الأرشيفثقافة وفن

نَتْسوكي بين روبِنْسون كْروزُوِيه وحَيٍّ بنِ يَقْظان

أنطوان رعد مُقَرِّظًا نتاجَ ناجي نعمان الأخي

ر: نَتْسوكي بين روبِنْسون كْروزُوِيه وحَيٍّ بنِ يَقْظان

Screenshot_20220601_114846

صدرَ عن مؤسَّسة الثَّقافة بالمجَّان مُؤلَّفٌ جديدٌ للأديب ناجي نعمان بِعُنوان “الذَّاتُ، أو سيرةُ نَتْسوكي”، وهو من إصداراته ما بعدَ التِّسعين، ويُدرَجُ في سلسلة “حياةٌ أدبًا”، ويحملُ الرَّقمَ 14 فيها.

***

IMG_20220601_121158_resized_20220601_121306654

وقدَّمَ الأديبُ أنطوان رعد الكِتابَ وصاحبَه بدراسةٍ في الأدب المُقارَن بعنوان: “نَتْسوكي بين روبِنْسون كْروزُوِيه وحَيٍّ بنِ يَقْظان”، فكتب:

“وأنا أُطالِعُ بِشَغَفٍ مَخطوطةَ “نَتْسوكي” (Natsuki) لِلصَّديق ناجي نعمان، وَمَضَتْ في بالي صورةُ روبِنْسون كْروزُوِيه (Robinson Crusoe) لِلبريطانيِّ دانيال ديفو (Daniel Defoe)، كَما خَطَرَتْ في ذِهني صورةُ حَيٍّ بنِ يَقظانَ لابنِ طُفَيْلٍ الأندلُسيّ، فلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِن مُطالعةِ كتابِ ديفو كَوْني شاهدْتُ الفيلمَ منذُ عُقودٍ ولَمْ يُتَحْ لي الاطِّلاعُ على القصَّةِ في كتاب، وقَرَّرْتُ العودةَ إلى كتاب ابنِ طُفَيْل لأنَّ ما عَلِقَ بِذاكِرَتي عنه يَعودُ إلى العامِ 1958، وكنتُ يَومَذاكَ تلميذًا في صفِّ الفلسفة.

“وبعدَ أنْ طَوَيْتُ الكتابَيْن تَبَيَّنَ لي أنَّ ناجي نعمان لَمْ يَنْسَخْ أيًّا منهما، ولكنَّه قد يَكونُ بصورةٍ لاواعِيَةٍ اسْتَوْحى مِن الكتابَين إطارًا لقصَّة نَتْسوكي، مع الإشارةِ إلى أنَّ كتابَ ابنِ طُفَيْل (1100–1185) قد تُرْجِِمَ إلى غيرِ لغةٍ أورُبيَّةٍ، وروايةَ دانيال ديفو صَدَرَتْ في العام 1719، أمَّا “سيرةُ نَتْسوكي” لناجي نعمان – أَمَدَّ اللهُ بِعُمره – فهي مِن نِتاجِ ما بَينَ العامَين 2008 و2021. وانطِلاقًا من ذلك تُعتَبَرُ قصَّةُ حَيٍّ بنِ يَقظانَ هي النَّبْعُ الَّذي قد يَكونُ وَرَدَهُ ديفو والنَّعمان عن قَصْدٍ أو عن غيرِ قَصْدٍ، وجاءَ كتاباهما أشبَهُ بِرافِدَينِ من النَّاحيةِ الزَّمنيَّةِ على الأقلّ.

***

“في “سيرةُ نَتْسوكي” تَدورُ الأحداثُ في عالَمٍ افتِراضيٍّ، أمَّا الأحداثُ في قصَّةِ روبِنْسون فتَجْري في عالَمٍ واقعيٍّ، لكنَّ كلَيهما يُحاولُ التَّأقلُمَ مع واقِعِهِ الجديدِ، هي بَعْدَ أنْ أَصْبَحَتْ وحيدةً في هذا العالَمِ، وهو بَعدَ أنْ قَذَفَتْهُ العاصفةُ البَحريَّةُ إلى جزيرةٍ ليسَ فيها سِواه. وكما تَدَبَّرَ روبِنْسون أمرَه في تلك الجزيرةِ المَهجورةِ، تَدَبَّرَتْ نَتْسوكي أمرَها بَعدَ عودتِها إلى إبينو كوغِن مُعتَمِدَةً على ذاتِها وعَرَق ِ جَبينِها. ولا بُدَّ مِن الإشارةِ إلى أنَّ روبِنْسون كانَ يُصارِعُ مِن أجلِ البقاءِ حيًّا على أملِ العَودةِ إلى بَلدتِه (يورك) ولقاءِ أهلِه؛ أمَّا نَتْسوكي الَّتي صارَعَتْ مِن أجلِ البقاءِ أيضًا انْتَهى بها المَطافُ بِأنْ وَضَعَتْ حَدًّا لِحَياتها لأنَّه لَمْ يَكُنْ لديها مَن تَلْتَقيه.

“وتَجْدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ روبِنْسون لَمْ تَكُنْ له يَدٌ في اختِيارِ الجزيرةِ الَّتي كانَتْ مَنفاهُ الانفِراديَّ القَسْريَّ على امتِدادِ سنواتٍ طويلة، أمَّا نَتْسوكي فقد قَرَّرَتِ الذَّهابَ إلى إبينو كوغِن، وهي ناحِيَةٌ نائِيَةٌ مِن اليابانِ، لأنَّها عاشَتْ فيها طفولةً سعيدة.

“روبِنْسون شاءَتِ الرِّياحُ أنْ تَجْري بِما لا تَشْتَهيهِ سفينتُه، فكانَ مُرْغَمًا على أنْ يَعيشَ حياةَ العُزلة، أمَّا نَتْسوكي فقد تَمَنَّتْ بِدافعِ الحقدِ على المُجتمعِ وعلى الجِنْسِ البَشَريِّ أنْ تَسْتَفيقَ ذاتَ صباحٍ وقدِ انْقَرَضَ البَشَرُ في جميع أنحاءِ العالَم، ولمَّا تَحَقَّقَتْ أمنيَتُها وتَمَّ لها ما أَرادَتْ، استَمْتَعَتْ في بادِئِ الأمرِ بِهذا الواقعِ الجديدِ وعاشَتْ كَما في حُلمٍ قَبلَ أنْ يَتَحَوَّلَ الحُلمُ كابوسًا رهيبًا فَرَضَ عليها العُزلةَ لأنَّها لَمْ تَجِدْ حولَها إنسانًا تُخاطِبُه أو تَحسِدُه أو تُحِبُّه.

“ونَتْسوكي تُجَسِّدُ خَيْرَ تَجسيدٍ أسطورةَ الملك ميداس (Midas) الَّذي تَمَنَّى أنْ يَتَحَوَّلَ كُلُّ ما يَلمِسُه أو يَمَسَّه ذَهَبًا، وعندما تَحَقَّقَتْ أُمنيتُه طارَ فَرَحًا، ثُمَّ ما لَبِِثَ أنْ عانى الأمَرَّيْن.

***

“في عُزلَتِه لَجَأَ روبِنْسون إلى كتابة يَوميَّاته وإلى اعتِماد تَقويمٍ خاصٍّ به إذْ راحَ يَحْفِرُ على جِذْعِ شجرةٍ خطًّا مُستقيمًا لِلدَّلالة على كلِّ يومٍ يَنْقَضي وذلك ابتداءً من 30 سبتمبر (أيلول)، وهو يومُ وُصولِه إلى الجزيرةِ، رغبةً منه في عَدَمِ فقدانِ بوصلَةِ الزَّمن، وهذا ما أتاحَ له أنْ يَذْكُرَ في دقَّةٍ مُتناهِيَةٍ المدَّةَ الَّتي قَضاها في جزيرته المَهجورة، إذْ يَقولُ حَرفيًّا: “غادرنا الجزيرةَ في التَّاسعَ عَشَرَ مِن ديسمبر (كانون الثَّاني) 1686 بعد ثمانيةٍ وعشرينَ عامًا وشهرَينِ وتسعةَ عَشَر يومًا”.                                            

“أمَّا نَتْسوكي فقد حاوَلَتْ في بدايةِ الأمرِ أنْ تُدَوِّنَ مُذَكِّراتِها، ثُمَّ عَدَلَتْ عن الفكرةِ إذْ لَمْ تَجِدْ أيَّ فائدةٍ تُرْجى من ذلك، “وما مِن إنسانٍ سِواها قد يَقْرَأُ يومًا ما ستَكْتُبُه ويَتَّعِظ”. لكنَّها عادَتْ في نهايةِ الأمرِ عن قَرارِها، وراحَتْ تُدَوِّنُ خَواطِرَها ويَومِيَّاتِها بِريشةِ جَدَّتها إميكو وحِبْرِ دَواتِها.

