الأخبارالأرشيفثقافة وفن

زيارة ضريح الأستاذ أحمد الشقيري ليست حنينا .. ولكنها عهد – رشاد أبوشاور

زيارة ضريح الأستاذ أحمد الشقيري
ليست حنينا .. ولكنها عهد

رشاد أبوشاور

 

ليس حنينا إلى ما مضى، ولكنه وفاء لما هو باق.. وسيبقى: الميثاق – العهد مع فلسطين.

الأستاذ أحمد الشقيري مسيرة حياة خصبة لا تلخص بكلمات قليلة، وبصفحات مختزلة، فهو تاريخ يتداخل بتاريخ فلسطين منذ مطلع القرن العشرين.. وإلى حين رحيله.

المحامي الشاب سخّر معرفته وقدراته في الدفاع عن ( مجاهدي) فلسطين في وجه ( القضاء) البريطاني الانتدابي الاحتلالي الجائر، وعرف بوطنيته مبكرا.. وفي صلب الحركة الوطنية الفلسطينية نما وحضر.. وظل فاعلاً، ولم ينكسر بعد النكبة.

حياته – لمن يوّد التعرف على جوانبها سيعرفها إن بحث – مدهشة، صعبة الفصول والتقلبات، ولكنه عنيد تخطّى ظروف حياته القاسية وبرز حتى بات شخصية عالمية في هيئة الأمم.. وتخلّى عن منصبه كممثل للسعودية عندما رفض رفع دعوى قضائية ضد الجمهورية العربية المتحدة بتهمة التدخل في( اليمن)..وكانت مصر الناصرية قد بادرت لتقديم العون والدعم عسكريا لثورة اليمن بقيادة عبد السلال.. ومن بعد بدأت رحلته الشامخة ببناء منظمة التحرير الفلسطينية ..ومن لاشيء!

ولد الأستاذ أحمد الشقيري في ( تبنين) لبنان عام 1908 و..عاش حتى يوم 25 شباط 1980.

* * * 
أخبرني صديقي ( أبوالناجي)- تيمنا باسم ناجي العلي – أن بعض الأخوة سيتوجهون لزيارة ضريح الأستاذ الشقيري، وأنهم يريدونك معهم لأنهم يعرفون تقديرك له، وقرأوا كتاباتك عنه.. وأيضا يعرفون أنك تزور الضريح دائما. 

قلت له: منذ أيام وأنا وصديقي مصطفى نتهيأ لزيارة ضريح الأستاذ الشقيري.. وما تخبرني به يسرني.. وسيسر الأستاذ الشقيري، فهو عصي على النسيان.. بما قدمه لشعبنا وقضيتنا.

صبيحة يوم 26 شباط الأربعاء انطلق بنا ( أبوالناجي) بسيارته من أمام بيته ، غير البعيد عن بيتي حيث أقيم في منطقة ( طارق)..وكنا ثلاثة: 

أبوالناجي، مصطفى.. وأنا.

طقس اليوم ربيعي منعش شمسه اللطيفة اشتقنا لها في هذا الشتاء القاسي الثقيل الطويل…

نمر بالجامعة، و.. طريق ( صويلح) ..نسلّم على الأصدقاء الذين كانوا ينتظروننا.. ثم نمضي.. وكان هناك من سبقنا على الطريق، فنمر بمحاذاة مدينة السلط، وعلى الطريق المتعرج الذي كان خطرا جدا قبل توسعته – طريق العارضة – نطّل على سهول الأغوار الفلسطينية.. وتلتقي عيوننا بجبال أريحا.. نابلس ..القدس .. فتتأوه القلوب ويسود الصمت.. الصمت الطافح بالحزن والقهر.

على يمين الطريق جبال وتلال يغطيها الخضار المبشّر بربيع جميل ..وبيوت جميلة بهية تستقر على القمم والسفوح، ونحن ننقل عيوننا بين أغوار الأردن و..أغوار فلسطين التي يتهيأ ( نتنياهو) للسطو عليها بدعم أمريكي ترامبي.. وهكذا تتواصل فصول ( سلام الشجعان) !!

على طريق الأغور الشمالي ينعطف ( أبوالناجي) بالسيارة..ويواصل.

هذا الطريق سلكته مع صديقي مصطفى، ومع أصدقاء آخرين، في زياراتنا لضريح الأستاذ الشقيري قرب مقام الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجرّاح..وكان قد أوصى أن يدفن هنا، في هذا المكان الطاهر بما يختزن من معان وقيم.

من هنا انطلقت جيوش الفتح وهزمت جيوش الرومان، وحررت بلاد العرب، وبوّأت نصرها المظفّر بمعركة ( اليرموك) ..ومن هنا، وعلى بعد ثلاثة كيلومترات تبدأ أرض فلسطين..وكأن الأستاذ الشقيري يقول: من هنا انطلقوا لتحرير فلسطين وطهروها من الدنس الصهيوني..من هنا..من أرض الرباط..أرض الصحابة الشهداء – وهذه المنطقة من أغوار الأردن، شرقي نهر الأردن تضم أجساد صحابة طاهرين استشهدوا في الميدان- وكأنه بهذا يرّد على بن غوريون الذي أوصى بأن يدفن في مستوطنة ( سيدي بوكر) في صحراء النقب، وكأنما يوص بمزيد من الإستيطان والتوسع…

الأستاذ الشقيري قارئ التاريخ، والعارف جيدا بنوايا وأهداف الحركة الصهيونية..كان ، حتى في موته يرد على أفكار ونوايا قادة الصهاينة ومؤسسي دولة الاحتلال.

