عربي وعالمي

قصة العمال الفلسطينيين في المستوطنات «الإسرائيلية»

تأليف: ماثيو فيكيري

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

كيف سيكون شعورك عند بناء منازل على الأرض المسروقة منك؟ هذه المرارة الكبيرة هي واقع يومي لكثير من الفلسطينيين، إذ يعمل الآلاف منهم في بناء مستوطنات «إسرائيلية» غير قانونية بسبب حاجتهم الشديدة إلى كسب قوت يومهم. ويأتي هذا العمل ليتطرق إلى كيفية إنكار حقوقهم القانونية، وقلة الأمن الوظيفي لديهم، وانخفاض الأجور، فضلاً عن ظروف العمل الخطرة، ويستند مؤلفه ماثيو فيكيري على العديد من الحوارات مع هؤلاء العمال وأسرهم، ليستكشف واقعهم البائس الذي يملي عليهم تحمل هذه الظروف النفسية والمادية القاسية.

يسلّط الكاتب الضوء على جانب مهمل من التجربة الفلسطينية القاسية وممارسات الإخضاع «الإسرائيلية». ويقدّم فيه تحليلاً لدور الحكومة «الإسرائيلية» في قطاع العمالة المتعلقة بالمستوطنات، والطبيعة الحقيقية لهذه الممارسات باعتبارها شكلاً جديداً وبشعاً من العمل الجبري الذي يرعاه الاحتلال «الإسرائيلي» بكافة أذرعه.

وللوقوف أكثر على المناطق التي ينحدر منها العمال، وفهم جغرافية الضفة الغربية أكثر، نعود إلى «اتفاقية أوسلو» المؤقتة الموقعة في العام 1995 بين منظمة التحرير الفلسطينية و«إسرائيل»، والتي تم تقسيم الأراضي الفلسطينية بموجبها إلى ثلاث مناطق:

1- (منطقةA ) وهي المناطق التي تخضع للسيطرة الفلسطينية الكاملة (أمنياً وإدارياً)، وهي تشكل ما نسبته 18% من مساحة الضفة الغربية الإجمالية.

2- (منطقة B): وهي المناطق التي تقع فيها المسؤولية عن النظام العام على عاتق السلطة الفلسطينية، وتبقى لـ«إسرائيل» السلطة الكاملة على الأمور الأمنية، وتشكل نسبتها 18.3% من مساحة الضفة الغربية الإجمالية.

3- (منطقة C) وهي المناطق التي تقع تحت السيطرة الكاملة للحكومة «الإسرائيلية»، وتشكل 61% من المساحة الكلية للضفة الغربية. وهي الجزء الأكبر من الضفة الغربية، وتحتل هذه المنطقة المستوطنات التي يعتبرها

الفلسطينيون والمجتمع الدولي غير قانونية. وتحيط بها مناطق إطلاق نار «إسرائيلية» مقسمة على الجدار العنصري العازل ونقاط تفتيش عديدة. وبالتالي، فإن السيطرة «الإسرائيلية» لا تترك سوى مساحة ضئيلة جداً للفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة «سي» للعمل وإعالة أنفسهم، ومعاناة وبؤس حال هؤلاء هو موضوع هذا الكتاب.

يقدّم هذا العمل الذي يقع في 160 صفحة من القطع المتوسط، والصادر في 2017 عن دار «زيد بوكس» البريطانية للنشر، صورة قوية عن كيفية إجبار الناس على أن يكونوا جزءاً من حالة اضطهادهم العامة، والسبب الذي يجعلهم في هذه الصورة المتناقضة، محاولاً التأكيد على الحاجة الماسة إلى إيجاد حل شامل للصراع «الإسرائيلي»/ الفلسطيني الذي يوفر الكرامة والحقوق للجميع.

بعد المقدمة يتكون الكتاب من قسمين، الأول منه بعنوان: تشغيل العدو، ويشتمل على خمسة فصول هي: 1) تشغيل العدو. 2) الوسيط وسلطة التصريح. 3) العاملون بأجور رخيصة، والقصّر، الأطفال العاملون في الوادي. 4) الإذلال المطلق للاحتلال. 5) بؤساء الأرض المقدسة.

أما القسم الثاني فيأتي بعنوان «استغلال العدو»، ويتكون من أربعة فصول تكمل فصول القسم الأول في تسلسلها وهي: 6) فصل سوق العمل، خنق الاقتصاد. 7) إنشاء دوائر العمل المحتملة. 8) جيش احتياطي من العمّال. 9) العمل الجبري الذي تشجّعه الدولة.