“وفي مَوضِعٍ آخَرَ يَقولُ ناجي نعمان: “أمَّا الوقتُ وحسابُه فظَلَّتْ نَتْسوكي تُجَدْوِلُهُ بِالوَسائِلِ المُتاحَةِ إلى أنْ قَرَّرَتْ أنْ تَتْرُكَ الزَّمنَ يَحْسُبُ ذاتَه، أنْ تَتْرُكَ الزَّمَنَ لِلزَّمنِ؛ وهَل أصْدَقُ مِن العصافيرِ المُهاجِرَةِ تُنْبِئُ بِالفُصولِ تَحُلُّ وتَرْحَل؟”

***

“وفي عُزلتِه القاسيةِ ارتَبَطَ روبِنْسون بِبَعض الحَيَواناتِ، وعلى الأخصِّ بِالكلبِ “شيبي” الَّذي اصْطَحَبَه بَعدَ غَرَق ِ السَّفينة، فكانَ رفيقَه في حَلِّه وتِرحالِه، وفي ذلك يَقول: “وربَّما كانَ سببُ اصطِحابي له هو الاستِماعُ وحَسْبُ إلى وَقْعِ صَوتي، فتحدَّثْتُ وتحَدَّثْتُ إلى الكلب، وأخبَرتُه كلَّ شيءٍ عن حياتي وخططي، وعن مكاني قبلَ أنْ أَهْبِطَ على الجزيرة، وكان يَهِرُّ بِجواري سعيدًا أيَّما سعادة”.

“وفضلاً عن الكَلب، اكْتَشَفَ روبِنْسون في الجانبِ الآخَرِ مِن الجزيرةِ طيورًا جميلةً ولا سيَّما البَبَّغاوات، فقَرَّرَ أخْذَ بَبَّغاءٍ إلى المنزلِ كطائرٍ أليفٍ أطلَقَ عليه اسمَ “بول”. وقد قَضى بضعةَ أسابيعَ في مُحاولةِ تعليمِ البَبَّغاءِ بول النُّطقَ، ونَجَحَ في النِّهايةِ بِتَلقينِه قَولَ كلماتٍ وجُمَلٍ قليلة، كما أنَّه قامَ بِتربيةِ الماعِزِ البرِّيِّ وتَدجينِه، فأقامَ مزرعةً لهذا الغَرَض. ورغمَ الصَّداقةِ الَّتي ربَطَتْ روبِنْسون بِشيبي، فقدِ اكْتَفى بهذه العبارةِ الباردةِ لِلتَّعبيرِ عن رحيلِه: “إلاَّ أنَّ شيبي كَبِرَ في السِّنِّ ومات”، فضَنَّ على مؤنِسِ عُزلتِه حتَّى بِكلمةِ حُزنٍ أو كلمةِ أسَفٍ واحدة.

“ونَتْسوكي ارْتَبَطَتْ أيضًا “بحِصانٍ شارِدٍ، أسوَدَ بِلَونِ اللَيلِ، لا سَرْجَ لَهُ، تَآخَتْ معهُ وأَطلَقَتْ عليهِ اسْمَ الحبيبِ أَكِمي، “جمال الفَجر”، وكانَ لها نِعْمَ الصَّديقُ والمُعينُ، وجابَتْ بِهِ ومعَهُ المَسافات، ولَطالَما استَحَمَّتْ معهُ في السَّاقِيَةِ قَبْلَ أنْ تَنْطَلِقَ بِهِ ومعَهُ سابِحَيْنِ في الهَواءِ، والنَّسيمُ يُجَفِّفُ قَطَراتِ الماءِ عن جَسَدَيهما”.

“إذًا، علاقتُها بِالحِصانِ علاقةٌ عاطفيَّةٌ، والسَّردُ لا يَخْلو من إيحاءاتٍ جِنسيَّةٍ، إذْ يَقولُ الكاتِب: “وسافَرَ “العاشِقانِ” إلى أبعَدَ مِمَّا استَطاعاهُ، واكتَشَفا جَمالاتِ الخَلْق ِ، وكيفَ أنَّ العالَمَ مُرتاحٌ مِن بَني البَشَر. كَما اكْتَشَفَتْ نَتْسوكي أنَّها ليسَتْ أجمَلَ المَخلوقاتِ، فالأزهارُ والفراشاتُ أَحْلى، وليسَتْ أَسْرَعَها وأَرْشَقَها، فالغَزالُ أسْرَعُ وأرْشَقُ، وليسَتْ أكثرَها حُرِّيَّةً، فَحُرِّيَّةُ الرِّيحِ والعُصفورِ أَوْسَع؛ لكنَّها أكْمَلُ المَخلوقاتِ لأنَّها بِالفِكْرِ تَتَمَيَّز”.

