الأرشيفثقافة وفن

“خير يا طير”: حكايا 2017 – د. فيحاء قاسم عبد الهادي

ظاهرة ثقافية

 

ما الذي يحدث حين يروي الحكواتي/ة شهادة شخصية قدَّمها راو أو راوية عن تجربة حياته؟ حين تخرج الشخصيات من دفّات الكتب ومن الأرشيفات لتتجوَّل بيننا؟

هل نراها كما هي؟ أم نراها من خلال شخصية من يرويها؟

كيف روى الحكواتي “حمزة العقرباوي” قصة تهجير “محمد القاضي” من كوكبا؟

وكيف قصَّت الحكواتية “سالي شلبي” رواية تهجير “رشيدة فضيلات”، من عراق المنشية؟ في عرض “خير يا طير”، الذي قدَّمه “ملتقى حكايا”، ضمن معرض “قول يا طير”، بالتعاون مع “دارة الفنون”، في عمان يوم 18 أيلول 2017؟

وهل أضافت الموسيقى إلى العرض؟ “في البدء كانت الكلمة” أم في “البدء كان الصوت”؟

*****

تخلل العزف والغناء الرائعين العرض كله. كان لا بد من القطع داخل الحكاية الواحدة، والقطع بين الحكايتين؛ ليس فقط بكلمات ولحن يناسبان الحكاية؛ بل كي يبقى فضل الحكاية لصاحب وصاحبة الحكاية.

لم يكن أسلوب الحكّائين واحدا؛ إذ طبع كل منهما الحكاية بشخصيته وأسلوب عرضه للحكايات.

تماهى “حمزة” مع “محمد القاضي” بشكل كبير، روى عن طفولة الراوي؛ فدخلنا بيت عائلته الكبير في كوكبا، وشربنا القهوة في المضافة، وأكلنا معه القطّين مغمساً بزيت الزيتون، وتذوَّقنا أنواع العنب المتعددة، من كرم والده: العنب الخليلي، واليافاوي، وعنب بزّ البقرة، وعنب قرّيش الأصفر كما الذهب، والتين الشوكي، كما تذوَّقنا التين: الأسود، والحماري ذي القلب الأحمر، والشهامي ذي القلب الأبيض. وأحسسنا بحجم حبة الحمّص التي يعادل حجمها ثلاثة أضعاف حجمه في بعض البلاد العربية.

وروت الحكواتية “سالي شلبي” عن “رشيدة فضيلات” في طفولتها، حيث كانت تعيش حياة في أرضها ولا أجمل! تجوَّلنا مع “رشيدة” في كروم عراق المنشية، وأكلنا معها الصبر والمشمش، والحمص، والفول، والبيض المقلي بالسمن، واللبن ومشتقاته.

*****

أبدع “حمزة” بتجسيد شخصية “أبو ناصر”، صاحب التجربة الثرية في الحياة وفي النضال، منذ أجبر على الرحيل من كوكبا، إلى البريج، إلى مصر، حيث استقرّ؛ إلى أن رحل عن عالمنا عام 2014.

وحين روت “سالي” عن “رشيدة فضيلات”؛ أبدعت بتقديم شخصية المرأة المقهورة والقوية في الوقت ذاته، روت عن ظروف ترحيلها، من عراق المنشية، إلى مخيم العرّوب، مروراً بالمسكوبية، وبيت أمّر، والكرامة، والزرقاء، إلى أن استقرَّت في مخيم البقعة، حيث تعيش مع أبنائها وأحفادها حتى الآن.

تابعنا رحلة تهجير الراويين “محمد القاضي” و”رشيدة فضيلات”، حتى هزيمة 1967،  وشهادة كل منهما عن رحلة العذاب والصمود في الوقت ذاته.

صاحبنا “أبو ناصر” طفلاً يضرب الحجارة على شاحنات العصابات الصهيونية، ويحمل خبز الطابون إلى الجيش المصري، الذي دخل قريته للدفاع عنها، عام 1948، بناء على قرار الجامعة العربية بدخول الجيوش العربية إلى فلسطين، ويشهد على بسالة الجيش المصري في الدفاع عن القرية، وعلى حصار “جمال عبد الناصر”، مع الجيش في الفالوجة مدة ثلاثة أشهر، وعلى بسالة أهل القرية والقرى الأخرى في دفاعهم عن قريتهم، وحرصهم على إيصال الأدوية والذخائر للجيش المحاصر، الذي اضطرَّ لمغادرتها بناء على اتفاقية رودس عام 1949.

