الأرشيفعربي وعالمي

رحيل ديستان رحيل الأوهام – حياة الحويك عطية

قبل أربعين سنة، جاء يستصرخ نجدة العرب، عرب الخليج، ضد “إسرائيل”، وقبل ثلاثين سنة، نصح الطلاب العرب بالوحدة وإلغاء “سايكس بيكو”. هل كان حالماً أو مخدوعاً بعروبة بعض العرب؟

“ديغول لطالما أبهرني

شميدت أحببته

شيراك لم يشغل تفكيري يوماً”

فاليري جيسكار ديستان

المقابلة الرئاسية الأولى للصحافية الشابة التي كنت في العام 1981. المرة الأولى التي أحتلّ فيها الصفحة الأولى لجريدة “الرأي” الأردنية، وتنقل عني جميع وسائل الإعلام العربية. الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان الذي جاء إلى المنطقة في جولة تشمل دول الخليج والأردن، قرّر ألا يجري أية مقابلة، ولكن إلحاحي على السفارة في عمان طيلة شهر قبل الموعد، أوصل إلى حل: أعطى موعداً لحوار مع السيدة الأولى بحضور الرئيس، وطلب إرسال الأسئلة إلى الإليزيه مسبقاً.

أحاول الاعتراض على الشق الثاني (رغم أنني لم أكن بعد بالحجم الذي يسمح لي بوضع شروط)، ثم أقبل، فالسبب الذي كمن وراء قرار ديستان بعدم إجراء حوارات هو السبب نفسه الكامن وراء زيارته ووراء إلحاحي على مقابلته.

لم يكن إلحاحي مقتصراً على تحقيق “خبطة” صحافية، بل حماس حقيقي مندرج ضمن نشاطي السياسيّ القوميّ الملتزم، وخصوصاً في القضية الفلسطينية، إذ كنت أعرف أن الرئيس الذي بدأ حملته الرئاسية الجديدة، جاء إلى العالم العربي يطلب دعم دوله أمام ما يتعرض له من حملة من اللوبي اليهودي الصهيوني في فرنسا، الذي يتهمه بأنه منحاز إلى العرب على حساب “إسرائيل”، ويأخذ عليه دعمه للعراق، وخصوصاً المشروع النووي.

كنت أعرف أن من يقود هذه الحملة منظمة أعلنت عن نفسها باسم “التجديد اليهودي”، وكان عليّ أن أنتظر سنة لأفهم، من خلال صحيفة “لوموند”، أن الهدف الآخر لهذه الحملة هو هدف يتجاوز ديستان ومواقفه، إلى مسألة مصيرية كانت موضع جدل بين يهود فرنسا أنفسهم: تحويل الطائفة اليهودية الفرنسية إلى لوبي انتخابي.

“في نهاية العام 1979، ظهرت منظَّمة تحمل اسم (التجديد اليهودي)، وذلك في فترة كان فاليري جيسكار ديستان يتابع فيها تطبيق سياسة الاستقلالية الوطنية إزاء “إسرائيل” والدول العربية. خرج (التجديد اليهودي) ليؤكّد من دون عقد الهوية اليهودية ليهود فرنسا، ويحدّد نفسه كحركة تتألف من الأجيال الشابة التي وضعت أمام أعينها هدفين أساسيين: تناقل التراث التاريخي والثقافي للشعب اليهودي، مع إعطاء هذا النقل بعداً سياسياً، وتقديم الدعم “لإسرائيل” التي تمثل مركز اليهودية وحركة تحرير الشعب اليهودي” (لوموند 24 أيلول/سبتمبر 1982).

بعد ذلك ببضع سنوات، كشفت صحيفة “الأخبار اليومية اليهودية” أن هنري هاجدنبرغ أسَّس “التجديد اليهودي” بناءً على نصيحة أفي بريمور، الذي كان مندوب المنظمة الصهيونية في فرنسا، والملحق الثقافي في السفارة الإسرائيلية، والمكلف من قبل تل أبيب لتشكيل لوبي من الطائفة اليهودية الفرنسية. وقد أصبح في ما بعد سفيراً لـ”إسرائيل” لدى المجموعة الأوروبية.

وقد لمع نجم المنظمة في انتخابات 1981 عبر محاربة فاليري جيسكار ديستان انتخابياً. “هذا كثير! الرئيس يبالغ”. تلك كانت الدعاية التي قادها “التجديد” وسقط جيسكار. “هل كانت العلاقة كلية بين السبب والنتيجة؟ من الصعب تأكيد ذلك، لكن المؤكد أن اليمين بات يخشى الصوت اليهودي، كما يخشى الطاعون” (“أكتوياليتي جويف”، 10 أيار/مايو 1989).