بؤساء الأرض المقدسة

يرى الكاتب أن الأمر يبدو أنه أشبه ما يكون بتناقض سياسي في البداية، فحضور آلاف العمال الفلسطينيين الذين يصطفون في طوابير خارج المستوطنات «الإسرائيلية» غير الشرعية عند بزوغ الفجر، يتملكهم جميعاً الاستعداد الكامل للعمل الشاق طوال يوم كامل، ويصف الوضع بأنه واقع بائس يستمر بإغناء الاحتلال وجلب الكثير من المصاعب والآلام إلى السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويعلق على ذلك قائلاً «حتى أن الأمر يبدو من التناقض المؤلم عندما يقوم بعض العمال منهم ببناء المستوطنات وتوسيعها بأياديهم. هذه المستوطنات غيّرت شكل الضفة الغربية، ومزقت الأرض الفلسطينية إلى قطع متناثرة، كما أثّرت بشكل سلبي ومدمّر على حياة الفلسطينيين، فهي منتشرة في كلّ مكان، وغالباً ما تكون متمركزة على تلال الضفة الغربية، مطلة على السكان الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال الغارقين في مستنقع الفقر».

ويضيف: «ليس من المصادفة أن هذه المستوطنات أصبحت غير شرعية تحت القانون الدولي، منتصبة على البلدات والقرى الفلسطينية. مشروع «إسرائيل» الاستيطاني مدفوع بالإيديولوجية الصهيونية، لكن ولادتها على أرض الواقع عملية استراتيجية جداً من ناحية التحكم بالسكان الفلسطينيين، وتقسيمهم إلى مجموعات يمكن التحكم بها بسهولة».

لم تعد المستوطنات تشكل فقط مراكز نشطة للمستوطنين الإيديولوجيين كثيراً، فهي تندمج في الدولة اليهودية بشكل مستمر من خلال شبكة من البنية التحتية الشاملة التي تربط المستوطنات مع المدن «الإسرائيلية» الكبيرة، وسط الجهود الكبيرة لتحويل تلك المستوطنات إلى بلدات سكنية، بالإضافة إلى تعزيز الاقتصاد مع تشغيل المصانع والمزارع والصناعات الأخرى. ويرى الكاتب أن «هذه الأعمال كلها تحاول استحضار مجموعة من الشرعية والمعيارية إلى مجتمعات غير شرعية وفق القانون الدولي، وشيّدت على أرض فلسطينية مسلوبة، وتستمر في استدامتها عبر المصادر الفلسطينية»، مضيفاً: «إذا ما اشترى المستهلك الطبيعي منتجات تخرج من المستوطنات أو تستخدم خدمات شركة استيطانية، ثم تتمنى التشكيك في تناقض الفلسطينيين العاملين فيها، وبالمقابل تدعم المستوطنات، وفي سرعة كبيرة سيجدون بسهولة خطابات من الشركات والحكومة «الإسرائيلية» التي تزعم أن العمل في المستوطنات هو شيء إيجابي للغاية».

قلب الحقائق

وعن اللعبة الإعلامية التي يمارسها الاحتلال، ويقلب فيها الحقائق في هذا السياق، يقول الكاتب: «ليس من المستبعد أن تجد عاملاً في المستوطنات تستشهد الصحف «الإسرائيلية» برأيه الإيجابي حول العمل في المستوطنات. السياسيون «الإسرائيليون» والشركات الاستيطانية يقولون إن هؤلاء الذين يعارضون المستوطنات ويدعمون حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي أس) يلحقون الأذى بالعمال كونهم ضد الكيانات (المستوطنات) التي تقدم العمل والأجور للعمال الفلسطينيين. ومع ذلك، فهذا خطاب المحتل، والرواية الأكثر رواجاً وهيمنة».

يتوقف الكاتب عند الشعور الحقيقي لدى العمال خلال تجربته معهم، وكيف أن بؤس الحال يدفع الكثير منهم إلى التفوه بكلمات لا تعبر عن الواقع الفعلي لهم، يقول: «إذ ما سافرت إلى قرى الضفة الغربية حيث ينحدر منها معظم العمال الفلسطينيين العاملين في المستوطنات، تسمع منهم رواية مختلفة حينما يجلسون في منازلهم، ويتحدثون عن حياتهم وأعمالهم. يتحدث هؤلاء عن ظروف العمل الخطرة، والإصابات التي تعرضوا لها، والأجور الرخيصة التي يتلقونها، والتي تكون أقل من الحد الأدنى لأجر العامل وفق القانون «الإسرائيلي» نفسه، وكيفية تعرضهم لمعاملة فيها الكثير من التهديد والاستغلال على يد من يشغّلهم والوسطاء والجنود «الإسرائيليين»، نظراً لحاجتهم الشديدة إلى المال، كون مجتمعاتهم منكوبة بالفقر بعد أن دمّر الاحتلال مصادر دخلهم من المراعي والمزارع، فلم يعد أمامهم سوى خيار العمل في المستوطنات».

