facebookالأرشيف

صورة الفدائي الأول – اسماعيل حيدر

كنت في سنواتي السبع من عقدي الاول، حين كانت تصطحيني إحدى شقيقاتي إلى منزل تم تشييده بحجارة الكدان، لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن بيتنا..هناك وعيت باكراً بين أهله على بلاد اسمها فلسطين، في ذاك المنزل العتيق، سكنت عائلة أبوطوق لسنين طويلة، ثم تفرّق شملها بين الغياب والشتات.. بعض أفرادها انتقل إلى جوار ربه، بينما ارتحل بعضهم الآخر إلى هجير الصحراء، والصقيع الاوروبي.

لكن البيت ظلّ في مكانه، وفي أرجائه الضيقة، لا تزال تتردد أصداء حكايات لا تني تعبر خاطري ككلمات متقاطعة.

تعيدني ذكرى نكبة فلسطين في الخامس عشر من مايو عام 1948، إلى مأساة فلسطينيين هجّرتهم العصابات الصهيونية من مدنهم وقراهم.. يومها احتضنت قريتنا الصغيرة، عائلات من عكا ويافا، والبصَّة، وبعض قرى الجليل، عاشوا معنا وعشنا قضيتهم باكراً.

*****

كانت تلك الايام، تنطوي على مشاعر حب وتعاطف عميقة، امتدت من القرى إلى المدينة والمخيمات المجاورة..تعمقت تلك العلاقات اجتماعيا وقتصاديا، وباتت هناك حالات زواج، وأعمال تجمع اللبناني والفلسطيني في التجارة والصناعة والزراعة وحصاد المواسم في الحقول والبساتين.

قبل بضعة عقود مضت..كان أبي، يمتلك حماراً، يعينه في الانتقال إلى الحقل، وفي رحلة العودة إلى المنزل، وأيضاً… في حمل حصاد المواسم، وتبادلها مع أهل المخيمات القريبة، قمح الصيف وفاكهته من تين وصبار وعنب في مقابل زيت أو أرز أو صابون وكالة الغوث الأممية.

*****

أما ذاك الفتى، ابن العائلة الكادحة، التي كانت تسكن في بيت متواضع، في خراج البلدة، تناوب على الإقامة به نواطير الحقول والبساتين.كان أول صورة تسكن مخيلتي عن الفدائيين اللبنانيين الأوائل الذين انخرطوا في صفوف الثورة الفلسطينية أواخر الستينات من القرن الماضي، في تلك الأيام غاب الفتى عن طرقات القرية، عرف الناس حينها أن حاتم وأخيه؛ وهما شابان في مقتبل العمر، امتشقا السلاح، وقاتلا إلى جانب إخوتهم في الثورة الفلسطينية. قضى حاتم في ساحة القتال، وعاد شقيقه إلى القرية، وقد أثخنت الجراح جسده الطري.لكن فرس حاتم البيضاء، ظلت تنتظر أمام ذلك البيت العتيق في البرية.

*****

بعد 72 عاماً، لا يزال الفلسطينيون يعانون تحت نير الاحتلال وقلق الشتات، لكنهم لن يتخلوا عن أرضهم، وهذا قدر لا فكاك منه.. ومن غير المقبول العمل على تحوير مقاصد الهبّات الفلسطينية في يوم النكبة، لغاية في نفس هذا أو ذاك.. إن حركة الشعب الفلسطيني تمتد على مدى مسيرة الحركة الوطنية التي قامت منذ ما قبل النكبة، واستمرت في محطات مضيئة عدة، وصولاً إلى اللحظة الحالية،وستتواصل حتماً بروح الوعي والثبات لدى الأجيال المتعاقبة.

*****

* في كتابه”فلسطين” الصادر في 5 كانون الأول 1947، قال المفكر اللبناني ميشال شيحا: ” إن قرار تقسيم فلسطين بإنشاء الدولة اليهودية، لمن أضخم الأخطاء في السياسة المعاصرة..إن أمراً كهذا، وإن بدا يسيراً في الظاهر، فلسوف تستتبعه عواقب غير متوقعة.. وليس من باب امتحان العقل، إذا قلنا إن هذا “الحدث الصغير”، سيسهم في زعزعة أسس العالم”.

بينما جاء في مناقشات مجلس العموم البريطاني 28 كانون الثاني عام 1948: “إن الجار الخطر الذي زفّته إنجلترا إلى البلدان العربية، ثم زفّته إلى نفسها مع تلك البلدان، على العتبة الغربية لآسيا، كفيل لوحده بتحريك الثورة والحرب..”

٠
*****

وحده الفلسطيني، هو الذي يؤرق (إسرائيل) ومصيرها القلق، لأنه بمجرد القول: هذا فلسطيني موجود ويناضل، فإن ذلك النقيض التاريخي لدولة الوهم.

 

#النكبة

 

كاتب واعلامي لبناني