الأرشيفوقفة عز

دار علي بدر للحجر الصحيّ – نضال حمد

دار علي بدر للحجر الصحيّ .. ممنوع افتتاحها … من غير ليش…

روح علي بدر كانت يجب أن تعود لتظهر من جديد في الحارة بالمخيم، في منزل عائلته وغرفته حيث ولد وجاء الى هذا العالم قبل عشرات السنين، وحيث قضى آخر سنوات عمره قبل أن يعود من حيث جاء.

في المخيم حيث عاش مع فقراء شعبه وفي حارة عرفته مناضلاً شاباً، وطالباً مجتهداً ثم طبيباً لم يزاول عمله لظروفٍ مختلفة ومتعددة ومتشابكة. توفي صديقي علي بدر فجأة وبدون سابق انذار. كأنه لم يجد وقتاً ليقول لنا وداعاً ولا تنسوني من الذكريات والدعاء، ولا أريد حزناً ولا بكاء، فقط  تذكار ودعاء. لم نتمكن من القول له “على مهلك يا حكيم”. كانت أمي تناديه يا “حكيم“، عندما كان يزورني في بيتنا كلما وصلت الى هناك في أوقات إجازاتي ومهماتي. فقد عشت أوقاتاً طويلة وجميلة مع علي بدر حيث كنا ننشط ونناضل معاً.

بالصدفة قلت للأخت رجاء شقيقة علي أنني بوارد الكتابة غداً عن علي وقصة حصلت معه في معتقل أنصار سنة 1982. خبرني عنها صديقه وصديقي المهندس حسن أزدحمد. حسن ابن مخيمنا عين الحلوة، الذي أوصلته منافي الشتات الى كندا. حسن يومها كان أسيراً مع علي في خيمة واحدة بمعتقل قرب سجن مجدو في فلسطين المحتلة، قبل الانتقال الى سجن أنصار في الجنوب اللبناني. ربما البعض كان يحسده على وجوده مع علي في خيمة مشتركة لأن لعلي أسلوبه المُسلي والجميل في الترويح عن الناس خلال الأوقات الصعبة، فهو كان صاحب نكتة ومزاج “مانغه” على حد قول إخوتنا المصريين.

قال لي صديقنا المشترك، الذي يعرف أنني عشت مع علي فترة من الزمن وأن علاقتي به قوية جداً. أنهم ذات يوم كانا يقفان لاستلام طعام أو ربما أشياء أخرى، حين سمع علي بدر أحد الضباط العسكريين من الجهاز الطبي الصهيوني يتكلم البولندية. فخاطبه علي بالبولندية، تلك اللغة التي كان يتقنها.

حسبما أخبرني حسن، هكذا دار الحديث بين علي بدر وطبيب الشرطة العسكرية “الاسرائيلية” اليهودي البولندي:

علي بدر تكلم مع طبيب يهودي بولندي عسكري صهيوني بالبولندية.

فجاوبه الطبيب: كيف أنت واحد إرهابي بتعرف اللغة البولندية؟

قال له علي بدر: أنا طالب في كلية الطب في بولندا.

 بالبولندية. فطلب منه الطبيب الصهيوني اليهودي البولندي أن يعدد له اسماء أجزاء الجمجمة

سأل طبيبنا علي بدر الطبيب اليهودي: برأيك من الأرهابي الذي يعتقل طالبا مثلي ويضعه بالمعتقل وهو حضر في الاجازة الصيفية كي يزور عائلته، وعنده امتحانات في الكلية لازم يرجع يقدمها… أم أنا؟

وقتها استفز علي الطبيب السجان “الاسرائيلي”.. كلمات علي استفزت الصهيوني فحمل حجراً ورماه على علي، وقام بشتمه بأقذع الشتائم باللغة البولندية يعني من الزنار ونازل. فالشتائم باللغة البولندية كثيرة مثلها مثل اللغة العربية.

قال صديقنا حسن الذي لم يكن يفهم الحوار الدائر بين علي بدر واليهودي الصهيوني البولندي عندما سألت علي ” شو صار معك ليش هيك عمل؟”

 قال لي علي: أقول له تيس يقول أحلبوه”… شرحت له إنني طالب وفهمته واقتنع.. ولكن بيقول لي ما دامك طالب ونازل إجازة لماذا يا ابن ال***، (شتيمة) تقوم بمحاربتنا في وقت إجازتك؟”.

 طبعا كل من عاش تلك الفترة من العمر وزج به في معتقلات العدو يعرف أن الصهاينة حين احتلوا مساحات شاسعة من لبنان واعتقلوا الناس كيفما اتفق. كانوا يقومون بأمر المعتقلين بارتداء بدلات عسكرية لإظهارهم كأسرى عسكريين. كانوا بالقوة يرغمون الأسرى والمعتقلين على ارتداء اللباس الأخضر أو الكاكي والمموه أي اللباس العسكري.