تجميل صورة الاحتلال

هناك ما يقارب من 20 إلى 30 ألف فلسطيني يعمل بشكل قانوني في المستوطنات خلال وقت واحد، لكن آلاف منهم يعملون بشكل غير قانوني من دون تصريح حكومي«إسرائيلي» يسمح لهم بالعمل، وهؤلاء يقومون برحلة خطرة على الأقدام تحت جنح الظلام، ويتسللون إلى المستوطنات قبل أن يبزغ الفجر.

وفي محاولة من الكاتب لفهم عمل هؤلاء العمال بكامل تفاصيله، قرر أن يمضي معهم في رحلة تسللهم إلى المستوطنات، فيقول: «قبل عدة سنوات، قمت برحلة غير شرعية مع مجموعة من العمال برفقة أحد الأصدقاء. كانت رحلة قصيرة استغرقت ما يقارب الساعة، انتقلنا من الأراضي التي تقع تحت حكم الفلسطينيين ثم إلى أعلى التلة، اختبأنا من السيارات العسكرية المكلفة بمراقبة المستوطنات على إحدى الطرق المحيطة بها، ثم دخلنا الغابة ومنها إلى المستوطنة المقصودة. كان الأمر سهلاً بشكل يدعو للدهشة، وفي الحقيقة أسهل بكثير من السفر إلى بعض المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية. وهذا الطريق فيه من المخاطر ما فيه، لكن المخاطر التي تحملها الطرق الأخرى أكبر للعمال، إذ تتضمن تسلقاً على جدار الفصل بشكل مباشر، والمرور أمام أبراج المراقبة العسكرية «الإسرائيلية»، ويمكن أن يتعرضوا لإطلاق النيران بشكل قاتل إذا ما وقعوا تحت نظر الجنود «الإسرائيليين»، وأن يتم اعتقالهم وسجنهم إذا ما ألقي القبض عليهم».

ويشير ماثيو فيكيري إلى أن هذا الطريق الذي يخوضه العمال، أوضح له شيئين مهمين، الأول هو أن العمل في المستوطنات يبدو في المتناول بالنسبة لبعض الفلسطينيين العاطلين عن العمل، خاصة ممن ينحدرون من المناطق الريفية المحيطة بالمستوطنات، على نحو أكثر من سفرهم لأجل العمل في مناطق السلطة الفلسطينية. فالقيود التي تفرضها الحكومة «الإسرائيلية» على حرية التنقل بين المناطق التي يقطنها الفلسطينيون يمكن أن تكون شديدة وقاسية. أما الشيء الثاني الذي توصل له فهو أن الخطر الذي توجب على هؤلاء العمال التعرض له لم يكن فقط كبيراً، بل روتينياً أيضاً. فهو موجود في كل مرة يقومون فيها بهذه الرحلة. والقيام بهذه الرحلة بشكل مستمر، يظهر بوضوح وجود حالة من اليأس الاقتصادي لدى الآلاف من العمال الذين يضطلعون برحلة خطيرة كهذه بشكل متكرّر.

يرى فيكيري أن لدى الحكومة «الإسرائيلية» وأصحاب العمل في المستوطنات رغبة كبيرة في أن يعتقد الرأي العام العالمي أن ظاهرة الفلسطينيين العاملين في المستوطنات هي إيجابية، إذ أنها تظهر أن الجانب «الإسرائيلي» يمدّ يداً حانية لهم تمنحهم الأجور، وتحسّن حياة نظرائهم المعدمين والمحتلين. هذه الصورة الوردية تجعل الآخرين يعتقدون أن مثل هذا الشكل من العمل يدعم التعاون، وأنه يعد شعلة من الأمل في صراع يمتدّ لسبعة عقود، وبالتالي لا بد من تشجيعه.

يجد الكاتب في نهاية عمله أن هذه الصورة المؤلمة للعمال الفلسطينيين يجب أن يوضع لها حد، فهؤلاء يعانون المرارة والقسوة النفسية والمادية، والاحتلال يمارس أبشع أشكال الاستغلال بحقهم، وعلى المجتمع الدولي والأصوات الحرة الداعمة لحقوق الإنسان أن تتدخّل وتوقف كافة أشكال الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني الذي يعيش على أرضه، وأن يكون كل شيء في إطار القانون الدولي من دون أي محاولة لقلب الحقائق لتجميل الصورة البشعة الحقيقية للاحتلال والمستوطنين. والتأكيد على إقامة دولة فلسطينية مستقلة تحفظ للفلسطينيين كرامتهم بعيداً عن الممارسات الحالية والوضع المعقد الذي يزيد من التوتر والاقتتال ليس في فلسطين فحسب، بل في كافة منطقة الشرق الأوسط.

– الخليج