من هنا وهناك

نحن أكثر من «شارلي إيبدو» – نصري الصايغ

لا تحتاج فرنسا إلى من يدلها إلى الصواب أو يعصمها من الخطأ. لديها سبلها في مداواة جراحها وفي مساءلة أمراضها وفي الحفاظ على قوتها وفي اعتمادها على شعب، هبَّ بأكثريته ليدافع عن وطنه في مواجهة البربرية.

ثبُتَ أنها ليست بحاجة إلى صوتنا. نحن المقيمين في مشرق غارب عن حاضره ومغلوب في ماضيه ومؤجل عن مستقبله، لا يحق لنا أن نقدم النصح، فليس عندنا من بضاعة الدولة ومن فائض التجربة ومن تاريخ قرن من الزمن العربي البائد، ما يصلح لفرنسا، ولا لأي دولة من الدول المجهولة..

لدى فرنسا دولة حقيقية، تامة المواصفات. لديها مؤسسات ديموقراطية تصون الحريات وتنجب الحلول وتنتج المشاريع وتقرر ما تراه مناسباً. لديها أجهزة أمنية تطيع الإدارة السياسية وتحترم القانون وتتقيد به. لدى فرنسا تراث فائض من الحرية الفكرية والحريات السياسية والحزبية والنقابية… الخ. لديها سجل حافل بالإنجازات: علمانية صلبة، قضاء مستقل (يخشاه رجال السياسة لشدة تعلق القضاة بمبدأ المساواة التامة أمام القانون). لديها شعب يسأل ويسائل مسؤوليه، وأحزاب تقدم حساباً بإنجازاتها وتنال عقاباً على إخفاقاتها، وقيادات تذهب إلى بيوتها للراحة، بعد انتهاء ولاياتها.

كل ما لديها، ليس عندنا منه شيء. فالصمت أبلغ من الكلام، والخرس العربي فضيلة سامية، لا يتقنها طغاة الكلام والإعلام الذين يطربهم الضجيج الذي يخر بأعلى صوته، بلا صدى.

ليس عندنا ما نقدمه لفرنسا ولا لغيرها من الدول والشعوب. ولا تجوز المقارنة أبداً، بين ما نحن فيه من بؤس سياسي ووطني واجتماعي، وما عليه الغرب من وفرة في الإنجازات. لدينا من الإخفاقات ما يملأ قرناً من الزمن: فشلنا في إنجاز مشروع النهضة، في إقامة دولة، في إنشاء دستور، في فصل الدين عن الدولة. فشلنا في إقامة أنظمة عادلة ومناسبة، وتفوقنا في إنجاب استبداد وفي تفريخ حزبيات وعصبيات دينية ومذهبية وأقوامية، وأبدعنا في تفتيت المجتمعات وتمزيق الجماعات، وبلغنا المرتبة الأعلى في إنتاج البربريات السفاحة والمجرمة والقاتلة.. لقد نجحنا في إلغائنا. فلنخرس قليلاً، أو بالأحرى كثيراً.

على أن هذا لا يمنع الشكوى المحقة من فرنسا ومن الغرب عموماً. شكوى موثقة تفيد بأن فرنسا، ضحية الإرهاب الذي أصابها هي شريكة ومؤيدة لإرهاب مستدام. والأدلة كثيرة. إنما يسبقها استدراك:

المبادئ التي يفتخر بها الغرب ويتمسك بها، لا نجد ترجمة لها إلا في القارة البيضاء. كأن الشعوب والأمم الأخرى، إما من كوكب آخر، أو خلاسية القارات. ما يظن أنه شرعة دولية لحقوق الإنسان ولحرية التعبير ولحرية الاعتقاد وللتعددية الثقافية وللديموقراطية وللمساواة وللعدالة، لا يعدو أن يكون اختصاصاً للغرب في التعامل مع ذاته. أي، تصان حقوق الإنسان في الغرب وانتهاكها فيه فضيحة، وانتهاك هذه الحقوق في دول أخرى، لا يحظى باهتمام، إلا إذا كان ذلك في معرض الانتقام من نظام، أو لمحاسبة معاند أو ممانع. هنا، الحقوق تتحول إلى سلعة سياسية مقيتة. والغرب يحتسب إسرائيل منه، علماً أن اليهود كانوا ضحيته.
فرنسا، ومعها غرب شديد البياض، كان يعتبر الجنرال فرانكو في مراكش، بطلاً كبيراً. لا تحسب جرائمه ولا يحاسب على مجازره. منطق الحساب لفرانكو، لم يبدأ إلا بعدما أظهر بربريته ضد الإسبان البيض.
تحتمل السياسة وحدها ازدواجية المعايير، أما المبادئ الإنسانية والحقوق الإنسانية، فازدواجية المعايير فيها، جريمة.

