ثقافة وفن

مذكرات فلسطيني- جزائري فَرَضَ اللغة العربية على قيادات شيوعية

 منى سكرية * 

 

ينهي محمود الأطرش المغربي في الكتاب بعنوان «طريق الكفاح في فلسطين والمشرق العربي- مذكرات القائد الشيوعي محمود الأطرش المغربي– 1903- 1939» الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، حكايته المثيرة والغنية والمليئة بالخيبات والآمال والانكسارات بعودته إلى الجزائر قائلاً: «… ولم أعلم بأني مسافر إلى الجزائر إلا حين وصلت إليها» (ص343).

أعدّ الكتاب وحرره ماهر الشريف وهو جزء من 700 صفحة كتبها الأطرش بخط يده خلال إقامته في برلين، وحصل عليها الشريف لكنه اكتفى بنشر ما يتعلق منها بفلسطين والمشرق العربي. أما محمود فهو الاسم الثابت في ما حمله صاحب المذكرات من أسماء عدة، إذ إن عائلته «رابح» من الجزائر، وعُرف بـ «الأطرش» و «المغربي» في فلسطين، واستعمل أسماء حركية عدة واكبت سيرة حياته صعوداً وهبوطاً، علانية وبالسر، ومنها: «مارات» خلال إقامته في موسكو، «مسعود» بعد رجوعه إلى فلسطين من دورة في الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق في موسكو، «أبو داوود» في لبنان، و «سليم عبود» في سورية، و «إيزيدور» أثناء الثورة الجزائرية، الأمر الذي يوحي بالترابط بين مسيرة حياته المشبعة بالكدح والفقر والسجون والتنقل. فإلى مهام حزبية شديدة التعقيد تولى تنفيذها أو التخطيط لها (انتخب في اللجنة التنفيذية للكومنترن- الأممية الشيوعية)، وأدارها بحنكة القادر على المناقشة والتحاور والإقناع والطهرانية، وكذلك اصطدامه أو صدمته بوقائع يومية على صعد قيادة النضال الوطني الفلسطيني تحت الانتداب البريطاني وتغلغل الصهيونية، أو «اختراقات» بعض «الرفاق الشيوعيين» لمسيرة الحزب والنيل منه (في حالة رفيق رضا، كما يفصح عن شكوكه فيه منذ التقاه في باريس، ويصفه بالمارق- وللتذكير فإن رضا متهم بالوشاية في اعتقال فرج الله الحلو)، ومثلها تأففه من موقف الحزب الشيوعي الفرنسي تجاه الجزائر، واعتقاله في باريس بتهمة «الإرهابي الفلسطيني»، وبدايات تلمسه حقبة ستالين المتشددة والقاسية بحق معارضيه فيقول: «… ولم ينته الأمر عند تلك الاعتقالات، بل نشأ جو رهيب ومرعب من الشكوك والشبهات بشأن كثير من الرفاق، وأخذ يسود في الأفق شيء من عدم الثقة بينهم، حتى أصبح كل رفيق منا يحترز من الآخر» (ص329)، مع «لطشة» صريحة من المغربي بحق خالد بكداش بعد لقاء بينهما في باريس العام 1939.

سيرة حياة الأطرش هي سيرة مجتمع فلسطين (على رغم تركيزه على يافا) الذي عانى الظلم تحت الانتداب البريطاني وتغلغل الصهيونية فيه، وإخفاق قيادة العمل الوطني الفلسطيني وسعيهما الدائم إلى التفاوض، «ونجاح البريطانيين في عرضهم المناصب السامية على الزعماء الوطنيين، وتمكنهم بواسطة ذلك من تفتيت وحدة قيادة الحركة الوطنية، وتحويل معارضة الزعماء الوطنيين للانتداب والصهيونية إلى صراع ضد بعضهم بعضاً» (ص95)، كما ذكر مسيرة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني على أيدي «ثوريين يهود قدموا إلى فلسطين في إطار الهجرات الصهيونية»، والصراعات شبه اليومية مع عدد منهم في إطار رفضهم «تعريب» الحزب، وصعوبات القبول الشعبي من الطرفين الفلسطيني واليهودي لرفاق الحزب الواحد «فكنا نعتمر الطربوش والقبعة معاً في الحي الذي نسير فيه» (ص145)، كما أنها صورة ثورات وانتفاضات شعبية فلسطينية ضد الانتداب لطالما انكسرت أمام الوعود والتفاوض.

الأطرش المولود في فلسطين من أبوين جزائريين مهاجرين عن طريق الحج إليها، وعى على حكايات أمه بعد موت الوالد المبكر حول «ما ارتكبه جنود الاحتلال الفرنسي في بلادها من الفظائع، وكيف كانوا يبقرون بطون النساء ويقتلون الأطفال والشبان والشيوخ بلا رحمة، وينهبون ويدمرون القرى الخ (ص20) ليتكون وعيه المبكر على فظائع الانتداب البريطاني في فلسطين ووصفه المريع لأنواع التعذيب في السجون التي أشرف عليها هؤلاء، وعلى تبدل سلوك الأولاد اليهود بعد حصول الانتداب «ليحل محلها العدوان علينا والأذى بنا» (ص44)، لكنها تغيرت «بعد ثورة 1920 وسقوط قتلى للصهاينة أضعاف ما سقط لنا» (ص44).