“وعندما قَرَّرَتْ نَتْسوكي أنْ تَضَعَ حدًّا لِحَياتها، اصْطَحَبَتْ معها الحبيبَ أكِمي ليَكونَ شاهدًا على انطِلاقها مِن سَكينة إبينو كوغِن إلى السَّكينة العُظمى، وقد “تَرَجَّلَتْ عن أكِمي” قَبلَ أنْ تُسْلِمَ الرُّوحَ، و“قَبَّلَتْهُ بينَ العَينَيْنِ شاكِرَةً، ثُمَّ أَنْزَلَتْ عنهُ السَّرْجَ، وأَشارَتْ عليهِ أنِ اذْهَبْ حُرًّا طَليقًا، فأَبَى. وأمامَ نَظَراتِ أكِمي الحائِرَةِ الحَزينَةِ، فَتَحَتْ نَتْسوكي ذِراعَيْها، مَدَّتْهما إلى العَلاء، رامَتِ البَعيدَ، ما بينَ سَماءٍ ومُحيط. وفي الزُّرْقَةِ الكُبْرى أَطْلَقَتْ ريشََةَ إميكو، ثُمَّ أَمَرَتْ روحَها أنِ اخْرُجي، فخَرَجَتْ. قَضَتْ نَتْسوكي بين زُرْقَةِ السَّماءِ وزُرْقَةِ المُحيطِ الهادئ، فيما ذَهَبَ أكِمي حُرًّا طليقًا، ولكنْ حائِرًا حزينًا هائِمًا”.

“وحُزْنُ الجَوادِ أكِمي أمامَ هذا الانتِحارِ الاحتِفاليِّ يُذَكِّرُنا بِجَوادِ عَنتَرَةَ الَّذي حَمَّلَه صاحبُه في المعركةِ فوقَ طاقتِه:

     فَازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنَا فَزَجَـرْتُهُ  

وَشَـكَا إِلَيَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ

     لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى 

وَلَكـانَ لَوْ عَلِمَ الكَـلامَ مُكَلِّمِي

“إنَّ الدَّمعةَ الَّتي ذَرَفَها جَوادُ عَنتَرَةَ أراحَتْهُ قليلاً، أمَّا الدَّمعةُ الَّتي كَتَمَها جَوادُ نَتْسوكي فقد تَحَوَّلَتْ جمرَةً تَكْوي الفؤاد.

“وعلاقةُ نَتْسوكي بِكائِناتِ الطَّبيعةِ، حيوانًا ونباتًا، تَخْتَلِفُ اختِلافًا جذريًّا عن علاقةِ روبِنْسون بتلك الكائِنات، هذه علاقةٌ نَفْعِيَّةٌ، وتلك بَدَأَتْ علاقةً نَفْعِيَّةً وانْتَهَتْ علاقةً صوفيَّة. يَقولُ ناجي نعمان: تَآخَتْ نَتْسوكي، بَلِ اندَمَجَتْ وأليفَ حَيَوانِها ونِتاجَ حَقلِها وبُستانِها. وفي مَوضِعٍ آخَرَ يَقولُ: “لقد راحَتْ نَتْسوكي تَأْخُذُُ مِن الطَّبيعةِ أقَلَّ مِن حَقِّها، ونَسِيَتْ كلمةَ الجَشَعِ ومَعناها، تارِكَةً لِكائِِناتِ الحَياةِ الأُخرى حُقوقَها كامِلَةً، كَما لِتَعْتَذِرَ مِنها نِيابَةً عن الجَشِعِ والفاسِدِ والأَنَوِيِّ الأَوْحَدِ: الإنسان!”

