وقفة عز

من يومياتي: بيروت ما بعد الحصار والمجزرة 1982 – 1983 – نضال حمد

الى الشهيدين أحمد طه وباتريس شاتيلا …

يوميات الجراح والحفاظ على السلاح بيروت ما بعد الحصار والمجزرة 1982 – 1983 .

 بقلم نضال حمد في 14-06-2020 ‎

في غرفة  بمخيم شاتيلا بقيت مع رفاقي المشردين لعدة شهور ثم سافرت  للعلاج في ايطاليا مع بعثة طبية ايطالية وضمن منحة علاج أمنتها لنا منظمة التحرير الفلسطينية عبر الحزب الشيوعي الايطالي العريق وبلدية مدينة بولونيا. تلك التي كانت تسمى بولونيا الحمراء نسبة للقوة الكبيرة للحزب الشيوعي فيها. سافرت مع عدد كبير من الجرحى والمرضى 98 لبنانيا بالاضافة للطفل فادي من مخيم شاتيلا الذي فقد مثلي ساقه نتيجة القصف الصهيوني لبيروت. في بولونيا كنت اعتني بفادي عناية الأب بإبنه.. وبقيت كلمات والدته التي طلبت مني في مطار بيروت الاعتناء به تطن في أذني وعلى مساعمي من تاريخ سافرنا حتى عودة فادي الى مخيم شاتيلا بعد شهور من العلاج. عاد فادي ومنذ ذلك اليوم انقطع الاتصال بيننا ولا أعرف عنه أي شيء.

سافرنا من بيروت الى ايطاليا بالطائرة عبر تنسيق أجرته منظمة شامل في لبنان التي تابعت الموضوع وتولت المسؤولية بطلب من منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروج الأخيرة صيف 1982 من لبنان وفقدانها لدورها هناك..

في الغرفة بمخيم شاتيلا كان الرفاق والأصدقاء يأتون يوميا لعيادتي ولزيارتي والبقاء معي لساعات ومنهم من عاش وسكن معي وبعدي لشهور في الغرفة التابعة لبيت العم ابو اسماعيل حمد رحمه الله وأمد في عمر أبناؤه وبناته ورحم زوجته عمتنا وأمنا الطيبة أم اسماعيل حمد.

من ضمن الرفاق الذين زاروني في تلك الحقبة الصعبة من زمن الكفاح والتغلب على الجراح والمحافظة على السلاح، كان الصديق وابن البلدة والمخيم غسان خليل، الذي تم اعتقاله في بيروت من قبل الأمن اللبناني، الذي كان يخضع لسيطرة ولنفوذ عصابة بشير الجميل والقوات اللبنانية. لكنه خرج بعد تدخل جهات لبنانية فاعلة ولأن له قريب لبناني من جهة والدته اللبنانية الجنوبية، التي عاشت بعد النكبة في مخيم عين الحلوة حتى وفاتها، فالسلام لها والخلود لروح الخالة أم كامل.

غسان كان محظوظا كما قال لي وكما عرفت لأن غيره من الأصدقاء بقوا في السجون والمعتقلات اللبنانية لسنوات أو لأشهر ومنهم من قُتِلَ تحت التعذيب، مثل الشهيد باتريس شاتيلا ابن مخيم شاتيلا وجبهة التحرير الفلسطينية. للعلم باتريس جريح سابق فقد عينه وساقه في معارك الدفاع عن المخيمات والثورة الفلسطينية في لبنان أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. في مناطق أخرى من العالم المتمدن والمتحضر تكون الجراح شفيعة لصاحبها لكن في لبنان تكون تلك الجراح سببا إضافيا للتعذيب الأشد وللفتك بجسد الضحية.

