من هنا وهناك

مواجهة نتنياهو بالوحدة والانتفاضة – منير شفيق

عندما يعود المرء بذاكرته إلى مراحل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وأكثر، ليستعيد ما كان يُقدّر ويُكتب عن مشروع الكيان الصهيوني وخططه المستقبلية، كان أكثر ما يشار إليه أن “دولتك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات”، وتكرست هذه المقولة عندما بُني خط بارليف 1967/1968.

 

ومن الناحية الاستراتيجية، كان يُشار إلى أن الكيان الصهيوني بتحالفه مع تركيا وإيران الشاه وإثيوبيا يطوّق العرب ليضعهم بين المطرقة والسندان.

 

وكان تفوّقه بالسلاح والتكنولوجيا هائلاً، ولا يُقارن بما هو مفروض من حصار على البلاد العربية، سلاحاً وتكنولوجيا وعلوماً، حتى وصل الأمر إلى أن تمنع عدة جامعات مرموقة في العالم من وصول العربي إلى مستوى في الكيمياء أو الفيزياء إلى ما يتعدى مستوى معينا. ووصل الأمر إلى أن الإمارات (الأب رحمة الله عليه) حاولت أن تشتري طائرات هيلوكوبتر عسكرية (ربما ثلاث)، فكان رد فعل الكيان الصهيوني الضغط بعدم إتمام الصفقة، أو تسليح مضاعف مقابلها.

 

المهم في هذه المقالة أن نتوقف عند مقولة “دولتك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات”. وكان مما يستدل على هذا الهدف الاستراتيجي الأبعد أن الخطين الأزرقين في علم الكيان الصهيوني يرمزان إلى نهريْ النيل والفرات.

 

ولنتأمل الآن هل ثمة أحد عاد يذكر هذا الهدف الذي حلم الكيان الصهيوني من أجل تحقيقه؟ هل ثمة من يفكر باحتلال سيناء أو جنوبي لبنان، أو حتى قطاع غزة؟ فكل المشروع الصهيوني منحصر الآن هو و”صفقة القرن” في ضم القدس والأغوار والمستوطنات. وقد أقيم جدار في الضفة الغربية للانكفاء إليه عند الاضطرار. والطريف أنهم يفكرون ببناء جدار بينهم وبين جنوبي لبنان، ويأملون عبثاً أن يكرسوا ضم الجولان، أو في الأدق، بعضه.

 

ماذا يعني هذا؟ هل يعني أن المشروع الصهيوني يتمدد ويتوسع، أم راح ينحسر قياساً لأحلام “دولتك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات”، أو حتى أحلام ما بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، أو حتى فلسطين كاملة؟ علماً أن قطاع غزة في التوراة من “أرض إسرائيل”، وفيها ذكريات “شمشون ودليلة”، ودام احتلاله وبناء المستوطنات فيه 38 عاماً.

 

المقصود بهذا السؤال تحديد الاتجاه العام للمسار من الخمسينيات إلى اليوم، ولكن لا يعني أن هذا الانحسار كافٍ، أو هو مقبول، ولا يعني تقليلاً من خطورة ما يجري من ضم وتهويد للقدس، أو اعتداءات على المسجد الأقصى، لاقتسام الصلاة فيه، وتمهيداً لهدمه، ولا يعني التقليل من خطورة ضم الأغوار أو أي شبر من الضفة الغربية.. بل لا يعني أصلاً القبول ببقاء الكيان الصهيوني من حيث أتى، ولو في حدود 1967، أو حدود خريطة التقسيم لعام 1947.

والمقصود إلى جانب ملاحظة الاتجاه العام بأنه ينحسر ويتقوقع، أن نواصل مشروع عدم السماح له بالانحسار فقط، أو التقوقع فقط، أي التأكيد على خطة مواجهة ما جرى ويجري من ضم في القدس والضفة الغربية، وكلنا عزيمة على إنزال الهزيمة بإجراءات الضم، ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، من خلال وحدة وطنية شاملة، تذهب باستراتيجية المقاومة والانتفاضة الشاملة حتى تحرير القدس والضفة بلا قيد أو شرط، ولكن وليس لإقامة دولة، وإنما لإعداد الوضع الجديد لمواصلة استراتيجية التحرير الكامل.