***

القصَّةُ كَفَنٍّ أدبيٍّ لها شروطٌ ومُقَوِّماتٌ مِن سَردٍ وحِوارٍ وحَبْكَةٍ ومُفاجآتٍ وحَلٍّ وتَحليلٍ نَفسيٍّ لشخصيَّاتِ القصَّة. وقد مَرَّ بنا أنَّ الأحداثَ في قصَّة نَتْسوكي تَدورُ في عالَمٍ افتِراضيٍّ، وهذا ما نَقَعُ عليه في قصَّة حَيٍّ بنِ يَقظانَ مع فارِق ٍ رَئيسٍ هو أنَّ الجزيرةَ الَّتي وُلِدَ فيها حَيٌّ كما يَزْعَمُ البَعضُ، أو الَّتي وَصَلَها رَضيعًا في جَوْفِ تابوتٍ، وقد يَكونُ ذلك تَيَمُّنًا بِالنَّبيِّ يُونان (يُونُس) الَّذي عاشَ في بَطْنِ حوتٍ، كما يَزْعَمُ البَعضُ الآخَرُ، “هي جزيرةٌ مِن جَزائر الهند الَّتي تحتَ خطِّ الاستِواء، وهي الَّتي يَتَوَلَّدُ فيها النَّاسُ مِن غيرِ أمٍّ ولا أب، وفيها شجَرٌ يُثْمِرُ نساءً، وهي الَّتي ذَكَرَ المَسعوديُّ أنَّها جزيرةُ الوَقواق”. أمَّا ناجي نعمان فإنَّه يَنْقُلُنا إلى مَسرَحِ الأحداثِ في اليابانِ كأنَّنا نَعيشُ إلى جانبِ نَتْسوكي، بَطَلَةِ قصَّته، ويُحَدِّدُ الأمكِنَةَ ذاكِرًا أدَقَّ التَّفاصيلِ حتَّى لَيُخَيَّلُ إليك أنَّه يُنافِسُ “غوغِل” في هذا المِضمار. ومِن المُسْتَغْرَبِ أنْ تَبْدَأَ قصَّةُ حَيٍّ بنِ يَقظانَ الَّتي تَتَضَمَّنُ بحثًا فلسفيًّا قَيِّمًا حاوَلَ مِن خلاله ابنُ طُفَيْل التَّوفيقَ بين العِلمِ والفلسفةِ مِن جهةٍ، والدِّينِ مِن جهةٍ أخرى، مِن المُسْتَغْرَبِ أنْ تَبْدَأَ القصَّةُ بِاحتِمالَين هما أغرَبُ مِن الخَيالِ سواءٌ لِجهةِ ولادةِ حَيٍّ بنِ يَقظانَ جَرَّاءَ عَوامِلَ مُناخِيَّةٍ خاصَّةٍ بِبَعضِ الجُزُر، أو لِجهةِ تَهريبِهِ في تابوتٍ إلى جزيرةٍ مَهجورةٍ فقامَتْ غزالَةٌ بِإرضاعِهِ والاهتِمامِ بِشأنِه، وهما احتِمالانِ خُرافِيَّانِ بِكُلِّ المَعايير.

***

“خلالَ حَياته يَتَعَرَّضُ الإنسانُ لأمراضٍ مُختَلِفَةٍ، وروبِنْسون خلالَ إقامته الطَّويلة في جزيرته مَرِضَ مرَّةً واحدةً كما ذُكِرَ، ولَمْ يَمْرَضْ حَيٌّ بنُ يَقظانَ في جزيرته على الإطلاق، كما لَو أنَّ لَبَنَ الغزالةِ الَّتي أرضَعَتْه دواءٌ سحريٌّ يَطْرُدُ الأمراضَ، أمَّا نَتْسوكي فقد أَصابَتْها الحُمَّى مَرَّةً وكادَتْ تَموتُ، ووَقَعَتْ فنَجَتْ مِن كَسْرٍ في رِجْلِها وتألَّمَتْ كَثيرًا، وجاوَرَتِ المَوْتَ مِرارًا مع وُحوشِ الطَّبيعةِ والثَّعابينِ والعَقارِب”، ولِذا كانَ هاجِسُ الخَوفِ على صحَّتِها يُعاوِدُها بِاستِمرارٍ، والخَوفُ مِن عَوامِلِ الطَّبيعةِ ومِن حَيوانها يُلازِمُها في المَرحلةِ الأولى من عَودتِها إلى إبينو كوغِن. وقد دَأَبَتْ على الاهتِمام بِصحَّتها، وفي ذلك يَقولُ ناجي نعمان: “قالت نَتسوكي وَداعًا لِمَذاقاتِ الماضي ولَذَّاتِه وأهلاً بِالصِّحَّة. وَدَّعَتِ الأبيَضَيْنِ ومَضارَّهما وهَمَّ قِياسِ مُستَوى السُّكَّرِ والمِلحِ في الدَّمِ؛ كما وَدَّعَتِ الأبيضَ الثَّالثَ الَّذي كادَ يُودي بِها في طوكيو، وتَخَلَّتْ عن هذا الَّذي يَأتيها بِأضْغاثِ لَذَّةٍ ولا يَذْهَبُ إلاَّ والرُّوحُ معهُ، لِصالِحِ خُمورٍ راحَتْ تَتَناوَلُها في اعتِدالٍ بَعدَما دَأَبَتْ على جَرْعِها دُفعَةً واحِدَةً”. وفي مَوضِعٍ آخَرَ إنَّ فكرةَ كَونِها آخِرَ البَشَرِ وآخِرَ مَن يَشْهَدُ على وجودِ الله أَقْلَقَتْها لِدَرَجَةِ أنَّها جَرَّبَتِ الرُّولِتَّ الرُّوسيَّةَ لِلمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعدَ مُحاوَلَةٍ أولى في فَترةِ ضَياعِها بِطوكيو. جَرَّبَتْها، وأَسْعَفَها الحَظُّ مُجَدَّدًا، فسَلِمَتْ”.

