الأرشيفوقفة عز

لأول مرة في لفيف الأوكرانية – نضال حمد

نضال حمد

قصة السفر الى لفيف جاءت بعد دعوة كريمة من عمادة كلية الآداب بجامعة لفيف الوطنية (أوكرانيا) ومن شعبة الاستشراق برعاية الدكتورة إيرينا مارتينياك. التي شرفتني كما زميلي الشاعر د. يوسف شحادة أستاذ الأدب العربي في جامعة ياغيلونسكي البولندية العريقة، حيث ألقيت محاضرتي. تكلمت أنا عن تجربتي الكتابية وعن حياتي ككاتب فلسطيني. شرحت للطلبة فيها عن كتبي المطبوعة ومحتوياتها. كما عن نفسي وتجربتي من المخيم الفلسطيني الى العالمين الشرقي والغربي. فيما في محاضرتيه المنفصلتين ركز الشاعر شحادة على بعض شؤون الأدب العربي وخصائصه، وعلى بعض جوانب اللغة الفصيحة وأساليبها.

سأتحدث اليوم عن انطباعاتي ومشاهداتي في لفيف :

في البدء وصلنا محطة القطارات الشهيرة والجميلة في المدينة التي يكتب اسمها بالأوكرانية هكذا كما هو هنا :  Львів

بحسب المصادر الأوكرانية فإن في لفيف تسعة خطوط من السكك الحديدية التي تقدم الخدمات للمسافرين داخل وخارج البلد. كما أن السكك الحديدية في لفيف تعتبر واحدة من أقدم  السكك في أوكرانيا.

بحسب نفس المصدر الأوكراني فإن أول قطار وصل إلى لفيف يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1861.

وفي محطة سكة حديد لفيف الرئيسية حيث وطأت قدمي أوكرانيا للمرة الأولى، يلاحظ كثافة المسافرين والأشخاص المهرولين جارين خلفهم حقائبهم وأطفالهم، فهناك في محطة القطارات بلفيف “الناس مثل النمل”. كما نقول بالعامية.

هذه المحطة الراقية والرائعة صممها شخص يدعى فواديسواف، وبنيت في عام 1904، ويعتبر واحدة من الأفضل في أوروبا من ناحية الهندسة المعمارية والجوانب التقنية.

وتقول نفس المصادر انه في فترة إينتيربيلوم، لفيف كانت واحدة من أهم محاور “سكك حديد الدولة البولندية”. لفيف ترتبط مباشرة بسكك حديد بولندا ومدنها، فضلا عن بلدان ومدن أوروبية أخرى مثل برلين، بوخارست، بودابست.

 لم يسبق لي أن زرت أي دولة كانت ضمن جغرافية الاتحاد السوفيتي سابقا. وزيارتي قبل أيام قليلة لمدينة لفيف الأوكرانية العريقة تعتبر أولى زياراتي للاتحاد السوفيتي المنحل والمنهار. فبالرغم من السنوات الطويلة والمديدة التي قضيتها في بولندا والنرويج إلا أنني لم أحصل على فرصة لزيارة أراضي وجمهوريات البلد الشيوعي الذي كان يهيمن على نصف أوروبا وقسم لا بأس به من آسيا. والذي كان منذ لينين وستالين ومن أتى بعدهما من حكام وقادة سوفييت يصول ويجول في كل مجالات الحياة العالمية.

عندما تدخل أراضي أوكرانيا من الغرب من جهة الحدود مع بولندا تحس على الفور بأنك في مكان آخر مختلف عن أوروبا التي تعرفها وعشت فيها من إيطاليا الى النرويج وحتى بولندا. ترى الفقر لازال مسيطرا على البلد، الذي يعاني من أزمات سياسية وحزبية واقتصادية وأمنية ومواجهة غير متكافئة مع الروس، الذين يدعمون بدورهم الجماعات الروسية المنفصلة عن أوكرانيا. فالصراع بين الأقليات في أجزاء من البلاد ساهم في تراجع البلد ولكنه ليس السبب الرئيسي لأزمة أوكرانيا العالقة بين حلف الناتو وروسيا.

 تظهر من نوافذ القطار القرى المنتشرة والممتدة على جانبي الطريق لتعكس وجه الريف النائي. أما الشوارع فلازالت بدائية وغير مجهزة كما في بلدان الاتحاد الأوروبي وتوحي لك بأن الكثير من العمل والتحسين والترميم والتجديد لا زال ينتظر أوكرانيا.

لكن وبالرغم من ظهور ووضوح الفقر والإهمال بسب على ما يبدو عدم توفر الإمكانيات المالية، فإن عدم تجديد وترميم الكثير من الأمكنة شيء محزن فعلاً. ففي المدينة الكبيرة والهامة والتاريخية، الجميلة والمليئة بالأماكن الأثرية والثقافية والسياحية يمكن للزائر رؤية ذلك بدون عناء.

