عربي وعالمي

شبيب وعيتاني و”محرقة” التجربة الدنماركية – بسام القنطار

SOUTH PACIFIC’S HIDDEN GEM

تحفل قرارات مجلس الوزراء المتعلقة بإدارة النفايات المنزلية الصلبة بالخطط المتناقضة، والمواعيد العرقوبية المضروبة لتنفيذ المقررات التي وافق عليها مجلس الوزراء بإجماع اعضائه، ولكنها لم تسلك طريقها الى التنفيذ. واحد من أبرز هذه القرارات صدر بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) 2015، وتضمن اعترافاً حكومياً غير مسبوق بحق البلديات أو اتحادات البلديات، بأن تدير معالجة نفاياتها على مسؤوليتها، شرط ان توافق لجنة فنية مركزية برئاسة وزير الداخلية والبلديات، وعضوية الوزارات المعنية وهيئات دولية ومنظمات المجتمع المدني، على اقتراح البلدية بمعالجة وإدارة النفايات ضمن نطاقها. أقر تشكيل اللجنة الفنية المركزية، بناء على القرار الصادر بتاريخ 21 كانون الأول (ديسمبر) 2015، ونص على صلاحيات هذه اللجنة لجهة مؤازرة وزارة الداخلية في الاشراف على خطة النفايات، على ان تكون مهامها إعداد برنامج تدريبي في الادارة المتكاملة للنفايات الصلبة خلال شهرين، إعداد مشاريع القوانين والمراسيم، التعميم الفوري للإرشادات المتعلقة بالفرز من المصدر، إعداد مسودات دفاتر شروط ومناقشتها مع البلديات، مؤازرة البلديات وتقديم العروض، واي مهام أخرى يكلفها به وزير الداخلية. هل يمكن اعتبار قرار بلدية بيروت الاخير، بالانسحاب من المناقصات المركزية التي يتولاها “مجلس الانماء والاعمار”، تنفيذاً لقرارات مجلس الوزراء المذكورة؟ وهل تم هذا الإجراء ضمن السياق الطبيعي المرسوم في الخطة اللامركزية التي اقرها مجلس الوزراء في أيلول (سبتمبر) العام الماضي، بناء على اقتراح لجنة فنية برئاسة وزير الزراعة اكرم شهيب؟ والاهم هل تم اتخاذ هذه القرار بناء على توصية اللجنة الفنية المركزية؟ قطعاً لا!

فتش عن نهاد المشنوق

تُجمع مصادر متابعة لهذا الملف، ان الوزير نهاد المشنوق، هو “الاب الروحي” الذي سوق لهذا القرار، ودفع مجلس بلدية بيروت المنتخب برئاسة جمال عيتاني باتجاهه. صحيح انه يملك صلاحية، كوزير وصاية، متابعة ملف النفايات مع البلديات المعنية، لكن قرار مجلس الوزراء واضح لجهة اعطاء اللجنة الفنية المركزية التي يرأسها وزير الداخلية صلاحيات واسعة لدعم المجالس البلدية، وتوجيهها لاتخاذ الخيارات الصائبة في ادارة نفاياتها، ان لجهة الاطار القانوني، والجدوى الاقتصادية، والادارة المتكاملة، وتقنيات المعالجة، وان لجهة إعداد دفاتر الشروط، وشفافية اجراء المناقصات. والاهم الدفع باتجاه التخفيف في انتاج النفايات والفرز من المصدر قبل المفاضلة بين تقنيات المعالجة المقترحة (التسبيخ، الهضم اللاهوائي، الحرق والتغويز …الخ). دفع اكثر من مرجع حكومي باتجاه تشكيل اللجنة الفنية المركزية، وتحمس لها رئيس الحكومة تمام سلام، وتمت مخاطبة مختلف الوزارات المعنية لتسمية ممثيلها في هذه اللجنة (الداخلية، البيئة، المالية)، وبالفعل ارسلت جميع هذه الوزارات كتبا بتسمية موظفين لعضوية هذه اللجنة، كما رشح كل من برنامج الامم المتحدة الانمائي ومجلس الانماء والاعمار وجمعية “لا فساد” ممثلين عنهم في هذه اللجنة. لكن الوزير المشنوق، لم يبد أي حماسة لاصدار مرسوم بتشكيل هذه اللجنة وتسمية اعضائها، وعند مراجعته بهذه المسألة، كان جوابه “ما حدا يورطني بهل المسألة”!