وتابعنا شهادة “رشيدة” حول صمود عراق المنشية، وبطولة الجيش المصري؛ حين دخل إلى قريتها، كما دخل كوكبا؛ وعن والدها الذي فقدته العائلة إثر مغادرته القرية من أجل تأمين مساعدات للجيش المحاصر، الذي لم تعد تصله الإمدادات. تحدَّثت عن الدور السياسي المتميز للنساء الفلسطينيات؛ للمساهمة في الصمود في وجه الحصار. روت عن القذائف الإسرائيلية اليومية على البيوت والشوارع وأهالي القرية. وشهدت على أروع علاقة بين الجيش المصري وسكان عراق المنشية، والفالوجة، والقرى المجاورة، يأكلون معاً ويسهرون معاً ويقاومون معاً: “يقاوموا يقاوموا، زلام ونسوان”.

تميَّزت “رشيدة” بالحسّ النقدي للأحداث السياسية، وخاصة حين وصفت اقتحام القوات الصهيونية البلدة بعد هدنة رودس: “كان فيه مقاومة كبيرة، إحنا سلَّمنا من الهدنة، يا ملعون أبوهم على أبو هدنتهم”.

*****

وبعد الهدنة، وخروج الجيش المصري، ودخول القوات الصهيونية إلى كوكبا وعراق المنشية؛ صاحبنا الراويين في رحلة تهجيرهما المريرة، تحت قصف الطائرات الصهيوينة؛ اصطحب “محمد القاضي” شقيقته الصغيرة: “لا نور سوى أصوات إطلاق نار، طلعنا على حمار، وبعدين راح الحمار وسط إطلاق النار”. ومن كوكبا إلى المجدل، إلى غزة، إلى دير البلح إلى البريج؛ “رحلة رعب ما بعده رعب”.

ومشت “رشيدة” مع عائلتها ومن رُحّلوا: “رمونا في هالمسكوبية، لا سجرة ولا حجرة، ولا خيمة، دار سيدي صفّوا فوق شوالات هالقمح أواعيهم، وحطّوا هالفراش فوقهن، وظلّوا قاعدين طول الليل، في هالمطر وفي هالسّقعة، كيف بدها الناس تساوي؟ قالوا: بدنا نلتحق بالمخيمات. رُحنا على بيت أمّر، وبعدين على مخيم العروب”.

وبعد رحلة العذاب المريرة؛ تتبعنا الراويين شباباً، شقَّ كل منهما طريقه بساعديه، وتزوَّج وكوَّن عائلة. إلى أن بدأت رحلة مختلفة بعد هزيمة 1967.

أكمل “محمد القاضي” دراسته في مخيم البريج، وأنهى الثانوية بتفوق، وتعيَّن موظفاً في مكتب الحاكم العام لقطاع غزة، حتى عام 1964. وبعدها التحق بجيش التحرير الفلسطيني بعد تفوقه في الدراسة بكلية الضباط الاحتياط في منطقة فايد.

“في أثناء ممارستي المسؤولية في جيش التحرير، كنت أتولّى ما يسمى ضابط نوبطشي على الحدود مع ما يُسمى إسرائيل، كنت أمارس نشاط ذاتي مع بعض الّلي أثق فيهم من الجنود وصفّ الضباط، كنا نسرق – زي ما بيقولوا – بعض الألغام، ونذهب لنزرعها في طرق آليات جيش العدو”.

درست “رشيدة” في مدرسة المخيم، وساعدت أسرتها عن طريق التحطيب: “صرت أروح ع الحطب وأروح ع المدرسة”، كما تعلمت الخياطة:  “الست “زكية” تقرّينا، والأستاذية يقرّوا الاولاد، يعطوهم عن كل طالب كيلو طحين، بس صبروا والله وصمدوا، صبروا وصمدوا”.

*****

ماذا بعد الهزيمة؟ كيف روى “حمزة” عن مشاركة “محمد القاضي” بالعمل السياسي حتى أصبح قائداً عسكرياً؟ وكيف روت “سالي” عن تطور شخصية “رشيدة فضيلات”؟ كيف قاوم كل منهما بأسلوبه وإمكانياته ظروف القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ روايتان تستحقان وقفة مستقلة الأسبوع المقبل.

 

        faihaab@gmail.com

www.faihaab.com