من هنا وهناك

رمضان يختلف عما قبلة – الدكتور عادل عامر

 

رمضان يختلف عما قبلة – الدكتور عادل عامر

من بعد إن كثيرون منا ينعمون بأحضان الوطن الذي نحسبهُ دفئاً وأمناً لا تدخله غربةً ولا وحشة، ولكن ورغم ذلك تنسج تلك العنكبوت التي تُدعى الغربة خيوطها بداخلنا فتأتى على اخضرار مشاعرنا وتحصد أمننا في بواكير تفتحه فهي ليست مُرتبطة أبداً بالتسفار والهجرة والرحيل عن أرض الوطن بل هي جرثومة إحساسُ مُستبد تًصيبنا وتقتات على هناءتنا وراحة نفوسنا الذين يسيئون فهم الدين أخطر عليه من الذين ينحرفون عن تعاليمه، أولئك يعصون الله وينفِّرون الناس من الدين وهم يظنون أنهم يتقرَّبون إلى الله، وهؤلاء يتبعون شهواتهم وهم يعلمون أنهم يعصون الله ثم ما يلبثون أن يتوبوا إليه ويستغفروه. فلم نشعر بحلاوة رمضان في ظل غربة الأخوان عنا فشعرنا إننا غرباء عن بعضنا من بعد تصنيفنا وألان عاد ألينا رمضان بوسنة وسهرة وناسه وصحبته لا شك؛ لأن هذا الجسد إذا ما دبَّت فيه الروح يختلف تمامًا عنه قبل أن تدب فيه الروح، أننا روح جديدة تسري في جسد هذه الأمة لتحييَها بالقرآن؛ وإن كان كل هذا في القرآن فما بالكم برمضان؟!

فبالتأكيد رمضان يختلف كثيرًا بدون الأخوان هي التي دبَّت فيَّ الروح لكي أتعامل مع القرآن والعبادات وأفهم رسالتي في هذه الدنيا، ثم فتحت الطريق بيني وبين المجتمع لكي نفيض عليه مما أفاء الله علينا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن المؤمن الذي لا أثر له في مجتمعه كالتمرة؛ لا ريح لها. رغم أن هذه الابتلاءات كلها فوق رءوسنا لكني تذكرت أنه لا يزال لديَّ قلب ممتلئ بالإيمان، وعندي بقية النعم لم يأخذها الله مني؛ فيجب عليَّ في البداية أن أشكر الله على بقية النعم، فردَّدت الدعاء مرةً أخرى وأنا موقن به ثم أكملت الدعاء:

“فأتم عليَّ نعمتك وعافيتك وسَتْرك في الدنيا والآخرة”..

هذا ما نريده كلنا، هذا الرمضان بالذات كان عندي فيه انشغال شديد وحُرمت من أن أفطر معهم مرات عديدة، لكن كنت أُشعرهم أن الذي منعني عنهم هو لله، وأنهم يأخذون مثل أجري دون أن يُنقَص من أجري أو أجورهم شيء؛ ولهذا نتذكر قول أمنا هاجر رضي الله عنها عندما ذهب زوجها إبراهيم- مع الفارق في التشبيه طبعًا؛ لأننا فقط نتأسَّى بخليل الله- عندما تركها هي وابنها فقالت له: “آلله أمرك بهذا؟”،

أي أنها كانت تريد أن تتأكد إذا كنت ذاهبًا لعمل ابتغاء مرضات الله وعندما تأكدت قالت له:

“اذهب؛ فإن الله لن يضيعنا”؛ لأن انشغالك بقضاء حوائج المسلمين والاهتمام بهمِّ الدعوة والعمل لله سوف ينعكس علينا بالطبع بإذن الله، لن يضيعنا ببركة سعينا في سبيل الله، وقد كان وسيظل بئر زمزم شاهدًا إلى يوم القيامة على أن هذه كانت بركة زوجة رضيت أن يذهب زوجها ويتركها وحدها وطفلها الرضيع؛ لأنه ما دام ذهب لله فإن رب العزة لن يترك أولياءه ولن يضيعهم ورزقهم بماء زمزم طعامًا وشرابًا وعلاجًا وأمنًا وأمانًا. الناس تعوَّدوا في نهاية كل عمل أن يصيبهم الملل أو السأم من تكرار العمل ورتابته، أما صيام شهر رمضان فالله عز وجل قد خبَّأ في العشر الأواخر منه جائزة كبرى وعظيمة تحفِّز الهمم وتقوِّي العزائم كي لا تفتر في نهاية شهر رمضان؛ لأن الأعمال بخواتيمها، ونسأل الله أن يرزقنا حسن الخاتمة، وأن يرزقنا الأجر بأحسن ما كنا نعمل، وأن يجعل هذا الشهر وقرآن ربنا شاهدَين بالحسنات لا السيئات؛ ففي العشر الأواخر تكتمل خلاصة هذا الشهر الكريم ووداعه بخلوة مع الله عز وجل بالاعتكاف وإخراج زكاة الفطر تطهيرًا للنفس؛ ففي هذه الأوقات الكريمة تُخبَّأ ليلة القدر.

