من هنا وهناك

قمر الشهداء . جمرة الأرض ونشيد السماء – نجوى ضاهر

مسألة لحظات, وتغلق امي الهاتف مع جدي بعد ان تواعدنا ان نزوره غدًا في الثامن والعشرين من شهر آب لعام 2001 ونحضر له أكلته المفضلة (مقلوبة). لا ادري ماذا حل بأمي كي تطلب من جدّي “(يابا تروحش اليوم عالمكتب, انت تعبان.. خذ يوم عطلة”

وسيدي رَد “(كويّس يا بابا, بس رايح اجيب شوية اوراق من المكتب وراجع ”

انتهت المكالمة, وكلّ انصرف الى طريقه, امّي رافقت عمتي الى احضار فستان الخطبة لليلة ، ونحن اكملنا اللعب، أبي في العمل في مستشفى شنايدر وسيدي نسي المسبحة… وراح المكتب

مسألة لحظات، كانوا ينتظروا سماع صوته في الهاتف ليتأكدوا من وجوده في المكتب، أرادوا ان يباغتوه في الموت. مروحيتان حربيتان من نوع “آباتشي”، تنشب اظافرها في السماء، وتستعد للإنقضاض من جهتين مختلفتين، من نافذتي المكتب.. كي لا تدعا فرصة للموت ان يهرب.

لحظات، ويعود ابي الى البيت وهو يكرض, يلهث يبكي ينوح ويصرخ “يابااا افتح عالجزيرة ياباا وين هالة؟ (امي) قتلوووه” – بالرغم من اني لم افهم شيء، لا ادري اذا كان احدا منا فهم قبل ان نفتح شاشة التلفاز ونرى بأم اعيننا..

كنت في السابعة من عمري،على مشارف الثماني اعوام، شاهدت اعمامي وعمّاتي جدّي وجدتي (عائلة ابي) متجمّعين حول شاشة التلفاز القديم يلملمون الكلام المتقطع، أبي في الزاوية يبكي، ويسأل: “وينها هالة؟!” رفضوا ان يجيبوني على أسألتي “ليش صورة سيدي عالشاشة؟ ماله سيدي؟ وماله هذا المكتب مكركب هيك ومغبّر”

فقط قالوا لي: “هذا مش سيدك هذا صاحبه توفّى” – لكن كيف؟ فأنا اعلم جيّدا ان هذه هي صورة جدّي الذي زرته الاسبوع الفائت في رام الله… سيدي حافظته عن غيب.. هذا سيدي بالمقابل ارسلوني الى الساحة كي اكمل لهو ولعب. “وين امي؟”

أمي كانت قد خرجت مع عمتي الصغيرة لإحضار فساتين خطبتها الليلة….

عادت امي, وما ان دخلت البيت, حتى تلقّت الخبر بأسوأ الطرق الممكنة، ليس انه هناك صح او خطأ في عملية تمرير خبر استشهاد والدك في مكتبه ربع ساعة بعد ان اغلقتي السماعة معه

عادت امي, لتحزم حقائبها من غير وعي, تتمتم الجمل الغير متواصلة : “فايز الحليب تاعه.. مصطفى لازم يتحمم, عزيز بيقولّك” –

انا اراقب.. من بداية اليوم وانا اراقب المجريات التي ستضربني كف على خدي ليس الّا بعد مرور سنين..

لحظات حتى تعود امي لتحزم حقائبها وتنطلق الى رام الله, بغير وعي.. اسود, بكاء…

لحظات هي, حتى تبكي فلسطين جدّي, ابو علي مصطفى الامين العام السابق للجبهة الشعبية فقد إعتبره الإسرائيليون إغتيالا سياسيا بإمتياز نظرا للمناصب السياسية التي تبوأها والدور النضالي المنوط به من خلال الجبهة الشعبية ومنظمة التحرير..

اما انا, فمن تلك اللحظة وحتى اليوم, وبعد مرور 13 عام على اغتيال قائدي اولًا وجدي ثانيًا فأرى بذلك عملًا ان دل على شيئ فإنما يدل على الجبن, الخوف والضعف

نعم, سلبونا نعمة زيارة جدّي من غمرنا بحنيّته لمدّة سنتين فقط (1999-2001), نعم فرضوا علي زيارة رام الله بهدف زيارة جدّي ليس في بيته, انما في مقبرة الشهداء القديمة.. نعم فُرض علينا ان نستذكر الماضي, فهذا ما تبقى لنا. ان نعيش في الماضي وفي كلمة الـ”لو”.