هذا الوعي الذي اكتسبه من تلقيه العلم ومن عمله المبكر وقراءته الجرائد والمجلات المصرية والسورية التي كانت تصل إلى فلسطين ومنها «المقتطف» و «الهلال» و «الأهرام» و «ألف باء»، وما تحمله من أخبار التظاهرات والإضرابات في أوروبا للمطالبة بحقوق العمال، وعن ثورة 17 أكتوبر الشيوعية العام 1917 في روسيا «وثورة البلشفيك التي سمعت بها لأول مرة». كما كانت تحمل أخبار الثورات الوطنية في مصر ضد الاستعمار البريطاني، ومقاومة الشعب السوري للانتداب الفرنسي،» ولكن «أشد ما كنت أمقته هو الدعاية الصهيونية التي كان ينفق عليها الصهيونيون بسخاء وينشرونها على صفحات الجرائد العربية المحلية لتبشر الشعب العربي الفلسطيني بما ستجره عليه اليهودية من الخير العميم والتقدم والازدهار الصناعي والزراعي والعلمي» (ص50)، هذا الوعي دفعه للتنبُّه إلى مخاطر الصهيونية قبل سواه «وبدأت شرح نيات الصهيونية في بلدنا من خلال قراءتي مقالاً عن استيلاء الفرق الصهيونية بمساعدة الجيش البريطاني على 22 قرية في مرج إبن عامر وطرد سكانها الفلاحين من أرضهم وديارهم بالقوة بعد شرائها من عائلة سرسق الثرية المقيمة في بيروت» (ص52)، ومثلها يحكي عن بيع عائلة تيّان اللبنانية أملاكها في فلسطين.

يستعرض الأطرش نشوء الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي، ويغمز من مواقف للحزب الشيوعي المصري، ومثله عن «عدم الوضوح الفكري في سياسة الحزب الشيوعي الفلسطيني وخصوصاً من قضايا الهجرة الصهيونية» (ص79)، ويفرد لسهام نقده مساحة من المرارة تجاه مواقف القيادة الوطنية الفلسطينية في تلك الفترة، معززاً أقواله بأسماء بعض هؤلاء القادة الذين، كما يذكر، أن مصالحهم لطالما ارتبطت بالانتداب البريطاني وبالصهيونية أكثر منها بقضايا شعبهم ومخاطر الصهيونية.

يتساءل الشريف في خاتمة الكتاب عن المكانة التي تحتلها المذكرات بين مصادر الكتابة التاريخية وما مدى صدقيتها مقارنة بوثائق الأرشيف، فورد عدد من الملاحظات منها أن المؤرخين اعتادوا إعطاء الوثائق التاريخية أهمية كبيرة في أبحاثهم، بينما تعاملوا مع المذكرات بصفتها مصدراً ثانوياً، لافتاً إلى إيلاء البحث التاريخي الجديد تقديره مكانة المذكرات… الأمر الذي نلمسه في تعاطي الشريف مع مذكرات المغربي بمقارنتها أثناء تدقيقه بتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني مع مذكرات رفيقه في التأسيس نجاتي صدقي (صدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية العام 2001)، وفي وضعه مذكرات هذين القائدين الشيوعيين في مواجهة المعلومات الواردة في وثائق الأرشيف السري للكومنترن الخاص بفلسطين والذي يغطي الفترة ما بين 1920- 1937 «والذي بذلت جهوداً مضنية على أكثر من صعيد طوال عشر سنوات حتى استطعت الوصول إليه العام 1989» (ص351)، وقد صدرت العام 2004 في كتاب بعنوان «فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن» عن دار المدى- دمشق).

نشير إلى غنى الهوامش المتعلقة بتعريف الأسماء وتواريخ الأحداث وتصحيح بعضها والتي أرفقها الشريف بوقائع مذكرات المغربي، مما أضفى دفقاً من المعلومات يستفيد منها أي باحث، ولكن على رغم توضيح الشريف أنه اقتصر في عمله على مذكرات المغربي حول الفترة المشار إليها آنفاً، إلا أن حشرية ما تدفعنا إلى معرفة مواقف وتعليقات المغربي تجاه أحداث حصلت بعد تلك الفترة، ومنها خاصة اعتراف الاتحاد السوفياتي بقيام إسرائيل العام 1948 وتبعته في ذلك الأحزاب الشيوعية العربية، إلى أحداث مصيرية عاشتها الأمة العربية، ومآلات الشيوعية بين الفكرة والتطبيق في بلد المنشأ وبلدان جوارها وتخبطها في آن، لا سيما أن محمود الأطرش المغربي وافته المنية العام 1978 في برلين، والـ700 صفحة موجودة لدى القيادي الشيوعي اللبناني جورج بطل… أي أن محمود شهد صعود الشيوعية، وشاهد ملامح انكساراتها، وتابع خطوط سيرها الأممي.

* صحافية لبنانية

:::::

جريدة “الحياة”

اترك تعليقاً