الأرشيفوقفة عز

خير شناعة، صديق والدي الحميم – نضال حمد

العم خير شناعة أشتهر في مخيم عين الحلوة، كطبيب أسنان الفقراء والمحتاجين والناس المشحرين في مخيمنا. لم يكن طبيباً بل فني أسنان لكن ممارسة المهنة في مخيم يعج بالناس المعثرين، المعتازين، المحتاجين، البؤساء والفقراء، حيث كان يسكن هناك حوالي 100 ألف لاجئ فلسطيني أو أكثر، تكدسوا في بيوت وغرف وحارات ضيقة، مثل السردين في المعلبات. تلك الحياة والتجربة والمعاناة منذ ما بعد النكبة وخلال العيشة الصعبة في المخيمات، جعلت من العم خير شناعة طبيباً وشخصاً مجرباً وصاحب تجربة فذة وخبرة لا تقدر بثمن وربما حسده عليهما أطباء الأسنان في لبنان كله.

كانت عيادة خير شناعة أو مقر عمله يقع على الشارع التحتاني بالقرب من المسجد القريب من الجسر التحتاني ونادي فلسطين الثقافي التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قرب الوادي الشهير، قبل غزو الصهاينة للبنان واحتلال المخيم وتدميره ومن ثم تجريفه في مثل هذه الأيام من سنة 1982. فالآن لم يعد هناك لا وادي ولا جسور في المخيم بل هناك جدار عازل وسور يحيط به من كل الجهات، تحرسه الدبابات اللبنانية الرسمية الشقيقة 24 ساعة متواصلة. ويغلق المخيم بأربع أو خمس بوابات من قبل حواجز الجيش الشقيق، ولا يدخله أحد من خارجه بدون تصريح أو إذن مسبق. الحمد لله أن خير شناعة لم يعش أكثر ليرى تلك البشاعة.

إذا لم تخن الذاكرة كان هناك مقهى أيضاً في المنطقة على نفس الشارع، فيما مقر خير كان يقع في الدخلة التي تؤدي الى غرب الشارع. أذكر أنني دخلت الى مقره في يوم من الأيام وكنت مرسلاً من والدي الى العم خير لإيصال أو جلب غرض ما.

كانت علاقة أبي والعم خير شناعة رحمهما الله علاقة متينة جداً. فقد كانا صديقين حميمين وكذلك كانا قريبين جمعت بينهما صلة قرابة من جهة أم خير وجدي أحمد شقيق والدة خير. يعني كان خير إبن عمة أبي. وقد أوضح لي القرابة بالضبط الأستاذ أبو نزار شناعة شيخ شباب طيطبة في برلين وهو الذي يعرف ذلك بالتفصيل.
وعن خير شناعة قال أبو نزار: “عمل خير شناعة في فلسطين في البريد في صفد قبل النكبة و عند وصولنا الى مخيم عين الحلوة عمل مساعدا للدكتور عبدالصمد في (عيادة اسنان في بناية قريبة من سينما كابيتول. وهكذا تتلمذ وتعلم المهنة والخبرة في عيادة أسنان لطبيب مشهور في صيدا. بعد موت الدكتور عبدالصمد فتح خير عيادته في المخيم وأصبح بذلك طبيباً ليس للمخيم فقط بل كان يأتيه زبائن (مرضى) من القرى المجاورة”.

سافر خير شناعة الى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعيش بعض أبنائه. مكث هناك فترة من الزمن لكنه كما غالبية كبار السن من أهالينا ومخيماتنا لم يتأقلم مع الحياة الأمريكية. وفي معرض حديثه عن تلك الرحلة الأمريكية قال عنها لأبي: “إنها مثل الحياة في السجن أو في المنفى. حيث لا أصدقاء لك يا صديقي ولا أخوة لك يا أخي”. وتحدث عن حديث مضحك دار بينه وبين حفيده الصغير، حيث طلب منه ذات مرة أن يدله على سوبرماركت فدله الحفيد وساعده. وفي مناسبة أخرى عاد وطلب من الحفيد أن يدله مرة ثانية. فقال له الحفيد ألم أدلك وأشرح لك في المرة السابقة. فقال له العم خير نعم فعلت ذلك لكن جدك استيعابه ضعيف. وكان يروي القصة على مسامع والدي وهما يضحكان ويقهقهان معاً. ربما تخيل والدي رحمه الله نفسه في اوسلو أو كراكوف مع أحفاده – أولادي – وقد تعرض لنفس الموقف. لكن والدي كان حازماً جداً في رفض مغادرة المخيم مع أنه كان يحق له ولأمي لم شمل معي في النرويج. عندما عرضت عليه الفكرة سنة 1998 رفضها رفضاً مطلقاً وقال لي: من الصفصاف في الجليل في فلسطين المحتلة الى المخيم في عين الحلوة. ومن المخيم الى الصفصاف أو الى القبر.”. للأسف ذهب والدي كما كل أبناء جيله والأكبر منهم سناً الى المقابر في مخيمات الشتات. لكننا نعاهدهم ونعاهدهن بأن يعودوا ويعدن الى مساقط رؤوسهم-ن ومقابر أجدادهم وجداتهم في فلسطين الحرة.

في معرض حديثه عن الحكيم خير شناعة قال الأخ حميد يونس:

سأذكر لك قصة حدثت معي عندما كنت أدرس في الجامعة في بيروت حيث أصبت بألم شديد في ضرسي… وكان الوقت آنذاك صيفاً في شهر حزيران على ما أذكر. ذهبت إلى طبيب أسنان، عيادته كانت موجودة في منطقة وادي أبو جميل، حي تسكنه الطائفة اليهودية اللبنانية، وكان ضرسي ملتهبا ًفقام الطبيب بخلعه.
كان الوقت آنذاك الظهر والحرارة شديدة. عندما غادرت العيادة أخذ ضرسي يلتهب وخدي ينتفخ. فذهبت في اليوم الثاني إلى مخيم عين الحلوة وتوجهت الى عيادة المرحوم خير شناعه. فأشار علي بأن أضع حجارة الشبّة التي تشبه سكر الفضة في ماء بارد وأن أحضر قطعة قماش وأضعها في الماء البارد، ثم أضعها على خدي. فعلت ذلك وإذ بخدي بالفعل أصبح يعود شيئا فشيئا الى طبيعته وكأنك تُنَفِس بالون منفوخ. هذه القصة تدل على خبرته ومعرفته بهذه المهنة.

رحم الله العم خير شناعة والوالد أبو جمال حمد وإنا لعائدون.

نضال حمد – 19-7-2021