سلبوه منّا بأكثر الطرق ضعفًا وتركوه اشلاء متناثرة في ارجاء مكتبه, سلبوه جسدًا , نعم. لكن روحًا, ولوعلى جثتي الهامدة لن يقتلعوه منّي ومن روحي, لن يفلحوا في سرقة بوصلتي وضميري الذان رافقاني منذ ان وعيت على العالم.

جدّي, ابو علي مصطفى, ارقد في سلام.. العهد, دين علينا 

بهذه الكلمات الصارخة ، عبرت عايدة قعدان ، حفيدة الشهيد أبو علي مصطفى عن وجع الحنين الذي ظل كامنا في ثنايا روح الطفلة وعيونها التي حملت ألف سؤال ، أمام مشهد إهتزت له كل الأفئدة المحبة ليس لشهيد بعينه بدافع الإنتماء التنظيمي الضيق ، بل لمشروع وطني متكامل سعى الشهيد عبر مسيرته النضالية الممتدة من مرقد الروح ، ( عرابة ) في جنين إلى الأردن حيث محاربة البطش والجبروت الإستعماري ومحاربة الأحلاف صفا إلى جانب الحركة الوطنية الأردنية ، ضد المعاهدة الأردنية البريطانية التي كانت ثمنها الحر سلسلة إعتقالات في السجون الصحراوية ، ثم إنتقالا إلى العمل الشعبي والعسكري السري بعد تحرر القائد من السجن البغيض وتسلمه مهام مسؤوليته عن شمال الضفة ، إمتدادا إلى تشكيل مجموعات فدائية في مصر حيث أصبح عضواً في قيادة العمل الخاص في إقليم الحركة الفلسطيني ، ثم عودة إلى الأردن حيث محطة العمل النضالي الهامة حيث تولى المسؤولية العسكرية لقوات الجبهة في الأردن إلى عام 1971 وكان قائدها أثناء معارك المقاومة في سنواتها الأولى ضد الإحتلال ، كما كان قائدها في أحداث أيلول الأسود عام 1970 ، مرورا بحرب جرش وعجلون في تموز عام 1971 ، ليعود بعد ذلك سرا إلى لبنان ،ويكمل مسيرة النضال ويتدرج في مناصب عدة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كمناضل شرس كان فيها المؤسس لمشروع وطن متكامل ، عنوانه (مقاومة لا مساومة ) إختزلها القائد الأمين على القضية ضد نهج التفريط بعبارته الشهيرة لدى عودته للوطن ( عدنا لنقاوم لا لنساوم على الثوابت ، وهذا ما دفع العدو لإستهدافه الجنوني في مكتبه في البيرة ، بصواريخ موجهة من طائرة أباتشي أمريكية الصنع ،لأن شارون كان وكل القيادة الصهيونية السياسية قد إتخذ قرار الإغتيال كما قال شارون على لسانه ( لا بد من قتل هذا الكلب فورا ) ،

هذا المناضل الذي كما في كل تاريخ إغتيالات القادة العظماء والثوريين الحقيقيين الذين لا يموتون أبدا أصحاب الفكرة النبيلة التي لا تحتاج إلا إلى الأحساس، يكون الهدف الأعلى من وضعهم في قائمة الأهداف الأولى للعدو النهج المقاوم و المناوئ لكل من يتهاون بشبر من الأرض وحبة تراب من الوطن ، خاصة أن فترة عودة الشهيد أبو علي مصطفى إلى الوطن تزامنت مع توحش نهج المساومة المتمثل بإتفاق أوسلو النكبة الكبرى التي ما زالت تجر على القضية تبعاتها من قبل سلطة دايتون التي لا تتوانى عن الظهور بمظهر الثوري في اللحظات التاريخية الفاصلة، عبر 21 عاما منذ توقيع الإتفاق في الثالث عشر من شهر أيلول لعام 1993 من أجل تلميع صورتها البالية المحتضرة التي دفنت مع تقدم وصمود المقاومة في غزة والتي رغم ذلك ما زالت تحاول جاهدة إلتقاط أنفاسها المتبقية بأوامر من الكابينت الصهيوني في إطار الهدف نفسه الذي أغتيل من أجله الشهيد أبو علي مصطفى وكل القادة الشهداء بعد ذلك ، وليس آخرهم القادة شهداء رفح وأقمارها الذين دفعوا دمهم ، شهادة حق لخيار الحقيقة الوحيدة في حياة العزة والكرامة لما تبقى من شرفاء قابضين على الجمر في الزمن الرخو الرمادي الذي تسيده المتكرشون عشاق المذلة والأنحناء . فعندما إغتال أعداء الدرب الصائب ، نسل الأشرار الشهيد بواسطة صواريخ موجهة من طائرات الأباتشي الأمريكية الصنع، وبقرار من أعلى المستويات السياسية والأمنية والعسكرية الصهيونية كانوا يعرفون جيدا خطورة الفكر والعقل والموقف المحارب الحاسم حتى النفس الأخير للشهيد ، حيث إبتهج العدو الجبان يومها إبتهج واهما وأعلن سراب أحلامه بأنها الضربة القاسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولكل الوطن ولم تكتمل فرحة العدو طويلا حين، جاء الرد الصاعق الأقسى الذي لم يكن مجرد ثأرا من رفاق النبض المقاوم الواحد بكاتم صوت كان له كل الجلجلة بل جاء في سياق النضال التحرري والنهج القويم لمعنى الإنتماء الحقيقي ..