قرار مخالف

إزاء هذه الوقائع، يمكن اعتبار القرار رقم 375 الصادر عن بلدية بيروت بتاريخ 15 حزيران (يونيو) 2016، مخالفاً لجميع القرارات التي سبق ذكرها، اذ انه لم يستند الى توصية صادرة عن اللجنة الفنية المركزية. وفي الوقائع تبين ان المجلس البلدي اجتمع بتاريخ 15 حزيران (يونيو) 2016، وتمنى بإجماع اعضائه، على وزير الداخلية والبلديات الاجازة لبلدية بيروت تلزيم اعمال تحويل النفايات المنزلية في مدينة بيروت الى طاقة عبر تقنية التفكك الحراري، وفقاً للاصول. وعطفاً على قرار بلدية بيروت رقم 375، قرر وزير الداخلية الموافقة على مضمونه، وإحالته إلى الامانة العامة لمجلس الوزراء التي ادرجته ضمن البند 24 من جدول اعمال جلسة مجلس الوزراء التي تعقد غداً الخميس في السرايا الحكومية. واقترح المشنوق في طلب الاحالة الى مجلس الوزراء، الموافقة على اقتراح بلدية بيروت لجهة تعديل القرار رقم 46 الصادر عن مجلس الوزراء عام 2014، عبر السماح للبلدية بإجراء هذه المناقصة بشكل مستقل، وبمعزل عن التكليف المعطى لمجلس الانماء والاعمار. وكان مجلس الوزراء بموجب البند الخامس من القرار رقم 46، قد وافق على طلب “مجلس الانماء والاعمار” الطلب الى الاستشاري “رامبول” متابعة المرحلة الثانية من عقده، والمتعلقة بإعداد دفاتر التلزيم لمناقصة التفكك الحراري، على ان يبت مجلس الوزراء امر السير بها بعد انجازها. ومعلوم ان القرار رقم 46 استند الى ما يسمى “الخطة الوطنية الشاملة” التي اعتمدت تقنية التفكيك الحراري للنفايات في المدن الكبرى، واقرت في العام 2010، عبر دمج هذه التقنية مع الخطة الاساسية لعام 2006 والتي تعتمد تقنية طمر النفايات، لكن هذه الخطة لم تبصر النور الى اليوم. فهل ينجح مجلس بلدية بيروت في اطلاق مناقصة التفكك الحراري (المحارق) التي عجزت عن اطلاقها ثلاث حكومات متعاقبة؟ والسؤال الاهم: لماذا الآن؟ واين دور “مجلس الانماء والاعمار” في كل ما يجري؟ خصوصاً ان الاخير مكلف ايضاً باطلاق مناقصة المحارق، وكان ينوي فعلاً اطلاقها مطلع تموز (يوليو) الجاري، قبل ان يقرر مجلس الوزراء تعطيل هذه المناقصة، وإحالة الملف الى لجنة وزراية شكلت في أواخر نيسان (أبريل) الماضي، ولم تجتمع منذ تشكيلها! لم يعرقل قرار بلدية بيروت اطلاق مناقصة المحارق المركزية فحسب، بل عرقل ايضاً مناقصات المرحلة الانتقالية التي اقرت في جلسة 12 آذار (مارس) الماضي، والمتعلقة بالكنس والجمع والنقل والمعالجة والطمر. فقد كان من المقرر أمس ان يُعلن عن أسماء الشركات التي تقدمت الى مناقصة جمع وكنس النفايات في اقضية جبل لبنان، بعد ان انسحبت بيروت رسمياً من هذه المناقصة، لكن “مجلس الانماء والاعمار” قرر مجدداً، وبذريعة ان المتعهدين قد “اربكوا” من قرار انسحاب بلدية بيروت من المناقصة، تأجيل مهل تقديم العروض الى الساعة 12 ظهراً من يوم الثلاثاء 19 تموز (يوليو) 2016، اي بتأجيل شهر ونصف الشهر عن الموعد المحدد سابقاً! ولدى مراجعة Greenarea.me محافظ بيروت القاضي زياد شبيب حول هذا الموضوع، أكد ان المجلس البلدي لم يتخذ قراراً بعد لجهة موعد اطلاق مناقصة الكنس والجمع لمدينة بيروت، كما امتنع المحافظ عن الاجابة عن الاسئلة المتعلقة بمناقصة المعالجة وما اذا كانت البلدية تنوي ايضاً الخروج منها ضمن المرحلة الانتقالية، ام انها ستبقى ضمن عقود المعالجة والطمر المنوي تلزيمها الى حين اطلاق مناقصة التفكك الحراري ضمن نطاق بيروت الادارية!

