الأرشيفعربي وعالمي

كيفية الاستفادة من قرض صندوق النقد لمصر – الدكتور عادل عامر

فإن هدف السياسات في ظل البرنامج الذي يدعمه الصندوق هو تحديد قيمة الجنيه المصري على أساس حر أمام العملات الأخرى (أي إرساء نظام سعر صرف مرن)، الأمر الذي من شأنه تجنب تراكم اختلالات مزمنة في عرض العملات الأجنبية والطلب عليها في مصر ويحافظ على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي. وفي ظل هذا الإطار، سنلاحظ تحرك سعر الصرف صعودا وهبوطا، حيث يرتفع أو ينخفض تماشيا مع الأوضاع الاقتصادية.

وسوف تعود مرونة سعر الصرف بمنافع عديدة، وستساعد الاقتصاد المحلي في مصر على التكيف بسلاسة أكبر في مواجهة الصدمات الخارجية، وتدعم قدرة مؤسسات الأعمال المصرية على بيع سلعها وخدماتها في الخارج، وتشجع على المزيد من الاستثمار وذلك بالحد من احتمالات حدوث تغيرات مفاجئة كبيرة في سعر الصرف. وإضافة إلى ذلك، فسوف تساعد على الحفاظ على هوامش الأمان المالية لدى البنك المركزي.

تمثل الفجوة في التمويل الخارجي الفرق بين الحجم المتوقع لعرض التمويل بالنقد الأجنبي والطلب عليه، بما فيه الطلب على النقد الأجنبي لإعادة بناء احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي. وسوف يساعد الدعم المالي الذي يقدمه صندوق النقد الدولي في ظل البرنامج على سد جزء من الفجوة التمويلية. وإضافة إلى ذلك،

فإن أحد الأهداف المهمة للبرنامج الذي يدعمه الصندوق هو تشجيع الشركاء الدوليين والثنائيين، وكذلك المستثمرين من القطاع الخاص، على تقديم الدعم المالي على نطاق أوسع. وبينما تواجه الأسواق المالية الدولية الخاصة أوضاعا صعبة عند هذا المنعطف على مستوى مجموعة كبيرة من الأسواق الصاعدة، ومنها مصر، يحظى البرنامج بدعم مالي دولي وإقليمي كافٍ. 

والأهم من ذلك، استطاعت مصر أن تحصل على تمويل جديد تبلغ قيمته نحو 5 مليارات دولار في السنة المالية 2022/2023 (السنة المالية الأولى للبرنامج)، ستحصل على ملياري دولار منها من خلال بيع أسهم في رأس مال شركات من القطاع العام، بما فيها عمليات بيع كجزء من استراتيجية السلطات بشأن الخصخصة، والتي ينفذها صندوق مصر السيادي. وذلك بالإضافة إلى تمديد ودائع دول مجلس التعاون الخليجي لدى البنك المركزي.

 وسوف يأتي المبلغ المتبقي بقيمة 3 مليارات دولار من دعم متعدد الأطراف. تنفيذ سياسة نقدية تهدف إلى تخفيض معدلات التضخم تدريجيا تماشيا مع أهداف البنك المركزي، إلى جانب تعزيز آلية انتقال آثار السياسة النقدية، بما في ذلك من خلال إلغاء دعم برامج الإقراض.

الضبط المالي وإدارة الدين لضمان تراجع نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي واحتواء إجمالي الاحتياجات التمويلية، مع زيادة الإنفاق الاجتماعي وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة، وإدارة المشروعات الاستثمارية الوطنية بما يحقق استدامة المركزي الخارجي والاستقرار الاقتصادي. إصلاحات هيكلية واسعة النطاق لتقليص بصمة الدولة، وضمان المنافسة العادلة بين جميع الكيانات الاقتصادية، وتسهيل تحقيق النمو بقيادة القطاع الخاص، وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام. كذلك طلبت السلطات الاستفادة من موارد “تسهيل الصلابة والاستدامة”، وهو ما يمكن أن يتيح تمويلا إضافيا بقيمة تصل إلى مليار وحدة حقوق سحب خاصة لدعم أهداف السياسات المرتبطة بالمناخ. إن البرنامج الذي يدعمه الصندوق يتضمن عددا من التدابير الرامية إلى التشجيع على زيادة شفافية المالية العامة.

فالشفافية تساعد الحكومات في الحصول على صورة دقيقة عن مواردها المالية عندما تصنع قراراتها الاقتصادية، بما فيها التكاليف والمنافع الناشئة عن تغيير السياسات والمخاطر المحتملة على مواردها العامة. وكذلك تتيح شفافية المالية العامة للهيئات التشريعية والأسواق والجمهور المعلومات اللازمة لمساءلة الحكومات. ويمكن لزيادة شفافية المالية العامة أن تساعد أيضا على تعزيز مصداقية الخطط المالية للبلاد كما يمكن أن تساعد على تدعيم ثقة السوق وتصورات الأسواق لملاءة المالية العامة. وقد التزمت السلطات باتخاذ عدد كبير من التدابير الملموسة في هذا المجال، بما فيها:

    أن يُشترط على كل الشركات المملوكة للدولة أن تقدم حسابات مالية إلى وزارة المالية على أساس نصف سنوي، وأن تضمن وزارة المالية إتاحة المجال للاطلاع على هذه البيانات، إلى جانب المعلومات عن الدعم المقدم إلى الشركات المملوكة للدولة؛

قيام الجهاز المركزي للمحاسبات بنشر تقارير مراجعة حسابات المالية العامة؛

نشر كل عقود المشتريات التي تتجاوز قيمتها 20 مليون جنيه مصري في بوابة المشتريات على شبكة الإنترنت؛

نشر تقرير سنوي شامل عن التخفيف الضريبي والإعفاءات والحوافز الضريبية؛

قيام وزارة المالية بنشر تقارير عن المدفوعات متأخرة السداد؛

نشر نتائج الموازنة الشهرية خلال 60 يوما بعد نهاية شهر الإبلاغ.

