الأخبارالأرشيف

في الدرس الكوري! – عبد اللطيف مهنا

أصبحت كوريا الشمالية، الدولة الصغيرة، والتي بحجم ولاية أميركية، والمحاصرة كونياً، والمنبوذة غربياً، قوة نووية عظمى، شاء من شاء وأبى من أبى! سيول الوعيد وعواصف التهديدات الأميركية، ومعها واسع التنديدات الدولية المؤازرة، وكذا تغريدات ترامب المتلاحقة المثقلة بنذر الويل والثبور، وكل ما انفك يترى مما استنفد من عقوبات وضغوط اقتصادية توازيها دبلوماسية مردوفة بحملة شيطنة إعلامية هائلة، لم تجد فتيلاً في فل إرادة الكوريين الشماليين وعنادهم الساعين إلى ما يمكن وصفه، ولو تزيُّداً، نظراً لاختلال موازين القوى، تحقيق توازن رعب ما من شأنه انتزاع اعتراف بهم عضواً فرض نفسه في النادي النووي غير المرحَّب بهم فيه، فالاضطرار للجلوس معهم على طاولة المفاوضات لمساومتهم على ضبط جديدهم، وتوسلاً لاحتوائه كمطمح، وأقله التعايش معه كواقع فرض نفسه.

تحذيرات ترامب ووعيد جنرالاته خبت حدتها لشح الخيارات أمامه والتصاعد المدروس في العناد الكوري وصولاً للهيدروجيني. لم يتبق للأميركان إلا الجنون غالي الكلفة، أو التسليم بواقع كوري شمالي نووي وصاروخي وانصرافهم للتعايش مع مكروه أملاً في ضبطه أو احتوائه، والتخلي عن حلم ضمان السيطرة عليه.

المتابع للمواقف الأميركية الطالعة النازلة، والجدل الدائر بين حامي الرؤوس والأكثر تعقُّلاً في الإدارة الأميركية، ناهيك عن ذاك المشتعل في قلب المؤسسة الأميركية عموماُ، والكاشف للتباين داخلها والفاضح لانعدام بديل مقبول الكلفة أمامها، أو قابل لتسويغه اميركيا وليس كونياً فحسب، لا يرى ثمة أمام واشنطن سوى الاعتراف الضمني بالأمر الواقع المستجد الذي حققته لعبة حافة الهاوية التي أجادتها بيونغ يانغ وربحتها.

ما تقدم أشار إليه بوضوح وزير الحرب الجنرال جيمس ماتيس حين رسم خطاً أحمراً أميركياً تجاوزه من قبل الكوريين الشماليين عنده هو قيامهم “بعمل عدواني ضد اميركا أو أحد حلفائها”، الأمر الذي لا نعتقد أنهم في وارده. كل ما هم بصدده هو الاعتراف بدخولهم النادي النووي من أوسع ابوابه، ما يعني امتلاكهم قوة الردع، أو الضمانة الوحيدة لبقاء نظامهم، وبالتالي التوصل لتفاهم ما يقيهم شرور الحصار ويريحهم من اذاه…لم يعد الأميركان الآن يتحدثون عن التجارب النووية الكورية أو الصاروخية، ويبدو أنها قد بدأت تخرج بحكم الأمر الواقع الذي فرضته بيونغ يانغ من قائمة ممنوعاتهم.

ما من شك في أن الولايات المتحدة وهى القوة الكونية الأعظم قادرة على البطش بكوريا الشمالية، إلا أن بطشها سوف لن تسلم من ذيوله حليفتيها كوريا الشمالية واليابان، هذا إذا افترضنا إن لا يصل الرد الكوري عليه إلى عقر دارها، وأقله بات من المؤكَّد أنه لن تسلم منه قواعدها العسكرية المنتشرة في المحيط الهادي. هنا بالضبط سر معارضة سيئول للخيار العسكري، وتطيُّر طوكيو من احتمالاته، وسر اللجوء إلى بيكين توسُّلاً لعلاج المعضلة الكورية بالعقاقير الدبلوماسية التي قد توفرها الصيدلية الصينية، إلى جانب استثارة كافة الضغوط الكونية الممكنة، بيد أن ما يبدو هو أن لا هذه ولا تلك لها محل من الإعراب في القاموس الكوري الشمالي.

ما نشهده اليوم هو درس كوري لعل أول وأكثر من ادركه وفهمه فأثار الرعب في عروقه هو الكيان الاستعماري الغاصب في فلسطين، هذا الذي كان يرفع شعار “ردع كوريا يردع الآخرين” فيما لا يخفى أنه تحريض ضمني على إيران، وفقما ورد نصاً في تصريح للناطق الرسمي باسم خارجيته…هم كانوا يدركون أن كوريا كانت بالنسبة للمنطق الامبراطوري الأميركي تهديداً محتملاً قد يتطلب حرباً وقائية لاستبعاده، وهذا ما كانوا يحرِّضون واشنطن عليه، بيد أنهم ينظرون الآن إلى الحالة الكورية على ضوء الواقع الذي فرضته التطورات الأخيرة بأنها الأخطر مما كانت عليه بكثير، ذلك كونها قد باتت بما حققته مثالاً ملهماً لسواها من المستضعفين من أمم الأرض في وجه التغول الأميركي ويغري باحتذائه، الأمر الذي لا يمكنهم احتماله، وعليه، وبما أنهم صنيعة للغرب الاستعماري أصلاً وامتداد وظيفي له، فهم الأكثر فهماً للعقلية الأم ومنطقها المتغطرس الذي يبيح لنفسه المحذورات ويمنع عن من يشاء ممن هم سواه المسموحات، ويضربون على وتره…مثلاً: لا يرى البروفيسور عوزي ايفن، المختص في الشؤون الذرية وأحد مؤسسي مفاعل “ديمونا” النووي، في الأمر سوى إن “واشنطن في طريقها لفقدان قوة الردع وهذا أمر خطير”.

لم يفعل الكوريون الشماليون أكثر من محاولة حماية أنفسهم ونظامهم المستهدف، بغض النظر عن طبيعة هذا النظام، أو ما يثيره من اتفاق أو إختلاف حوله وفي النظرة إليه. هم لم يدمروا هوريشيما ونجزاكي، ولم يفتكوا بالفيتناميين وتعبث أسلحتهم الفتاكة بالبيئة هناك بحيث أنها لم تنجوا من أثار عبثهم بها حتى يومنا هذا…واستطراداً، هم لم يبيدوا ملايين الكوريين ويقسموا كوريا ذاتها، ولاحقاً، لم يغزوا أفغانستان، ويدمروا العراق، ويلحقون به ليبيا، ويقفون خلف كل ما لحق بسورية، كما، وكيف لنا أن ننسى، أنهم لم يتكفلوا باستمرارية فرضهم لأبشع كيان هجين ذو طبيعة استعمارية استيطانية احلالية قائمة على نفي الآخر والحلول مكانه في فلسطين…كل ما فعله الكوريون هو ما لم يفعله العرب…عدم الخضوع وحماية انفسهم.