 رغم تطور لفيف عن السنوات السابقة بحسب ما قاله لي الأصدقاء، إلا أن المدينة بحاجة لضخ ملايين اليوروات أو الدولارات لإعادة ترميم مبانيها التاريخية وطرقاتها ومعالمها الأثرية المميزة، التي بدورها تحاكي تاريخ المدينة وتاريخ البلد وتاريخ إمبراطوريات عديدة مرت من هناك.

 في سنة 1998 أدرجت منظمة اليونسكو مدينة لفيف كمركز تاريخي وثقافي على قائمتها باعتبار مركز المدينة من التراث العالمي. ففي مدينة لفيف تقاليد معمارية وفنية من أوروبا الشرقية وإيطاليا وألمانيا. وفيها عرقيات وأديان منوعة وعديدة. كما أنها مركز مهم للثقافات والديانات المختلفة.

تعتبر المدينة عاصمة المحافطة التي يقطنها ما يزيد عن مليونين ونصف المليون شخص لغاية اليوم من أهم المراكز الثقافية والتاريخية الرئيسية والأساسية في أوكرانيا. كما تعتبر كذلك بالنسبة للبولنديين ولبولندا التي خضعت مدينة لفيف لسيطرتها ونفوذها خلال حقبة ماضية من الزمن. ولغاية اليوم يعتبر كثيرون من البولنديين إن لم أقل غالبيتهم العظمى مدينة لفيف مدينة بولندية ويشبهونها بمدينتهم العريقة كراكوف. فيما يعتبرها الأوكرانيون مدينة أوكرانية أساسية خضعت في الماضي للاحتلال البولندي. كما كانت أيضا خضعت للاحتلال المجري النمساوي. مع العلم ان بولندا نفسها كانت خضعت لاحتلالات عديدة منها النمساوي المجري والروسي وحتى السوفيتي والألماني كما تقول الرواية البولندية.

في الحرب العالمية الثانية ولحسن الحظ نجا المركز التاريخي للمدينة من الدمار. وبقيت مبانيها القديمة وطرقاتها التاريخية سليمة إلى حد كبير.

جامعة لفيف والفنون التطبيقية لفيف أو جامعة ايفانكو جامعة شهيرة تأسست سنة 1660 ولاتزال مبانيها العريقة والقديمة شاهدة على عتقها وعراقتها.

شاهدت ذلك بأم عيني لأنه تسنى لي الدخول الى حرم جامعة إيفان فرانكو للآداب والتجول في مباني قسم الآداب في الجامعة، فرأيتها من الداخل كما من الخارج، مباني رائعة الجمال والفن المعماري القديم. تفوح من جدرانها رائحة العتق والعراقة والتاريخ. كما تفوح من (كانتينا) مطعم الجامعة رائحة الطعام الأوكراني الشهيّ. فقد كنت محظوظا بتناول الطعام والشراب في ذلك المكان بين المعلمين والمعلمات والطلبة والطالبات. وسأتذكر عصير ( كومبوت) طويلا أولاً لأنني كنت بحاجة لشرب أي شيء مرطب في ذلك الوقت بسبب الظمأ وشدة الحر ظهر يوم الجمعة الموافق 8-6-2018، يوم محاضرتي في الجامعة، ذلك اليوم الشديد السخونة. في المطعم شرح لي الزميل والصديق الشاعر الفلسطيني د. يوسف شحادة وهو الذي درس وتخرج وعاش في أوكرانيا السوفيتية وبعد تحولها الى دولة مستقلة. شرح لي معنى (كومبوت) بالعربية لكنني نسيته. على كل حال هذا العصير أنا اعرفه منذ وصولي الى وارسو أو فرصوفيا عاصمة بولندا أول مرة وذلك للعلاج سنة 1984 . فهو يصنع من الفاكهة والماء والسكر ويقدم مع الطعام في أوكرانيا وفي بولندا كذلك. وهو عصير وشراب شعبي مرغوب كثيرا في أوروبا الشرقية.

 في مدينة لفيف مؤسسات ثقافية ذات مستوى عالمي، منها على صعيد المثال لا الحصر ” أوركسترا الفيلهرمونية” و”مسرح الأوبرا الشهير ” و “الباليه”. .

 عقب انهيار الاتحاد السوفيتي في زمن بروسترويكا ميخائيل غورباتشوف عام 1991، استقلت أوكرانيا عن السوفييت والروس لتبقى المدينة جزءا من البلد المستقل حديثا. ولتصبح مع مرور السنين أفضل مدينة أوكرانية للعيش في البلد.

 يقال أن مؤسس مدينة لفيف هو الملك هاليتسكيي من إمارة وشيرنفيستي هاليتش الروثينيه في 1256 في “روثينيا الحمراء”، وأصبحت جزءا من “جمهورية أوكرانيا” في 1939 -1940. وكما غيرها من مدن أوروبا فقد عرفت مدينة لفيف بشاعة الاحتلال النازي الألماني وبقيت تحت نيّره من تموز – يوليو 1941 حتى تحريرها.

