من هنا وهناك

عدل الكلام في أحكام الإعدام!!! – د. أيوب عثمان

 

  فهمنا من أحكام الإعدام الصادرة ضد الرئيس المصري/ محمد مرسي وأعوانه من قيادات الإخوان المسلمين أن التهمة التي صدرت بسببها أحكام الإعدام هذه هي “التخابر والهروب من سجن وادي النطرون”. واستكمالاً لأحكام الإعدام بغية إنقاذها، فقد أحالت المحكمة ملفات الإعدام إلى المفتي للبتّ فيها بموجب المقتضى الشرعي المرتبط بها.

  إذاً، فالتهم المنسوبة إلى من صدرت أحكام الإعدام بحقهم هي “التخابر واقتحام سجن وادي النطرون والهروب منه أيضاً”. وعليه، فإن هذه التهم- حتى وإن صحت نسبتها إلى من اتهموا بها وثبت ارتكابهم لها وإدانتهم بها- لا ترقى ولا يمكن أن ترقى إلى أحكام الإعدام في أي حال، ذلك أن عملية الهروب من سجن وادي النطرون إنما جرت في السياق الثوري على المستوي الجمعي الجماهيري الشعبي والمؤسساتي ضد حكم الرئيس مبارك، حيث كان المتهمون الذين صدرت بحقهم أحكام الإعدام ثواراً ضمن جميع فئات الشعب الثائر ومع كل القوى السياسية الثائرة، كما كانوا في الوقت ذاته مع الجيش ضد حكم استمر 30 عاماً وتم إسقاطه.

  فالصادر بحقهم اليوم أحكام الإعدام كانوا  بالأمس ثواراً شاركوا في الثورة على نحو لا يمكن لمكابر أن ينكره، وأسهموا في إسقاط النظام، بل إن المتهم الأول والرئيس الذي يصدر ضده حكم بالإعدام اليوم هو ذاته من ترشح لرئاسة مصر التي أسقطت ثورتها حكماً جلس مبارك على عرشه 30 عاماً. فإذا كان مرسي متهماً- من الأصل وقبل أن يصبح رئيساً لمصر وحتى قبل أن يرشح نفسه لرئاستها- بتهمة من شانها أن تأخذه إلى الأعدام، فكيف سمح له أن يترشح للرئاسة وينافس عليها؟! وكيف قبلت لجنة الانتخابات المركزية أن يترشح لرئاسة مصر من هو متهم- من الأصل وقبل الترشح- بفعل أو أفعال ليس غير الإعدام عقوبتها؟! أين كانت لجنة الانتخابات المركزية وقت أن ترشح مرسي لرئاسة مصر؟! لم َ لم تعترض عليه لجنة الانتخابات؟ لمَ لم يعترض عليه أحد أو جهة، انطلاقاً مما يتهم به ويحاكم اليوم عليه ويصدر بحقه حكم بإعدامه؟! وإذا كان من أحد أو جهة قد اعترض، فما الذي كان من لجنة الانتخابات المركزية؟! ولماذا كان منها ما كان: أي أنها لم تسمعنا اعتراضها؟!

  على أنه لا يجوز- وهذا من المسلمات- لأي أحد أو جهة أن يتدخل في شان داخلي لأي دولة، فإن ما نطرحه في السياق الذي نحن فيه إنّما هو من قبيل التعبير عن رأي محبّي مصر  العربية والمنتمين لها والغيارى عليها، بصفتها رقماً يُحسَب له حساب، فلا يمكن تجاوزه وله ثقله ووزنه وأهميته، سواء في محيطه العربي أو الإقليمي أو الدولي.

  إن من العوامل التي تنال من الحكم الصادر بإعدام الرئيس/ محمد مرسي وقيادات إخوانية بارزة هو أن الحكم بالإعدام في حد ذاته إنما هو أحد سمات أو نتائج الاشتباك بين نظام الحكم في مصر والفكر الديني المتشدد- كما يراه نظام الحكم نفسه- وفي القلب منه الفكر الديني عند الإخوان المسلمين. هذا النوع من الاشتباك هو اشتباك لا يستند إلى فكر قوي منيع يتمتع بالثقل والرسوخ والرصانة، وإنما ينطلق من حرص- أو لنقل هَوَسٍ- أمني ليس في مكنته أن يقدم شيئاً غير الحلول أو الوصفات الأمنية، باعتبارها السلوك الوحيد الحاسم والحازم، فيما يواصل الفكر الديني المتشدد- كما تراه السلطة الحاكمة في مصر-  فعله بين ثنايا مجتمع ذي أرض رخوة ستظل تتسع، على الدوام، لكل ما يمكن أن يجود به، طالما أنه لم يواجَهْ بالعقل والحكمة والموضوعية دون استقواء أو استعداء أو شطط، ذلك أن طريق العقل والحكمة والموضوعية إن لم تُتَّبع على نحو وطني خالص،  فإن الفكر الديني المتشدد سيظل، على الدوام، حريصاً على تدوير نفسه وإعادة إنتاجها بطرائق متنوعة وأشكال شتى، فتبقى العقول مرهونة على الدوام لها لتظل الحلول والوصفات الأمنية لا قيمة على الأرض لها، تماماً كما لا قيمة لأحكام صدرت بإعدام مرسي وأنصاره، حيث المعركة لا ينبغي لها أن تكون معركة جسدية تغّيب فيها أجساد بالإعدام، فيما يظل الفكر في الأذهان حياً يتنامى ويشتد قوة.

  وبعد، فإن أحكام الإعدام الصادرة ضد الرئيس مرسي ومرشد الإخوان في مصر محمد بديع وقيادات أخرى، إنما هي مدعاة للقلق  ومثار للتساؤل في آن معاً، الأمر الذي يستدعي تساؤلات شتى، وفي كل اتجاه، نوجزها في الآتي:

  1. لأن أحداً لا يتوقع ان يحاكم سياسيون سجناء في دولة فجر شعبها ثورة تهدف إلى الإطاحة بنظام الحكم الذي زجّ بهم في سجونه، أليس غريباً مستبشعاً ومستشنعاً أن يحاكم محمد مرسي ومن معه- بل أن تصدر أحكام بإعدامهم- في مصر التي فجر شعبها ثورة هدفها الإطاحة بنظام حكم مبارك الذي كان قد زجّ بهم في سجونه؟!

  2. أليس من العادي والطبيعي أن يكون من منجزات أي ثورة- في كل بقاع الأرض- أن يخرج السياسيون من السجون إلى مناصب سياسية تقديراً  لهم  ووفاءً لتضحياتهم؟!

  3. لماذا لم يختفِ سجناء وادي النطرون من قيادات الإخوان المسلمين بعد خروجهم من السجن؟! ولماذا يُعَاد اعتقالهم وقد ظهروا أمام الجميع ورآهم الجميع، بل إنهم عقدوا لقاءات واجتماعات مع الجيش بقياداته المتقدمة؟!

  4. ماذا يعني اجتماع القيادات الإخوانية التي خرجت أثناء الثورة من سجن وادي النطرون مع قيادات عسكرية متقدمة في الجيش المصري تم التنسيق والتفاهم معها حيال النهج الديمقراطي بعد نجاح الثورة؟!

  5. لِمَ لمْ يعترض القضاء المصري على ترشح محمد مرسي للرئاسة؟! بل لمَ سمح القضاء المصري للدكتور/ محمد مرسي بأن يترشح لرئاسة مصر، طالما أنه كان متهماً بالفرار من سجن وادي النطرون بمساعدة “عناصر أجنبية”، كما جاء في التهمة الموجهة إليه؟

  6. كيف يمكن للقضاء المصري حقاً أن يسمح لمتهم بالهروب من السجن أن يترشح لينافس على رئاسة مصر التي اشتهر قضاؤها وقضاتها بالاستقلالية والشموخ؟!

  7. أليس غريباً أن يصدر القضاء المصري (الشامخ) أحكاماً بإعدام ستة فلسطينيين من قطاع غزة بدعوى اشتراكهم في اقتحام سجن وادي النطرون، فيما ثلاثة منهم كانوا قد ودعوا الحياة الدنيا قبل تفجّر الثورة ضد حكم مبارك، والدليل-  بل والدلائل- على ذلك فيما يأتي:

  • أن محمد سمير أبو لبدة الصادر ضده حكم بالإعدام هو في الأصل كان قد استشهد منذ عشرة أعوام، وتحديداً في عام 2005!!!

  • أن محمد خليل أبو شاويش الصادر ضده حكم بالإعدام هو في الأصل كان قد استشهد منذ  ثمانية أعوام، أي في العام 2007 على وجه التحديد؟!

  • أن حسام الصانع الصادر ضده حكم بالإعدام هو في الأصل كان قد استشهد على يد دولة الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ سبع سنوات، وتحديداً في 27/1/2008!!!