 قال لي صديقي: “هم كانوا ملبسين الكل لباس عسكري ومشلحيننا ملابسنا المدنية وموهمين الناس أننا مقاتلين.. فيما الجميع كانوا ناس مدنيين، بما فيهم العمال السوريين والمصريين اللي بيشتغلوا بالزراعة و٩٩٪؜ ناس عاديين تم خطفهم من الشوارع والساحات”.

ببساطة كانوا يريدون ان يظهروا لجمهورهم الصهيوني أنهم اعتقلوا كل الفدائيين واعضاء منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. كان هذا كذب صريح. وعملية تجميل ودعاية خادعة لم تدم طويلاً. واكتشفها مناحيم بيغن بداية الغزو حين جاء ليشاهد قلعة الشقيف بعد سقوطها بيد جيشه. فوجد مقذوفات الرصاص والقذائف الفارغة في كل مكان حوله وعلى الأرض حيث كانت تغطي المنطقة كلها.

كانت الشرطة العسكرية الطبية الصهيونية كما أفراد الجيش، عناصر مسلحة.. يلبسون بدلات عسكرية ولكن يضعون شارة نجمة داوود باللون الاحمر على زنودهم.

بعد معاناة طويلة وانقطاع عن الجامعة والدراسة واقامة استمرت شهورا طويلة في معتقل انصار خرج علي بدر من المعتقل وعاد الى مدينة كاتوفيتسه في بولندا حيث استأنف دراسته في كلية الطب التي تخرج منها فيما بعد طبيباً. وبعد التخرج انتقل للعيش في الدنمارك حيث تعرض لانتكاسة صحية قوية فعاد الى مخيم عين الحلوة ورفض مغادرته بالرغم حمله للجنسية الدنمركية، بقي في المخيم حتى وفاته.

قبل الاجتياح الصهيوني للبنان بأيام قليلة التقيت بالرفيق علي بدر امام مقر لجبهة التحرير الفلسطينية في الفاكهاني في بيروت، حيث كان يعقد القائد الشهيد طلعت يعقوب أمين عام الجبهة اجتماعاً هاماً مع بعض أعضاء قيادة الجبهة. بعدها عاد علي بدر بصحبة الصديق خليل زيدان الى مخيم عين الحلوة حيث اعتقله الصهاينة من هناك. وكذلك اعتقل خليل الذي كان جريحا في ذلك الوقت.

عائلة الدكتور علي خالد بدر التي بقي منزلها شاغراً بعد وفاة علي، لم تقم بتأجير المنزل ذو الثلاث طبقات في المخيم، بقي بلا سكان حتى الآن. قررت العائلة مع وجود حالات صعبة في المخيم سببها انتشار وباء كورونا- كوفيد19-  أن تقوم بتعزيل المنزل وتجديده وتأثيته وتجهيزه بالأسِرِة وكل اللوازم الضرورية من أجل تحويله الى مقر لحجر المرضى المصابين بكورونا. على أن يصبح اسم المكان (دار الدكتور علي بدر للحجر الصحي). كل هذا على نفقة العائلة ومساهمة منها في تخفيف معاناة أهل المخيم. وكل شيئ كان يسير على ما يرام الى أن وصلت الأمور الى خواتيمها. هنا كانت المفاجئة.

هذه الخطوة من قبل عائلة صديقي وأخي علي بدر تجيء تكريما لعلي الانسان والطبيب والمناضل. لذكراه وتخليداً لحسه الانساني العالي. وخدمة للناس وللمرضى وللمحتاجين وللمصابين بكورونا، في زمن صعب يعيشه الناس في المخيم. حيث لا مساعدات ولا معين ولا دولة تهتم بهم ولا منظمة أو فصائل يمكنها مساعدتهم بشكل كافٍ يخفف عنهم آلام مصاباتهم.

لغاية الآن لا رجاء شقيقة علي ولا أهل علي ولا محبي علي ولا أنا استطعنا تفسير سر انقلاب الناس أو لجنة الحي على المشروع الخيري التطوعي غير الربحي، بعدما كانوا رحبوا به وقبلوه في البداية. مما جعل عائلة علي تدفع تكاليف باهضة لاعادة ترميم وصيانة المنزل واجراء تمديدات صحية وكهربائية وهاتفية وانترنت والخ. فقد ثم شراء فرش وأسرة وكل ما هو لازم لمثل هذا المكان. ألم يكن بمقدروكم يا لجنة الحي وأهله أن توفروا على العائلة كل تلك المصاريف التي ستهدر دون استخدامها في مكانها الصحيح؟

كلني أمل أنه سيظهر من ذلك الحي ولجنته وسكانه من يقف ويفكر ويقول كلمة حق. وسنسمع من العقلاء قولهم “يا ناس ساعدوا الناس وساعدوا أنفسكم وحبوا بعضكم وتعاونوا على عمل الخير لما فيه مصلحتكم”.

كل الشكر لعائلة الدكتور علي بدر ولشقيقته رجاء وللمتطوعين أطباء وممرضين وممرضات ومسعفين ومسعفات. والرحمة والخلود لصديقي الدكتور علي بدر الذي عادت روحه لتحلق من جديد في منزل العائلة وفي الحارة على الشارع الفوقاني وفي المخيم.

نضال حمد

15-4-2021