هنا لب الشكوى.

لا يُظَنُّ أبداً، أن فرنسا والغرب، يجهلان سردية المأساة الفلسطينية. ما كان مجهولاً ومكبوتاً قبل عقود، بات معلوماً على ألسنة المؤرخين الإسرائيليين الجدد. يقول إيلان بابه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين ما يلي: «لكن قصة 1948 ليست معقدة على الإطلاق. إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها».

قد يقال: هذا ماضٍ. لكنه ماض مستدام. لا قدرة لتعداد الجرائم البربرية التي ارتكبتها إسرائيل. يرصد كتاب «إسرائيل، فلسطين.. الكتاب الأسود»، الذي وثّقت وقائعه منظمة «مراسلون بلا حدود»، جرائم إسرائيل في القتل والإبادة والتعذيب واحتلال الأراضي وتدمير الممتلكات وقصف المخيمات واعتقال الأطفال وتعذيب وإذلال الصحافيين. هذا ليس ماضياً مضى. هو ماض مستمر في الحاضر والمستقبل.

تعرف فرنسا، ومعها الغرب، ماذا ترتكب إسرائيل بالتفصيل. تعرف قصة جدار العار وتسكت عنه، وهي التي لم تصمت يوماً عن جدار برلين، في القارة البيضاء. تعرف الحكم الدولي الذي صدر بحق الجدار. تعرف الاستيطان البربري المتوحش. تعرف الكثير عن غزو لبنان، عن احتلال الجنوب، عن تدمير الضاحية، عن إبادة قرى، عن حروب مستدامة على غزة.

فرنسا، ومعها الغرب، يعرفان ذلك جيداً، ومع ذلك، لم نجد فرنسا على الحياد، (باستثناء مرحلة الجنرال ديغول). هي دائماً مع إسرائيل في حروبها البربرية. نحن آلاف المرات «شارلي إيبدو». ولم يرتعش الغرب أو يذرف دمعة أو سجل موقفاً.

لدينا ما نقوله لفرنسا في هذا المجال. إن تعرض فرنسا لجريمة بربرية أدت إلى قتل مجموعة من رسامي الكاريكاتور في مجلة «شارلي إيبدو»، يستحق الإدانة والاستنكار والغضب. فلسطين، ومن معها يتعرضون لحروب بربرية متواصلة، ومع ذلك، فلا فرنسا ولا الغرب، يهتم بما يصيبنا في غزة وجنين وقانا والضاحية وبيروت و…

البربرية هي البربرية. الإرهاب هو الإرهاب. ليس هناك بربرية مبررة (إسرائيل) وبربرية مدانة. وجه البربرية واحد، مهما تعددت أسبابه. حرب بوش على العراق، بربرية. حروب إسرائيل بربرية. أنظمة الاستبداد العربية بربرية، «داعش» و «النصرة» والفروع، بربرية…

لدينا ما نقوله لفرنسا. الفرنسيون المسلمون في فرنسا، في أكثريتهم، فلسطينيو الهوى والهوية. وهذا ما يغذي حالة الانقسام والتمرد والغضب.

يكاد موقف فرنسا يكون شبيها بموقف إيان سموتس، الذي وقف في أوبراوسان فرنسيسكو في أميركا، برفقة ممثلي واحد وخمسين بلداًن «ليقرأ بتأثر ظاهر»، نصوص ميثاق الأمم المتحدة، الهادفة لإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، والتي تعلن الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان… الخ. إيان سموتس هذا، كان رئيس وزراء جنوب أفريقيا العنصري، الذي يحمل سجله القمع الوحشي ضد السود.

كم رجل دولة في أوروبا والغرب يشبه إيان سموتس؟ كثيرون. أليس كذلك؟ ترى، ماذا كان يفعل بنيامين نتنياهو في باريس؟

إن فرنسا، ضحية ليوم أو لأيام. نحن ضحية قرن من البربريات. فهل من يعي هذه المقارنة؟

nsayegh@assafir.com

اترك تعليقاً