للوطن ولفهم طبيعة الصراع الوجودي مع العدو .

في ذكرى الحضور لقمر الشهداء المسمى النبيل الذي يطلقه عليه الرفاق الأمس ، قبل الأمس ، لا يهم التاريخ ، فذكرى القادة العظماء ذاكرة لا ترتبط بميعاد ميلاد وإستشهاد بل هي عهد مستمر للثبات على وصاياهم وكلماتهم ومواقفهم الحاسمة الغير زئبقية وتاريخهم الكفاحي الطويل الذي توج بشهادة الدم والتي ما زالت الوهج الذي يستلهم منه كل الأحرار المقاومين كما من دماء الطهر ودماثة الأخلاق لكل قوافل الشهداء على إمتداد 66 عاما وأكثر من إغتصاب الوطن والمتاجرة بثوابته وحقوق شعبه ومن النضال المستمر ضد كل من يتهاون ويساوم على وعد الصادقين الذين ما زالت دمائهم تصدح في زمن عنوانه ( بلادي هنا من حدود الماء إلى الماء ) . فأرقد بسلام يا جمرة الأرض ونشيد السماء ، يا من علمت كل الرجال الذين عاهدوا الوطن ولم يتخلوا يوما عن البنادق أبجدية معنى أن تكون الحياة ليست فقط ضدا ونقيضا للموت كي يحيوا ألف مرة ولا يموتوا ميتة العابرين ، فحديثك ووصيتك عن أن تطييب الخواطر مع العدو هزيمة وإعتراف وأن فلسطين لن تكون أبدا مجتزئة ومختصرة بالضفة والقطاع وبأنها كل فلسطين لكل فلسطيني في كل زاوية في الوطن والشتات . ستبقى هي مخاض الميلاد المنتظر حين تبدأ قوافل العائدين لعناق الوطن من النهر إلى البحر ، في ذكراك وجبت التحية لأبطال الرد ونسر الوطن الشامخ أحمد سعدات الذين لن يطول سجنهم هم وكل الأسرى في أقبية سلطات الإحتلال مع بشائر الصمود في غزة وكل التحية لكل الرجال الذين ما زالوا يحملون هم القضية والوطن حد الإحتراق والشهداء الذين هزموا قبورهم بخلود فكرتهم النبيلة وسيف حقهم الذي أشهروه دما في وجه الأعداء

فهؤلاء فقط هم المؤتمنون على كلمتك الفذة حين فندت طبيعة الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني بأنه صراع مصيري تناحري ولا يمكن إزالته إلاّ ذا امتلكنا قوة وطاقة الفعل الوطني على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقتالية، وأكدت على أهمية أن نفكر تفكيراً أشمل، فالاستراتيجية لا تنبني على ركيزة واحدة، بل على مرتكزات سياسية برنامجية سليمة، ومرتكزات اقتصادية متينة قادرة على إدامة الصراع، ومرتكزات مجتمعية تنظيمية جيدة، وعلى مرتكزات امتلاك الحق في مقاومة الاحتلال. هذه الوصية الدرس التي هي المأمول المنشود لإستكمال مسيرة الصمود بإندلاع إنتفاضة شعبية عارمة في الضفة الغربية ضد الإحتلال الصهيوني و سياسة التنسيق الأمني وبقايا جيوبه الساقطة حتما على كل الصعد من أجل إفتتاح عصر جديد ركيزته ضجيج العنوان الواقعي ( ولى زمن الهزائم وجاء زمن الإنتصارات الذي لا يسمعه الصم بل من يتقنون الإنصات فقط للحن وطن التكامل.

قمر الشهداء . جمرة الأرض ونشيد السماء‎

اترك تعليقاً