في المقبرة المتواضعة، وعلى مقربة من جدار المسجد والضريح قبر الأستاذ الشقيري..القبر المتواضع:

الفاتحة

ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين

احمد أسعد الشقيري

ولد في تبنين لبنان 1908

 

توفي في عمان 1980

 

هذا ما كتب على الشاهدة..لا تمجيد، ولا سرد لسيرة حياته الشامخة، ولا تبجيل وتفخيم…

التقينا، وكان جميلاً أننا التقينا بالمناضل غازي عبد القادر الحسيني ابن القائد الفلسطيني الشهيد عبد القادر الحسيني بطل وشهيد القسطل. أيحتاج عبد القادر الحسيني للتعريف به؟ إنه واحد من أعظم من أنجبتهم أمتنا، وهو فخر فلسطين وبطلها…

قرأنا الفاتحة، وشربنا القهوة السادة الفوّاحة، والتففنا حول الضريح تحت شجرة الزيتون التي تتدلّى غصونها على الضريح وكأنها تباركه..وضريح الأستاذ الشقيري يليق به أن تظلله شجرة زيتون مباركة.

استذكرنا فصولا من حياته، وتوقفنا عند الميثاق القومي الذي كتبه بخط يده وقدمه للمجلس الوطني الذي عقد في مدينة القدس…

أكنا بحاجة للتساؤل: بعد رحلة التيه من 13 أيلول في حدائق البيت الأبيض عام 1993 والتوقيع على بنود ( أوسلو) ..ومسيرة الفشل..والتهام الكيان الصهيوني للمزيد من الأرض الفلسطينية، والانحياز الأمريكي السافر للكيان الاحتلالي.. و .. و.. هل بقي طريق وخيار سوى العودة للميثاق القومي الفلسطيني.. الميثاق – العهد مع فلسطين، الميثاق الذي يضع القضية الفلسطينية في بعدها العربي، ولا يدير الظهر لجماهير الأمة، ويركض وراء أنظمة تابعة متواطئة على فلسطين منذ ندائها لعرب فلسطين أن يوقفوا ثورتهم الكبرى 1936 ثقة بالصديقة بريطانيا؟!

* * *

أمام الحضور استذكرت لقائي بالأستاذ الشقيري في فندق بغداد..وكنت عائدا من جمهورية اليمن الديمقراطي، بعد المشاركة في مؤتمر الحزب الاشتراكي عام 1978، وكم كانت سعادتي برؤيته المفاجئة.

ضرب بقبضته على صدره وقال: أنا عائد من حصّة الرياضة.. وإذ رأى تجمع بعض الشباب الفلسطينيين حوله واستأنس بهم أضاف: لست أقول سوى قولة سيدنا خالد.( هو يذكّر بواقعة عزل الخليفة عمر للصحابي القائد خالد بن الوليد و.. تسليم القيادة للصحابي أبي عبيدة، وقولة سيدنا خالد عندما علم بالأمر، بعد معركة اليرموك: أنا لا أقاتل في سبيل عمر.. ولكنني أقاتل في سبيل ربّ عمر).

وضع يده على كتفي، وخاطب من تجمعوا: منظمة التحرير الفلسطينية باتت بلا مقود ولا مكابح، وهي تهوي إلى القاع.. أنقذوها قبل فوات الأوان، فهي لكم.. فهي لكم.

اكتسى وجهه بشيء من الحزن.. ثم مضى وتركنا- ولسان حاله يقول: هذه وصيتي لكم.. لجيلكم- ولبثت واقفا في حالة غّم وذهول.

* * *

لم ننقذ المنظمة التي بنيتها، ايها المؤسس الباني- مع رجال أفذاذ اخترتهم ليكونوا مؤسسين لبناء راسخ، أستذكر منهم: بهجت أبوغربية، الدكتور حيدر عبد الشافي، شفيق الحوت، أبناء صايغ فايز ويوسف وأنيس، وكفاءات ثقافية وفكرية ووطنية مشهود لها. كنت القائد الباني المؤسس الذي يمضي في رحلة البناء مع شركاء أقوياء متميزين و..ليس أتباعا وأدوات.

زيارتنا لضريحك هي وعد وعهد ووفاء.. وليست من قبيل الحنين لزمن مضى، فالميثاق – العهد مع فلسطين يتجدد الآن.. في الوقت الذي تشتد فيها المؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية.. وأنا واثق أن ما تركته لنا، أنت والرجال الأوفياء الكبار سيتجدد العهد معه لنستأنف المسيرة إلى فلسطين العربية الواحدة من نهرها لبحرها.