! ذلك لأن هذه الساحة تاريخياً لم تعرف إلا شرعية واحدة هى شرعية الثورة، والتي تمثلت في حينه في منظمة التحرير، لكونها كانت آن ذاك منجزاً واطاراً نضاليا جامعاً، لكن شرعيتها هذه انتهكت وصودرت عندما تم العبث الأوسلوي بميثاقها الوطني، الى جانب أن الدهر قد اكل وشرب على مجلسها الوطني المعين، والذي منذ عقود احالته الأوسلوية بمن بقي من اعضائه حياً يرزق إلى التقاعد بعد ان تهالك وتهالكوا دونما تجديد مع السنين، واكتفت بالاحتفاظ بجدث المنظمة كشاهد زور، أو للبصم على ما قد تتوصل اليه من تسويات تصفوية للقضية مع العدو. أما مجلس تشريعي اوسلوستان نفسها، على لاشرعيته اصلاً، باعتباره منتجاً لمسار تنازلي غير شرعي بمجمله وتحت احتلال، فحتى لو تجاوزنا هذا، فهو لايمثل كل الشعب الفلسطيني وطناً وشتاتاً بل جزء منه قد لايتجاوز ثلثه، ثم أنه وضع بدوره أيضاً على الرف، الى جانب كونه قد انتهى أيضاً بالتقادم، واستطراداً، فرئيس السلطة بلاسلطة وتحت احتلال، والذي وحده يجمع في يديه كل هذه “الشرعيات”، قد انتهت ولايته منذ زمن ونسي الأمر، ومن الطريف أنه لم يجد من يذكِّره بهذا سوى ليبرمان، ليس حرصاً على الشرعية الفلسطينية طبعاً، وإنما في سياق جار المناكفات الصهيونية الداخلية المستعرة بعد فشل استهدافات الحرب على غزة، حين عيَّره، قبل أيام، ب” أنه لاشرعية له، وهو ليس مفوَّضاً بالتوقيع على على أي اتفاق باسم الفلسطينيين، لأن ولايته انتهت”!

…والآن وإذ لم يتبق في الساحة الفلسطينية إلا شرعية واحدة كفلتها لها كافة الشرائع السماوية والأرضية وكل القوانين والمواثيق والأعراف الكونية، الا وهى شرعية المقاومة، أوليس لهذه وحدها، وفي وطن محتل من نهره الى بحره، حق ما يدعى بقرار الحرب والسلم، أو هذا الذي لايعني فلسطينيا سوى حق المقاومة…المقاومة حتى التحرير والعودة؟؟!!

حين ينكأ الفلسطيني جرحه!- عبداللطيف مهنا

اترك تعليقاً