  • أما الثلاثة الآخرون الذين صدرت أحكام بإعدامهم، فإن اثنين منهم قد تم اغتيالهما على يد القوات الإسرائيلية بعد اندلاع الثورة المصرية، حيث اغتيل تيسير أبو سنيمة في 8/4/2011، فيما اغتيل رائد العطار في 21/8/2014 أثناء الحرب الصهيونية على قطاع غزة، بينما حسن سلامة الذي أصدر القضاء المصري حكماً بإعدامه إنما هو أسير يقبع في المعتقلات الصهيونية منذ تسعة عشر عاماً، أي منذ عام 1996، على وجه التحديد! وعليه، أليس حقاً مشروعاً لنا أن نتساءل باندهاش واستغراب، بل واستنكار على قضاء عشنا ألقه وعاصرنا شموخه وارتفاعه فنقول: كيف يصدر قضاءٌ وقضاةٌ أحكاماً بإعدام أشخاص معروف أنهم في عالم الموتى؟! وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى النقد الذي وجهه الدكتور/ عبد الله الأشعل، أستاذ القانون والعلاقات الدولية، ووكيل وزارة الخارجية المصري سابقاً، في شأن أحكام الإعدام الصادرة ضد عناصر فلسطينية استشهد بعضها، فيما بعضها الآخر ما يزال في السجون الإسرائيلية، معتبراً أن “ذلك فضيحة تنال من سمعة القضاء المصري ومن الدولة المصرية، حيث كان على القضاة- لو كانت الأحكام بتوجيه سياسي- من الأصل أن يتأكدوا من أنّ الأسماء صحيحة وليست ميتة أو في سجون الاحتلال”.

  لقد بات واضحاً تماماً أن أحكام الإعدام الصادرة ضد الرئيس مرسي وضد المرشد محمد بديع وضد قيادات إخوانية أخرى إنما هي أحكام لا جنائية فيها، وإنما هي سياسية بامتياز، الأمر الذي يدفع إلى المزيد من الخوف والقلق، ذلك أن ردة الفعل ليس من العقل والحكمة ألا يحسب لها ما تستحقه من وزن وحساب، لا سيما إذا اضطر الإخوان المسلمون- بصفتهم تنظيماً قوياً ومنظماً على الرغم مما ناله حتى الآن- إلى التحول من نهج السياسة إلى نهج القوة، وليس أدل على ذلك من أن اليوم الذي صدرت فيه  ضد الرئيس مرسي وقيادات إخوانية وازنة أحكام بالإعدام هو ذات اليوم الذي تمت فيه تصفية ستة من قضاة مصر في سيناء!!!

   إن ما ينبغي للعقل أن يضعه في الاعتبار هو أن كسر شوكة التطرف الفكري، لا سيما التطرف في الفكر الديني لا يمكن أن تتأتّى عبر القبضة الحديدية وحدها أو عبر العنف الأمني وحده، ذلك أن كل من يرى أن القبضة الأمنية مهما كانت قوتها وشراستها ومهما كان بطشها وفعلها، فإنه سيكتشف في النهاية أنه قد ضل السبيل وأساء التقدير، فالتطرف الفكري يحتاج إلى فكر يقارعه قبل القبضة الأمنية وربما معها أيضاً.

  أمّا آخر الكلام، فإن سؤالاً مهماً وقوياً وملحاً يطرح نفسه بقوة عساه يلقى جواباً: ألا ترى قيادتنا (منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية) أن عليها واجباً يلزمها بالتدخل في أمر تهمٍ موجهةٍ إلى ستة فلسطينيين، أوصلت إلى أحكام بأعدام بعضهم وهم أموات، حيث استشهد بعضهم قبل الثورة المصرية بسنوات وسنوات، واستشهد بعضهم الآخر بعدها وأثناء الحرب الأخيرة على غزة، فيما يقبع بعضهم في سجون إسرائيل منذ تسعة عشر عاماً؟! ألا يستأهل هذا الأمر الكبير والخطير فعلاً ما من قيادتنا تجاه مصر التي أصدر قضاؤها (الشامخ) مثل هذه الأحكام، وذلك انطلاقاً من احترام القيادة الفلسطينية لسيادة مصر ومن الحرص والغيرة على مصر وقضائها، بغية الدفاع عن حقوق المتهمين الفلسطينيين- وإن كان بعضهم في عالم الموت فيما بعضهم قابع في سجون دولة الاحتلال منذ نحو عقدين- على درب الوصول إلى العدالة وتحقيق سيادة القانون وتبييض صفحة فلسطين والفلسطينيين والغزيين منهم على وجه التحديد؟!

     كاتب وأكاديمي فلسطيني

        جامعة الأزهر بغزة

اترك تعليقاً