اعتقل “باتريس” الفدائي الجريح، ابن المخيم والتضحيات من قلب مخيم شاتيلا، الذي كان لازال ينزف الدماء ويذرف الدموع على ضحايا المجزرة والدماء التي لم تجف بعد.. تم وضعه في سجن “رومية” حيث مسلخ التعذيب والارهاب التابع في ذلك الوقت للأجهزة الأمنية الرسمية اللبنانية، والمسيطر عليه فعليا من قبل عصابات أيتام بشير الجميل عملاء الكيان الصهيوني وشركاؤه في المجازر والمذابح والقصف والحصار والتجويع والترهيب والترويع.

كان باتريس بساق واحدة يجر عربة المعوقين التي كانت تقل رفيقه من مخيم شاتيلا الجريح أحمد طه، الذي أصيب بجراح خطيرة في ساقيه في بيروت المحاصرة. توفي أحمد بعد سنوات في مدينة “هلسنبوري” السويدية بعد معاناة مع مرض عضال، حيث كان لجأ الى السويد بعد حرب المخيمات الشهيرة.

كان أحمد طه من الرفاق الذين خدموا في مكتب الأمانة العامة ومع مرافقة الأمين العام لجبهة التحرير الفلسطينية، الشهيد القائد طلعت يعقوب. عرفته مفرطا في الشجاعة هو ورفيقه الشهيد فيما بعد خالد سرية. بالمناسبة يعرفهما الناس معرفة جيدة في مخيمي صبرا وشاتيلا. أما أنا فأعرفهما معرفة عميقة وعن قرب من خلال سنوات العمل النضالي.

بعد اصابتي أصبحنا الثلاثة جرحى ومعوقين جسديا، حرص أحمد طه ومعه باتريس الذي كان يجر عربة أحمد المتحركة على عيادتي وزيارتي في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت الغربية. ثم انقطعت الزيارات بعد اعتقال باتريس وتخفي أحمد بسبب ملاحقات الأجهزة الأمنية الفاشية. ولم نلتق ابدا منذ ذلك الوقت ليكون آخر لقاء جمعنا في غرفة بمستشفى في الجامعة الأمريكية ببيروت.

اليوم وبعد كل السنوات التي مرت على حصار بيروت أتذكر الشهيدان باتريس وأحمد وأتذكر الشهيد خالد سرية ومجموعة كبيرة من شهداء جبهتنا وثورتنا وقضيتنا. فكلما حضرت صورهم أمامي أزداد تمسكي بنهج المقاومة وتعززت قناعتي بضرورة مواجهة نهج الاستسلام ومن فرطوا ولازالوا يفرطون بالتضحيات والثوابت ودماء الشهداء..

كلما رأيت صورة شهيد أو تذكرت احد الشهداء وأمه ووالده وشقيقه وشقيقته، زوجته أو خطيبته وحتى حبيبته تيقنت تماما بأن التخلص من المستسلمين مرة واحدة والى الأبد واجب وطني مقدس. على الأاقل وفاءا للشهداء ولعائلاتهم ولكل من أحبهم.

في تلك الفترة كان القائد الشهيد طلعت يعقوب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية يتواصل مع الرفاق من مخيم اليرموك في دمشق وذلك عبر رفاق ورفيقات وأصدقاء وصديقات جلهم-ن من اللبنانيين واللبنانيات. كانوا وكن ينقلون وينقلن الرسائل وأحيانا قليلة بعض المساعدات المادية.

يمكن القول أن غرفتي الصغيرة في منزل دار عمي أبو اسماعيل وبرعاية أم الفدائيين العمة أم اسماعيل كانت بمثابة مكتب يجمع كل الفدائيين الذين تقطعت بهم السبل بعد احتلال الجنوب وبقية أرض لبنان، وبعد الانسحاب الفلسطيني من بيروت وحصول مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982. كانت حاضنة وجامعة خاصة للفلسطينيين من مخيمات الجنوب اللبناني بالذات مخيم عين الحلوة، بالاضافة لبعض الرفاق العرب من بلدان عربية عديدة.

يتبع

نضال حمد