وعجيب أن الله عز وجل لا يحدد لنا هذه الليلة، ورسول الله ينبئنا بالسبب؛ فإن الأمر كان في أيدينا ونحن الذين حرمنا أنفسنا منه بخلاف بين اثنين من المسلمين. خرج علينا الرسول ليخبرنا بموعد ليلة القدر تحديدًا فوجد رجلين من المسلمين يتلاحمان، فيقول الرسول “فأنسيتها”؛ فإن كنا الآن نتسابق للحصول على جائزة ليلة القدر فيجب علينا ألا ننسى السبب الذي لم نعرف بسببه موعد ليلة القدر، وهو خلاف بين اثنين من المسلمين، فما بالنا بالخلاف بين المسلمين ودول الإسلام؟!..

خلاف قد شمل العالم الإسلامي الذي جاءت شرائع الإسلام لتوحده، ونحن حالنا هذا حال الخلاف والصراع والشقاق. نَكِلُ أمرهم إلى الله عز وجل، ونحن متأكدون أن نور الله لا يطفئه بشر مهما حاول؛ فبهذا التعبير القرآني الكبير فإن الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم يستحقون الشفقة؛ لأن نور الله لا يطفئه بشر؛ فمن يبحث عن الله لن يطفئ نورَه أحد، أما إن كنت تبحث عن نفسك فنور الله لن يُطفَأ مهما بلغت الأسباب؛ ولهذا أنبه على أن ما بعد رمضان فيه كل ما كان في رمضان؛ فهناك الصيام والصدقة والاعتكاف والسعي في مصالح الناس؛ وبهذا كل ما كان في رمضان من قرآن وصيام وقيام الليل يظل بعد رمضان. إذن ما كان لله في رمضان من عمل يستمر بعد رمضان إن كان لله، إما إن كان لغير الله فسينقطع وينفصل؛ لذلك يقول رسولنا الكريم:

“وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا” بعد رمضان لأن الشياطين تنطلق بعد رمضان ونجد أناسَا ينطلقون كالشياطين وكأنهم كان مسلسلين في رمضان. إن شهر رمضان المبارك هو شهر بناء الذات وتغيير النفس، وهذا الأمر مطلوب من الجميع، يستوي في ذلك أهل العلم وغيرهم، ومهما يبلغ المرء درجة في هذا الطريق فثمة مجال للرقي أيضاً. يقول النبي صلّى الله عليه وآله: «فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم».

وهذا معناه لو أن أحداً أهمل بناء نفسه في هذا الشهر المبارك وقصّر حتى مرّ عليه ولم ينل المغفرة الإلهية التي هي في هذا الشهر أوسع وأسرع وأعظم منها في سائر الشهور، فإنه هو الشقي حقاً. هذا هو المستفاد من الروايات، لأن بناء الذات واجب عيني في حد أداء الواجبات وترك المحرمات.

فعلى الإنسان أن يحاول في هذا الشهر المبارك أن يعمل حتى يبلغ مرحلة يعتقد فيها أنه تغيّر فعلاً وأنه أصبح أحسن وأفضل وأن فرقاً حصل عنده. ولا شك أن بلوغ هذه المرحلة يحتاج إلى عمل كثير ومواظبة؛ فللشهوات أثرها السلبي كما للشياطين آثارها السلبية، وكذا أصدقاء السوء والمشكلات، ولكن إذا اقتنع الإنسان بإمكانية الوصول وتوكل على الله تعالى، فإن هذا الاعتقاد بنفسه سيوصله، ومن مفاتيحه السهلة محاسبة النفس؛ بأن يكون الشخص ملتزماً بتحديد أوقات طيلة اليوم يراجع فيها نفسه وما عمله، وأن يكون الوقت مناسباً، فلا يكون عند الجوع ولا الامتلاء ولا انشغال الذهن بأمر آخر يحول دون التأمل والتفكير جيداً بل يكون في وقت يمكنه الاختلاء بنفسه ومراجعة ما صدر منها.

يقال: إن بعض الأفاضل طلب من أستاذه العالم أن ينصحه نصيحة تنفعه طيلة عمره، وكان على وشك الفراق منه، فقال له العالم: خصص لنفسك كل يوم وقتاً تحاسب فيه نفسك وإن قلّ. يقول ذلك الفاضل: عملت بنصيحة أستاذي العالم حتى أصبحت محاسبة النفس حاضرة في ذهني ما دمت مستيقظاً.

وهذا يدل على ارتكاز الحالة في ذهنه حتى لكأنها صارت ملكة عنده. أرأيت نفسك إذا كنت تترقب وقوع أمر محبوب لك، كتعيينك في منصب مثلاً، فإن هذا الأمر لا يغيب عن ارتكازك حتى تنام، يشير إلى هذا الارتكاز عمله وفاعليته، فإنك تحاول أن لا تعمل خلال هذه المدة كل ما من شأنه أن يحول دون تحقق ذلك الأمر المحبوب، وتنجح في ذلك لأن القضية حاضرة في ذهنك مادمت مستيقظاً، ويعود الارتكاز بمجرد استيقاظك من النوم مرة أخرى، والدليل على ذلك عودته إلى التأثير في تصرفاتك وعدم القيام بما يتعارض معه.

 

* كاتب وباحث مصري

كاتب المقال
دكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام

ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية

 عضو  والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية

اترك تعليقاً