التجربة الدنماركية

في المقابل، أعلن القاضي شبيب ورئيس المجلس البلدي المهندس جمال عيتاني، أمس، عن استقبال وفد دانماركي، ضمّ سفير الدانمارك في لبنان Svend weaver، المدير التنفيذي لبلدية كوبنهاغن Mikkel hemmingsen، مديرة الشؤون المالية والتنمية الخضراء والأعمال في بلدية كوبنهاغن Annemarie Munk Riis، المديرة التنفيذية لشركة “أي أر سي” Ulla Röttger المسؤولة عن تنفيذ مشروع تحويل النفايات الى طاقة في كوبنهاغن، وذلك في حضور أعضاء المجلس البلدي هاكوب ترزيان، غبريال فرنيني، انطوان سرياني وماتيلدا الخوري. وقدم الوفد عرضاً متكاملاً ومفصلاً عن التجربة الدانماركية في مجال تحويل النفايات الى طاقة من خلال المصنع الذي أنشىء عام 1970، وجرى اعادة تطويره وتحديثه في العام 2013، ويؤمل أن ينتهي العمل به بحلول العام 2017 في كوبنهاغن. لا يمكن عزل هذا الخبر، الذي تعاطى معه الاعلام بوصفه خبراً بروتوكولياً عادياً، عن طريقة ادارة مختلف الادارات الرسمية، بما فيها بلدية بيروت، ملف النفايات. لا بل يمكن القول ان الحماسة الدانماركية لعرض التجارب حول ادارة النفايات يعد تسويقاً تجارياً فاقعاً لشركات دانماركية تنوي الدخول على الخط من باب التلزيم بالتراضي، لا من باب المناقصات الشفافة والعلنية، وإلا فان الشركة الدنماركية “أي أر سي” كان يفترض بها ان تحضر الى لبنان بعد ان تقدم أوراق التأهيل المسبق الى “مجلس الانماء والاعمار”، لا ان تأتي برفقة سفير بلادها لتسويق التقنيات التي، ويا للمفارقة، قد وضعت شروطها الفنية، شركة “رابمول” الدانماركية ايضاً على قاعدة المثل الشعبي “حفر وتنزيل”. دون ان ننسى التنويه ان “رامبول” لديه ارتباطات محلية ليس بعيدا عن فلك الفريق السياسي الذي يسيطر على المجلس البلدي ويتحكم بقراراته.

