من هنا وهناك

نقاط على الحروف اغتيال زعيم النهضة – ناصر قنديل

نقاط على الحروف اغتيال زعيم النهضة – ناصر قنديل


– اليوم هو يوم مفعم بالمشاعر يتكرّر منذ خمسة وستين عاماً، يوم جلب بطريقة درامية زعيم ومؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده ليلاقي قراراً جاهزاً بالإعدام، ويكفي بعيداً عن التفاصيل والحيثيات أن نعلم من المذكرات التي كتبها قادة دول وحكومات كانت شريكة في مؤامرة إلقاء القبض على سعاده وصولاً إلى إعدامه، أنّ قراراً دولياً بالتخلص من سعاده وجد فرصة مدبّرة لتحقيق الهدف، بما يجعل السياق الحقيقي لقرار الإعدام عملية اغتيال مرتبة، لا تفسّرها الوقائع المتداولة، فالقرار أكبر بكثير، والسياق الحقيقي في مكان آخر.

 

– ما يرويه القضاة الذي استجلبوا لتصنيع مسرحية المحاكمة، والضباط الذين رافقوا عمليات نقل سعاده، إلى حيث ينتظره الموت البارد، وما يرويه الذين رافقوا سعاده في اللحظات الحارة الأخيرة من حياته، كلها سجلّ مليء بالمشاعر المتناقضة، لمؤامرة سوداء ألبست ثوب الأمن والقضاء، وبطولة فذة وشجاعة استثنائية لقائد تاريخي وزعيم عظيم عرف منذ البداية ماذا يريد وعرف في تلك اللحظة أنه يدفع ثمن ما أراد، فسدّد فاتورته دماً وجسداً بكلّ فخر وثبات وعزيمة، تاركاً لتلامذته ومريديه وشعبه وأمته، نموذجاً فريداً للمفكر والزعيم والقائد والمناضل، ولكن قبل كلّ ذلك للقدرة المذهلة في لحظة لا تدانيها لحظة أخرى، لا لحظة المقاتل في الميدان يلاقي الشهادة، ولا لحظة الاستشهادي يفجر نفسه، هي صدقية القدرة على إقران قول القائد والمفكر والزعيم بفعل، يظنه الناس خلق فقط للمناضلين العاديين البسطاء عندما يستشهدون، لكن عند اختبار القادة وجهاً لوجه مع الموت يعادل حجم القوة والصدق اللذين يختزنهما القول.

– في تاريخ البشرية نموذج سقراط ونموذج السيد المسيح ونموذج الإمام الحسين هي النماذج النادرة التي يحاكيها نموذج سعاده، مع الفوارق في اللاهوت والدين والفلسفة، لكن في مقاربة الفيلسوف والقائد لقضية الحياة والموت، نحن أمام سيرة عظماء منهم سعاده، فيلسوف ونبي وإمام وزعيم… وتلامذة، فكر يحاول حلّ معضلات الساعة، وقضايا الأمة، رجل يتفرّغ للفكرة والعقيدة، ينشئ تلامذته ويزرع فيهم مصادر قوة وطاقة لا تنضب، يترك ميراثاً لا تقوى كلّ آلات التعمية وغسل الأدمغة على محوه، دم يعيد كتابة التاريخ مرة جديدة.

– حجم القرار وهوية صنّاعه وأصحابه وتشابك عدد الحكومات والأجهزة التي تورّطت، والسرعة والمسرحة اللتان رافقتا صناعة اللحظة، كلّ ذلك لم يكن بعيداً عن ولادة الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، العام هو 1949، والحزب الذي بناه سعاده ينمو وينتشر في لبنان وسورية والعراق والأردن والكويت وفلسطين، يبني الحزب كتائبه المسلحة لفلسطين، حزب عقائدي منظم ينسف سايكس ـ بيكو، يضع فلسطين نصب أعينه، زعيم حزب يصير زعيم نهضة، قد يصير زعيم أمة عشية ولادة دويلات الاستقلال مع نهاية الحرب العالمية الثانية، يوحّد كياناتها الهشة ويصنع من ضعفها قوة، ويقود نخبها وجيوشها نحو فلسطين، يصير التخلص من الزعيم شرطاً لضمان ولادة «إسرائيل» وتفتيت الأمة.

– اليوم وبعد خمسة وستين عاماً تنفجر الحروب الإسرائيلية على مصادر القوة في الأمة، التي بشر بولادتها سعاده من الكويت المأزوم إلى العراق الملتهب إلى لبنان المقاوم وسورية الصامدة والأردن المنتفض وصولاً إلى فلسطين المشتعلة، تحتفل الأمة بيوم الزعيم سعاده بنصر سورية على مشروع التقسيم، وقوة جيشها المنذور لفلسطين، وتحتفل بقوة المقاومة في لبنان وقدرتها على الردع وما أنتجت من توازن رعب، وبمقاومي فلسطين يطلقون حمم صواريخهم نحو المستعمرات، ويقولون لسعادة ما قاله:

كلنا نموت، ولكن قليلين منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة.

كل ما فينا هو من الأمة، وكلّ ما فينا هو للأمة، الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكنا، هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها.

يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لأضمّد جراح أمتي البالغة.

البناء

اترك تعليقاً