بين الاثنين تكشَّفت أمور كثيرة حول ديستان واللوبي اليهودي في العالم، وكان لي أن أصل إلى ما هو أدق عند عملي (تحريراً وترجمة) على كتاب ضخم ومهم لمجموعة باحثين فرنسيين صدر عن هيئة الموسوعة الفلسطينية في العام 2000 بعنوان “إرهابيو إسرائيل”، لأعرف أن هنري هاجدنبرغ هو ابن مهاجر بولوني يوصف بأنه ليكودي أصولي ومتطرف وأداة بيغن في فرنسا، وأن أخاه سيرج هو مدير “راديو ج” (ج = جويش)، ومؤسس راديو “شالوم” في العام 1981، وأن “التجديد اليهودي” المذكور ضمّ أسماء جاءت من صفوف اليسار وأقصى اليسار، من مثل برنار هنري ليفي الذي نعرف أدواره، وآخرها في “الربيع العربي”. ويرد في هذا الكتاب، حين تناول موضوع تجذير الطائفة اليهودية وتحويلها إلى لوبي انتخابي، ما يؤكد ما كتبته “أكتوياليتي جويف”:

“كان الهدف الرئيسي لمنظمة الدفاع اليهودي هو تنظيم الطائفة اليهودية في فرنسا ضمن فريق ضغط سياسي، وهو ما ترجم في العام 1980 – 1981 عبر حملة عنيفة ضد حكومة فاليري جيسكار ديستان، المتهمة بعدم كفاية تأييدها (لإسرائيل). ورغم أن (التجديد) يصنّف يميناً، فإنَّه لم يتردد في دعم وصول حكومة يسارية إلى السلطة. وقد استهل حملته مع بداية الحملة الرئاسية لديستان في العام 1981، بنشر إعلانات يمثل أحدها قنبلة ذرية تتفجَّر، وتحتها عبارة: “العراق، القنبلة، جيسكار هو المسؤول”، بينما يحمل الثاني صورة للرئيس وفي يده منظار، وتحت الصورة عبارة: “جيسكار ينظر إلى (إسرائيل) من الأردن”. وقد وزعت هذه الإعلانات على الصحافة يوم 8 نيسان/أبريل 1981، كما نشرت ملصقات منها بكثافة، ليتبعها في 3 أيار/مايو بيان يدين سياسات جيسكار ديستان “المعادية (لإسرائيل)”. بعد خمسة أيام، أي قبل الانتخابات بيومين، خصصت صحيفة “لوموند” افتتاحية صفحتها الأولى للسياسة الدولية لمقال طويل وعنيف لمناحيم بيغن ضد فاليري جيسكار ديستان. في 10 أيار/مايو، سقط ديستان، وانتخب فرانسوا ميتران رئيساً لفرنسا، لتكون زيارته الأولى الخارجية إلى (إسرائيل)، ولتتبجّح منظمة التجديد اليهودي بأنها أسقطت جيسكار، وبأنها قادرة على أن تحسم الانتخابات في أربعين دائرة انتخابية، عشرة منها في باريس”.

بعد اعتزاله، استقبل ديستان وفداً من الطلاب العرب كان معظمهم لبنانيين وسوريين وعراقيين، وأجرى معهم حواراً طويلاً – ترجمته ونشرته في جريدة “الدستور” في حينه – حلّل فيه ظروف العالم العربي، وقال لهم: “أنتم بلاد واحدة وقسّمت. لا تناقشوني في مسؤولية من قسّمها. لا تذكّروني بجورج بيكو. عليكم أنتم توحيدها إذا أردتم مكاناً لكم على خريطة العالم وأردتم وزناً لقضاياكم!”.

في سنيه الأخيرة، تحوّل جيسكار إلى الرواية: تم نشر خمس منها، آخرها بعنوان “بعيداً من ضجيج العالم”، وهي رواية رجل كان رئيساً لمجلس الشيوخ وانتهى مهاجراً إلى أفريقيا! قال عنها: “عندما أعدت قراءة روايتي، أحسست أنني كتبتها لنفسي، وهذا ما ينطبق على معظم الكتاب. الأدب يسمح لك بخلق شخصيات واختراع أحداث ووضعيات نستعيرها من الواقع، من الذكريات، ومن المراقبة. إنه نوع من الكتابة يسمح لك بالنسيان، بإمكانية خلق عالم مختلف”. إنه طعم المرارة العميق. مرارة عشتها مع جان بيير شفينمان وأنا أترجم “فكرة معينة عن الجمهورية تقودني إلى…” العام 1991، ومع دومينيك دو فيللوبان وأنا أترجم “صرخة الغارغوي” في العام 2003. الأول اشتراكي والآخر ديغولي، لكنهما يشتركان وأشترك معهما بحلم واحد: الاستقلالية… استقلالية كان ديستان يرى الاتحاد الأوروبي وسيلتها في وجه قوى عظمى. وعليه، نصحنا بالاتحاد.

لذلك، كتب في يومياته: “أبهرني ديغول. أحببت شميدت. شيراك لم يشغل تفكيري”….

اليوم، رحل فاليري جيسكار ديستان… الرجل ليس ملاكاً، وليس المقاتل عنا، ليس أنطون سعادة ولا عبد الناصر، لكنّه تحريك سكين في الجرح: قبل أربعين سنة، جاء يستصرخ نجدة العرب، عرب الخليج، ضد “إسرائيل”. وقبل ثلاثين سنة، نصح الطلاب العرب بالوحدة وإلغاء “سايكس بيكو”. هل كان حالماً أو مخدوعاً أو موهوماً بعروبة بعض العرب؟ يا إلهي، كم كبرنا وكم تضاءلت أوهامنا!

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
حياة الحويك عطية

كاتبة وباحثة، خبيرة في جيوبوليتيك الميديا