رامبول ومناقصة المحارق المستحيلة

لماذا يمكن الاستنتاج سلفاً ان قرار بلدية بيروت بانشاء محرقة للنفايات محكوم بالفشل؟ في العام 2011 تعاقدت شركة “رامبول” الدانماركية مع “مجلس الانماء والاعمار”، لاجراء دراسة جديدة عن وضع النفايات في لبنان، ومراجعة الدراسات المنفذة سابقاً، وما أكثرها! واقتراح مواقع لزوم انشاء محارق، وتحديد الكلفة العائدة للمشروع. خلص التقرير الى ان عملية معالجة النفايات يجب ان تكون مسؤولية مركزية، ويتم تمويلها من الموازنة العامة للدولة، ويتبين وفق الخريطة المرفقة بالتقرير اقتراح انشاء اربع محارق للنفايات على طول الساحل اللبناني، ثلاثة منها قرب معامل الكهرباء (دير عمار في الشمال، الجية في الوسط، والزهراني في الجنوب)، اما المحرقة الرابعة فلقد اقترحت الخطة ان تكون في منطقة الكرنتينا. والسؤال: هل ستلتزم بلدية بيروت بإنشاء المحرقة الموعودة في منطقة الكرنيتنا؟ خصوصاً ان الاتجاه السائد لدى المجلس البلدي السابق والذي تبناه المجلس الحالي هو بإفراغ منطقة الكرنيتنا من المنشآت الملوثة، والجميع يتذكر صفقة شراء عقار في الشويفات لنقل المسلخ اليها. فهل ستستقبل بيروت المحرقة بعد ان طردت المسلخ؟! ومعلوم ايضاً ان رئيس “مجلس الانماء والاعمار” قد طلب رسمياً من مجلس الوزراء تحديد موقع للمحرقة كي يطلق مناقصة المحارق المركزية، فصمت المجلس عن هذا الطلب، واحال الملف الى لجنة وزاري ، اي بمعنى آخر تم دفنه في مهده! البند الأغرب في التقرير الدانماركي يتعلق بتحديد مطامر للرماد المتطاير الناتج عن حرق النفايات، اي ما نسبته 3 بالمئة من اجمالي النفايات تصنف موادا سامة ينبغي معالجتها وفق طرق خاصة قبل طمرها. وحددت الخطة مطمر للرماد السام الناتج عن محرقة الكرنتينا في مطمر حبالين – جبيل، ومعلوم ان هذا الاقتراح يستحيل تنفيذه. في المقابل تؤكد مصادر متابعة ان بلدية بيروت وبناءاً على اقتراح برنامج الامم المتحدة الانمائي قد استعاض عن خيار طمر الرماد في مطمر صحي، عن طريق صبه في مكعبات باطون وتخزينه فوق الارض في عقار تملكه البلدية، ويصلح للتخزين لفترة تمتد لاكثر من 25 عاماً! لكن اي هو هذا العقار ؟ وهل اعضاء المجلس البلدي على علم بموقعه، واذا كان في النطاق العقاري ذات الغالبية المسيحية؟ هل سيوافق عليه الاعضاء المسيحيون في المجلس البلدي؟ تبلغ كلفة انشاء اربع محارق 950 مليون دولار، بحسب التقرير الدانماركي، في حين تبلغ كلفة تشغيل كافة الانشاءات 114 مليون دولار سنوياً. وتم احتساب كلفة التشغيل والصيانة للمحارق بعد حسم مردود انتاج الطاقة الكهربائية البالغة 50 دولاراً للطن الواحد، مع الاشارة الى ان قدرة كل معمل تصل الى 48 ميغاواط في اقصى حد، بشرط حرق جميع المواد القابلة لاعادة التدوير، وتسبيخ ما لا يقل عن 20 بالمئة من المواد العضوية للحفاظ على القيمة الحرارية للمحرقة. الامر الذي ينسف مبدأ فرز النفايات من المصدر واعادة تدويرها. واذا احتسبنا الكلفة المقدرة لانشاء وتشغيل محرقة واحدة من قبل بلدية بيروت تصبح الكلفة على اقل تقدير 350 مليون دولار اميركي. وفي حين يروج اعضاء في المجلس البلدي ان صندوق البلدية قادر على تحمل هذه الكلفة، تؤكد مصادر متابعة ان شركات التدقيق المالي قد تفاجئ المجلس البلدي برقم اقل بكثير مما يعتقد انه لا يزال متوفراً في حسابات بلدية بيروت في المصرف المركزي، هذا دون احتساب الديون المترتبة على البلدية عن اعمال النظافة طيلة الفترة السابقة والتي لا تقل عن 300 مليون دولار اميركي! نورد هذه الوقائع لنبرهن ان المجلس البلدي الذي اتخذ قراراً برتكيب محرقة دانماركية بناء على اندفاعة الوزير المشنوق، لم يتخذ قراراً مدروساً من النواحي الفنية والمالية والتقنية، والاهم انه لم يراع في حساباته الكلفة الصحية والبيئية في ما لو تم تركيب محرقة باتت خارج الخدمة في أوروبا ويجري تسويقها في منطقتنا، ضمن ما اصطلح على تسميته “محارق الموت” الملوثة بالديوكسين وغيرها من الملوثات التي تشكل تهديداً خطيراً على الصحة العامة، خصوصاً اذا أسيئ ادارتها واهملت اعمال الصيانة في الفلاتر الملحقة بها والتي تعتبر اكثر كلفة من المحرقة نفسها!

اترك تعليقاً