 سكان محافظة “لفيف” التي يسمونها في بولندا “لفوف” هم من الأوكرانيين فيما تبلغ نسبة الروس حوالي 7 ٪ من سكان المنطقة ويعيشون في المركز الإقليمي، وحوالي 1 ٪ من سكان المنطقة هم من البولنديين، وهناك نسبة صغيرة من روسيا البيضاء، مولدوفا وجنسيات أخرى. ويوجد في لفوف اتباع الكنائس المسيحية كما هناك بعض أتباع الديانة اليهودية وآخرين يتبعون دين الإسلام. 

 خلال تجوالي في المدينة التي غالبية شوارعها من الطوب وليست مزفتة أو إسمنتية. كنت أشاهد المباني العريقة والجميلة، التاريخية المنوعة، الملونة والمزركشة، والأخرى المهملة ورغم ذلك فهي جميلة وتشدك للاستمتاع بالنظر الى الفن المعماري الرائع. كنت خلال الثلاثة أيام وهي عمر رحلتي الى لفيف كل يوم أسير على قدمي من فندق جامعي سكنا فيه وهو قريب من ساحة “هاراشوفسكي”، وغير بعيد عن ميدان “ميستكيفيتش”، شاعر بولندا الأول الذي مر من لفيف في طريقه الى شبه جزيرة القرم حيث كتب قصديته الشعرية الرائعة “سونيتات القرم” ترجمها الى اللغة العربية الشاعر د. يوسف شحادة. ويقع الميدان في وسط المدينة. وعلى بعد بمسافة 500 متر منه يقع مبنى دار اوبرا لفيف العريق. وهناك كنائس ومباني أثرية كثيرة لم أعد أذكر أسماءها كنت أراها من مسافة قريبة أو مسافة غير قريبة لكنها غير بعيدة. وبسبب درجات الحرارة العالية والارهاق بسبب السير على الأقدام في المدينة، وعدم قدرتي جسدياً على تحمل ذلك في ثاني أيام زيارتي، فضلت في اليوم الأخير أن أستقل الترام والباص وأقوم بجولة في المدينة للتعرف على معالمها. كانت رحلة جميلة عرفت خلالها أماكن جديدة، لكنها غير كافية لذا يجب تكرار الزيارة للتعرف على بقية لفيف.

تنتشر في لفيف حافلات صغيرة أو ميني باصات توفر خدمات نقل للركاب داخل المدينة والى ضواحيها. وفي ساعات الذروة تكون مثل علب السردين مكتظة ويصعب على الانسان أن يحشر نفسه فيها. كما هناك ما يسمونه في البلد “مارشروتكا” توفر خدمة النقل إلى  معظم الضواحي والبلدات، المجاورة وصولا الى بلدة “شيهيني” على الحدود البولندية.

الترام في لفيف يعمل بلا توقف ولكنه من الأنواع القديمة التي يبدو أنها بقيت من الحقبة السوفيتية. خلال التجوال في الترام مرة واحدة رأيت ترام من نوع جديد وممتاز كان يسير على السكة المقابلة. أسعار التذاكر رخيصة مثل أسعار الطعام والشراب والأشياء الأخرى في أوكرانيا.

في لفيف هناك مطاعم ومقاهي وملاهي وبارات ومراقص والخ. منها مقهى “غلوريا” التركي وهو قريب من السكن الجامعي، المكان الذي تم الحجز لنا فيه خلال إقامتنا. وفي المقهى شيشة لمن هم مثلي يحبون تدخين الشيشة. كما هناك مطعمين لبنانين لم أتمكن من زيارتهما لضيق الوقت وعدم توفر العنوان. وهما “ليالينا” و”بيروت هال”. وهناك أيضا بعض محلات تقدم الشاورما العربية والكباب التركي. منها مطعم تركي مقابل ميدان “ميسكيفيتش”، تناولنا فيه الشاورما على مدار يومين. كانت الشاورما لذيذة جدا، لكن صاحب المطعم كان عبوسا، غير مبتسما، ولا بشوشا كأي صاحب مطعم على الأقل ذوقا وأدبا يبتسم للزبائن. كان يبتسم للآخرين إلا لنا … لاحظنا ذلك منذ اللحظة الأولى في اليوم الأول. يبدو أنه لا يحب العرب.

 في لفيف الحياة منعشة والمدينة مليئة بالمقيمين وبالزائرين من الخارج وخاصة من بولندا وروسيا البيضاء. ترى الحافلات  القادمة من البلدين متوقفة في وسط المدينة حيث تفرغ ركابها الذين ينتشرون للزيارة والتقاط الصور وأهم من ذلك للتبضع من أوكرانيا بسبب فارق الأسعار الكبير بينها وبين بولندا.

في الحلقة القادمة سوف أتحدث عن الشعب الأوكراني كما عرفته خلال 3 أيام سواء في المدينة أو في الريف.

 ملاحظة: استعنت ببعض المعلومات في مقالتي عن لفيف من موقع المركز الدولي للطلاب “كومنولث”

 نضال حمد

 لفيف – كراكوف 06-2018