أن المركزي المصري يحاول إيجاد حل يمكنه من الحصول على القرض، دون التسبب في تأخير تباطؤ التضخم المرتفع وتآكل دخل الأفراد. إن الإنفاق من الاحتياطي الأجنبي ليس حلاً لأنه محدود، ولا يمكن مواصلة الصرف منه لإنقاذ العملة.

وقدم البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي ومؤسسة التمويل الدولية، قبل 6 سنوات، تمويلات وصلت إلى 6.5 مليار دولار لتمويل برنامج اقتصادي، عقب موافقة صندوق النقد الدولي على قرض لمصر. وكان صندوق النقد الدولي، أقرض مصر نحو 12 مليار دولار على 3 سنوات لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في 2016، بهدف توحيد سعر الصرف والقضاء على الدولرة. وتتميز القروض المقدمة من البنك الدولي والتنمية الأفريقي بانخفاض نسبة الفائدة المقدمة عليها وطول فترة السداد ووجود فترة سماح قد تصل إلى 5 سنوات.

والانفراجة المتوقعة لأزمة الدولار في مصر، بعد قرض الصندوق والتمويلات الإضافية التي سيتيحها، ستتحدد نسبتها وفق الأولويات التي ستضعها الحكومة المصرية، بالتنسيق مع البنك المركزي المصري. على أن باقي الدفعات تستوجب «حزمة سياسات شاملة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي… تتضمن: تحولاً دائماً إلى نظام سعر صرف مرن، وسياسة نقدية تهدف إلى خفض التضخم تدريجياً، وضبط أوضاع المالية العامة لضمان مسار الدين العام التنازلي، مع تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الضعفاء، وإصلاحات هيكلية واسعة النطاق للحد من تأثير الدولة، وتعزيز الحوكمة والشفافية».

هكذا أصبح صندوق النقد الدولي يؤثر بقوة في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في عدد من البلدان العربية، حيث يبرز بشكل جلي طابعها التقشفي مع ما يصاحبه من تداعيات سلبية على المسألة الاجتماعية بصفة عامة والحماية الاجتماعية ودعم المواد الأساسية بصفة خاصة.

يمارس الصندوق رقابة مباشرة على السياسات العامة العريضة للحكومات، حتى أصبح الصندوق بمثابة مؤسسة فوق قومية مهيمنة على الكثير من الدول، خاصة تلك التي سقطت في فخ المديونية.

ولكي يُحكم الصندوق سيطرته منذ وقت مبكِّر روّج صندوق النقد الدولي بمعية البنك الدولي ابتداء من الثمانينات ما اصطلح على تسميته: “توافق واشنطن” المبني على ثلاث ركائز: تحرير أو لبرلة الاقتصاد، الخصخصة، التقشف.

ويكتسي تدخل المؤسسات المالية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي، في المنطقة العربية طابعاً خاصاً باعتبار تشابك ما هو اقتصادي مع ما هو استراتيجي وسياسي، حيث تدل الدراسات التجريبية على أن منح القروض والإعانات، يخضع لمحددات اقتصادية تتأثر كثيراً بالمصالح السياسية والاستراتيجية مثل درجة القرب والصداقة من الدول الغربية، الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، تزويد الغرب بالبترول، مشاكل الهجرة والإرهاب …إلخ. فالحاجة الاقتصادية وحدها لا تفسر حقاً توقيت قروض صندوق النقد الدولي.

ويكفي أن نعرف أن أمريكا وحدها لها حق الفيتو، حيث أن عمليات التوزيع العامة لمخصصات حقوق السحب الخاصة تتطلب موافقة مجلس المحافظين بأغلبية 85% من مجموع القوة التصويتية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لها 16.5% من مجمل التصويت في مجلس الإدارة الأمر الذي يضمن قدرتها على التحكم بالنهج العام الذي يتبعه الصندوق.

ونلاحظ أن الإجراءات التقشفية الأكثر شيوعاً في العالم العربي تتمثل في التقليص من الدعم المقدم للمواد الأساسية، وتخفيض أو تجميد كتلة الأجور في القطاع العام، وكذلك الزيادة في الضرائب على الاستهلاك، كما شمل إصلاح أنظمة التقاعد وإحداث شبكات الأمان الاجتماعي.

وقد أدى ذلك إلى عواقب سلبية على مستوى التنمية البشرية في العديد من البلدان العربية التي تشكو من نقص كبير في الطاقات البشرية المتوفرة من مدرسين وأطباء وممرضين وعاملين في الحقل الاجتماعي. كما أن تجميد الأجور وعدم تعديلها لتتماشى ومعدل التضخم، أضر بالقدرة الشرائية للعاملين في القطاع العام، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحيوية، مما أدى إلى زيادة ظاهرة الغياب عن العمل وتنامي العمل في القطاع غير الرسمي وتفاقم هجرة العقول والكفاءات إلى الخارج، وسيؤدي كل هذا إلى تراجع ملحوظ في الخدمات العمومية المقدمة، خاصة في الأحياء الشعبية بالمدن وفي القرى.

ومن أوضح الأمثلة على فشل سياسات الصندوق ما حدث في تجربة دول شرق آسيا في أواخر التسعينيات، حيث عصفت بها أزمة مالية في العام 1997 وكثيراً ما يُشار إليها كخير دليلٍ على مخاطر اللجوء إلى الصندوق.

الدكتور عادل عامر

دكتور القانون العام والاقتصاد

وخبير أمن المعلومات 

وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان