عربي وعالمي

داعش : قراءة اللبنانيين! – محمد قواص

 يتعايشُ اللبنانيون بشكل حرفيّ لتمرير يومياتهم في بلد فسيفسائي لا يوجد مثيله في الجغرافيا السياسة الدولية الحالية ولا في ما قبلها. وفي مقاربة داعش يخرجُ اللبنانيون بصيّغ ومعادلات تحافظُ على الحدود الدنيا للتكاذب بما يضمن حداً أدنى من التساكن والاستقرار.

يقدّمُ الموقف الرسمي لكافة الفرقاء السياسيين خطاب ادانة ضد التطرف الأصولي بطبعة داعش أو طبعة النصرة. جنودٌ لبنانيون مختطفون من قبل تلك الجماعات ولا مجال لمباركة من هاجم الجيش اللبناني في عرسال البقاعية ومن يبتز حالياً الحكومة اللبنانية في مسألة اطلاق سراح جنود البلد الأسرى. تستدرجُ عملية التفاوض كافة الفرقاء لخفض لهجة الطرف اللبناني سواء كان ذلك الطرف مسؤولين سياسيين وأمنيين، او كان من أهالي الاسرى المنتشرين في شوارع البلد يقطعونها توسلاً لحلٍّ يفك ضيق أبنائهم الأسرى.

لكن بعيداً عن الجانب الانساني لقضية الأسرى المُجمع عليها من قبل اللبنانيين، فإن مقاربة داعش بالمعنى السياسي تختلفُ، للمفارقة، من تيار سياسي إلى آخر، ويصيبها لبسٌ من طائفة إلى أخرى.

يخافُ اللبنانيون من داعش التي تُطل على بلدهم. مسيحيو القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع يعتبرون التنظيم سياقاً مكمّلاً لخطيئة بقاء النظام السوري، فيما مسيحيو التيار العوني (بقيادة ميشال عون) يعتبرونه علّة تصدّرها السعودية. في ذلك أن التحالف العوني مع حزب الله يستدعي موقفاً لا يُغضب الحزب الغارق في الوحل السوري، فيما الموقف القواتي منسجمٌ مع خطاب فريق 14 آذار الذي يرى المأساة منبعها ما تنفخه طهران ودمشق من سموم باتجاه بلدهم.

لكن الانقسام الدراماتيكي الكبير في مقاربة داعش يترعرع على حدود الانقسام بين السُنّة والشيعة. يشعرُ الشيعة في لبنان بقلقٍ وخوف على الرغم من فائضِ القوة الذي يمثّله حزب الله في لبنان. يقفُ “جمهور المقاومة” في العلن مع حزب الله في حربه ضد “الارهابيين والتكفيريين” حسب الرواية الرسمية للحزب، ويعبّرُ جمهور المقاومة في كل مرة تعرّضت مناطقه لاعتداءات بالسيارات المفخخة أنه ملتصقٌ بالحزب داعمٌ لخياراته.

هذا في العلن. لكن وراء الأبواب المغلقة بدأ يتسرّب امتعاض داخل صفوف الطائفة الشيعية لا يظهرُ إلى العلن بتعبيرات نوعية لافتة. البيوت الشيعية قلقةٌ من عودة جثامين المقاتلين من معارك سوريا، ومؤخراً العراق أيضا، على نحو بات روتينياً عادياً، وكأنه أصبح جانباً من جوانب العيش الطبيعي للشيعة في لبنان. تسأل البيوت الشيعية عن الحكمة من الزجّ بالشيعة في لبنان في أتون مواجهة ضد الارهاب (على ما يدّعي الحزب)، فيما أن ذلك الجهد يستدعي تحالفاً دولياً اقليميا، بما يعني أن المعضلة أكبر من أن يتحملها الحزب والطائفة. كما تتساءل العائلات الشيعية عن جدوى تلك المعركة التي فتحها الحزب في سوربا، التي تحوّلت حكماً إلى صدام بين شيعة من لبنان (ومن بلدان اخرى) وسُنّة من سوريا (ومن بلدان اخرى). كما لا يستطيع البيت الشيعي أن لا يربط بين خيارات الحزب السورية وتسلل الارهاب الأصولي الى داخل بلدهم ومدنهم واحيائهم. ثم أخيراً يتخوّف الشيعة في لبنان من أن تنهي المعركة السورية وتداعياتها الصعود السياسي للطائفة والتي جعلت منهم، ومن خلال الحزب، طرفاً مُقررا أساسيا في شؤون البلد وحكومته وانتخابات رئيسه.

داعش والنصرة عدوان للشيعة. التنظيمان يعلنان ذلك، والشيعة يدركون ذلك، والحزب يأنسُ لذلك ترميماً لسمعته وجماهريته داخل الطائفة. بالمقابل فإن النقاشَ حول داعش يصوّب أنظار اللبنانيين نحو السُنّة في لبنان. واذا ما كان المزاج السُنّي العام لا يهضمُ التطرف والتزمت الذي يشبه قواعد عيشهم وتاريخ وجودهم، وإذا ما كان سياسيو السُنّة وعلمائهم يرددون الاستنكار ويكررون التنديد بسلوكيات التطرف، إلا أنهم يقرنون ذلك بالتذكير بأن تنامي التطرف عند السُنّة مرده ضرب الاعتدال عند السُنّة، وأن سلوكيات الحزب في لبنان أولاً، وفي سوريا ثانياً، مسؤولةٌ عن استدراج الارهاب الى داخل البلد، كما أنها مسؤولةٌ عن تنامي الحاضنات الاجتماعية المفترضة لتلك الجماعات لدى مناطق وفئات من سُنّة البلد.

لكن اللافت في الاصغاء لخطاب السُنّة في لبنان، أن أمر داعش قد يتسق مع ما يخزّنونه من مشاعر سخط ضد ما يعتبرونه كارثة أصابت سُنّة المشرق. وأمر داعش لا يقضّ مضاجعهم وهم يرصدون الرعب الذي أصاب التيارات القريبة من طهران في العراق وسوريا إنتهاء بلبنان. وأمر داعش قد ينفخ باتجاه تمنيات مكبوتة في تحجيم تعمّلق حزب الله في البلد، واعادة الشيعة إلى القواعد والاصول التي تحكم العيش في هذا البلد المعقّد.

لكن الانكى من ذلك، أن الحقد الذي تحمله شريحة لا بأس بها من السُنّة في لبنان على حزب الله بسبب هيمنته في السياسة والأمن والاقتصاد، وبسبب ما يعتبرونه فتكاً بدور السُنّة وثقلهم في البلد، يدفعهم إلى استسهال تمني دخول داعش بقوة الى داخل البلد، لعلّ في ذلك نهاية لفائض القوة التي يمارسها الحزب والتي عجز السُنّة وقياداتهم المعروفة في التعامل معها.

هذا الموقف الاخير شبيه تماما بما نقله تقرير لرويترز قبل عامين في مدينة الفلوجة العراقية. حينها انتشر مسلحون ملثّمون على المدينة وطردوا الجيش العراقي وقوات الأمن من المدينة. نقل مراسل رويترز انه سأل المواطنين في الفلوجة عن هوية هؤلاء الملثّمين، فكانت محصلة ردودهم أنهم لا يعرفون من هم، لكن اياً تكن هويتهم فأنهم أفضل من جيش بغداد. على ان التمنيات الداعشية الصادرة عن بعض شرائح السُنّة نكاية بحزب الله، لا تستندُ على أساس صلب، ذلك أن قليلا من النقاش ومن تقديم الحجج يبددُ قناعاتهم ويغيّر من مواقفهم، على نحو لا يُقارن بالموقف المعلن من قبل جمهور حزب الله المتسك بصلابة بدعمه للحزب ورفد خياراته.

يعوٌل اللبنانيون على خيمة اقليمية دولية ما زالت ممتدة فوق رؤوسهم لمنع انهيار بلدهم. بات اللينانيون مدركين أن ما يمنع الاحداث الأمنية والاختراقات الكبرى ليس تدابير الاجهزة الامنية ويقظتها، وما يمنع الارهاب والارهابيين من اجتياح الداخل اللبناني ليس سببه حرب حزب الله ضد الارهابيين في سوريا، بل قرار ما بتجنيب لبنان الانهيار الكبير. بيّد ان الظاهرة الداعشية زادت من تعرية اللبنانيبن أمام بعضهم البعض من حيث أن تعايشهم بات رخواً وأن تكاذبهم لم يعد كافيا للاستمرار في تقديم الصيغة اللبنانية بصفتها فعلا عبقريا يرقى الى مستوى الرسالة.

داعش : قراءة اللبنانيين!

 

محمد قواص -صحافي وكاتب سياسي

اترك تعليقاً