 

وهنا علينا أن نرى أن استراتيجية تطويق الأمة العربية بتركيا وإيران الشاه وإثيوبيا هيلاسيلاسي، أصبحت في خبر كان. بل ويجب أن لا يُعتبر اتجاه بعض الدول المهرولة للتطبيع، معوّضة عن ذلك الطوق الاستراتيجي. فهذه هرعت وتأمل منه أن يحميها، وهو المتراجِع. وحالهما مثل التقاء “المتعوس وخايب الرجا”.

 

طبعاً هذا البُعد في الصورة العامة، يجب أن يضاف إلى تقدير الموقف العام، الذي يرى موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية (والداخلية الصهيونية والأمريكية والرأي العام العالمي)، ليست في مصلحة الكيان الصهيوني.

 

وبالمناسبة حتى نقطة الضعف العربي المتمثلة بدول الهرولة للتطبيع، أو بما يدور من صراعات داخلية، يجب ألاّ تحسب في مصلحته إلاّ من زاوية معينة. ولكن من زاوية أخرى، يجب أن نتذكر أن دول النظام العربي السابق كان بعضها مقيداً، أو مهدَداً، وبعضها كان قوياً على شعبه والمقاومة. ولذلك حدث في زمانها ما حدث من نكبة 1948، ومن كوارث لاحقة في فلسطين، وفي المقاومة وحركة التحرر العربي. فالوضع الراهن من هذا البُعد، ربما هو أفضل في مسيرة المقاومة والمواجهة الراهنة، من الوضع السابق ابن الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من حيث موازين القوى.

 

يتمثل الوضع الأشد خطراً، في هذه المرحلة، في السياسات الأمريكية والصهيونية: “صفقة القرن”، وسياسات الضم المتسارعة والسريعة، والتي يريد منها نتنياهو أن يسابق الزمن، باعتبار هذه اللحظة هي الأفضل بالنسبة إليه في تنفيذ سياسات الضم، وما عبرت عنه وثيقة “صفقة القرن” (المزعومة كصفقة).

 

هذا يعني أن السرعة في المواجهة من جانبنا مطلوبة أيضاً، وما ينبغي لنا أن نغلّب أية مهمات على مهمة تحقيق أوسع وحدة وطنية، لمواجهة تلك السياسات من خلال إطلاق انتفاضة شاملة، وجعل الاحتلال مكلفاً جداً، مع الوقف الحازم لأي تنسيق أمني، وقلب الطاولة بالجماهير والعصيان المدني، وإنهاء الوضع الراهن الذي تعمل فيه سلطة اتفاق أوسلو. فليس هنالك من عمل لها إذا انطلقت المواجهات الشعبية وأشكال المقاومة الممكنة. ويصبح الشيء الوحيد المطلوب فعله هو إدارة الصراع، وقيادة الانتفاضة ليس من خلال السلطة، وإنما من خلال قيادة تفرزها الوحدة الوطنية، ويفرزها شارع الانتفاضة.

ثمة فارق هنا بين وضع يسوده الاحتلال، ويراد تدبيره في ظل الاحتلال من جهة، وبين وضع اندلاع الانتفاضة الشاملة المشتبكة مع الاحتلال، والمقطعة كل علاقة مع الاحتلال. ومن ثم يصبح التدبير تدبيراً، في ظل انتفاضة ومواجهة لأسابيع وأشهر، وربما لأكثر.

 

ولهذا لا معنى لسياسة إنهاء الانقسام وإجراء مصالحة تتناول أسباب الانقسام، فهذه السياسة لا تصلح أمام سياسة تتطلب السرعة في تشكيل وحدة وطنية شاملة لمواجهة الاحتلال والضم والاستيطان وصفقة القرن، وذلك من خلال الاشتباك في انتفاضة شاملة. وهي سياسة لا تحتمل التأجيل وإطالة الحوارات ونبش الماضي وفتح الجراح.

 

أيضاً لا معنى لأن يبادر سليم الزعنون لفتح ملف المجلس الوطني، وهو الذي على الرف وأكله الغبار، مفتقراً للصلاحية والشرعية، أو إشراك حماس والجهاد في م.ت.ف، وإعادة بنائها أو إجراء انتخابات، فيما يسابقنا نتنياهو في الإسراع بالضم والسيطرة المباشرة على الضفة الغربية والمسجد الأقصى.

 

باختصار: وحدة وطنية عاجلة، انتفاضة شاملة حتى مع كورونا (بالكمامات)، فلا تتركوا نتنياهو يذهب بالضم وتنشغلوا بغير مواجهته. وسترون كم هو ضعيف، وكم دونالد ترامب معزول ومربك وهزيل