***

“وفَضلاً عن غِياب المَرَضِ كما مَرَّ بنا ذِكرُه، نَشْهَدُ غِيابًا مُطلَقًا لِلجِنْسِ في قصَّة حَيٍّ بنِ يَقظانَ وفي قصَّة روبِنْسون كُروزُوِيه، كما لَو كانَ هذا وذاك مِن جِنْسِ الملائكة، عِلمًا أنَّ الإنسانَ الطَّبيعيَّ يَشْعُرُ بِحاجةٍ إلى إشباعِ رغباتِ الجَسَد، إلاَّ أنَّه قادِرٌ على كَبْحِ شَهواتِه وغرائِزِه بما يَمْلِكُ مِن إرادة، أمَّا نَتْسوكي فقد أَقامَتْ تَوازُنًا بين مُتَطَلَّباتِ الجَسَد وتَطَلُّعاتِ الرُّوح، وإذْ تَعَذَّرَ عليها إيجادُ شريكٍ تُمارِسُ معه الجِنْسَ لانقِراضِ الجِنْسِ البَشَريِّ، راحَتْ تُمارِسُ الجِنْسَ “ذاتُها مع ذاتِها” على حَدِّ تَعبيرِ ناجي نعمان الَّذي سَلَّطَ الضَّوءَ على عالَمِ الجِنْسِ في سيرة نَتْسوكي سواءٌ في اليابانِ مِن خلال البَغاءِ أو في لُوس أنجِلوس مِن خلالِ الأفلامِ الإباحيَّة الَّتي تَقومُ بِبُطولَتها والدةُ نَتْسوكي، أو مِن خلالِ حفلاتِ الخَلاعةِ الجَماعيَّةِ الَّتي تُقيمُها الوالدةُ ذاتُها، مِن دون أنْ يَتَوَخَّى في وَصفِه إثارةَ غَرائِزِ القرَّاءِ، مُكتَفِيًا باللَمْحَةِ الدَّالَّةِ عَمَلاً بِقَولِ سعيد عقل في رِثاء الأخطلِ الصَّغير:

عَروسُهُ تلكَ وافـَتْ أمْ قَصيدتُهُ   

فَدَيـْتُ أمِّي نَضَتْ سِتْرًا ولَم تُبِنِ

أو تأكيدًا لِما جاءَ على لسانِ الشَّاعرِ الياس أبو شبكة:

قد أَشْرَبُ الخَمـْرَ لكنْ لا أُدَنِّسُها  

وأَقْرَبُ الإثْـمَ لكنْ لَسْتُ أَرْتَكِـبُ

***

“السَّردُ هو قِوامُ الفنِّ القصصيِّ وعَمودُه الفِقْرِيُّ، وفي قصَّة حَيٍّ بنِ يَقظانَ يَشوبُ السَّردَ كثيرٌ مِن الاستِطرادِ العِلمِيِّ (طبّ، فلسفة، عِلم فَلَك) ما يُفْسِدُ على القارئِ مُتابعَةَ الأحداثِ ويُخِلُّ بِشروطِ القصَّةِ الناجِحَة، بينما السَّردُ في روبِنْسون كْروزُوِيه عاديٌّ لا يَرْقى إلى مُستَوى الإبداعِ في ترجمةِ كامل كيلاني على الأقلّ، لكنَّه يَفي بِشروطِ السَّردِ في القصَّة مُعتَمِدًا على ضميرِ المُتَكَلِّم.

“أمَّا في سيرة نَتْسوكي فنَقَعُ على سَردٍ مُمْتِعٍ، فناجي نعمان أَفادَ مِن تِقَنِيَّاتِ السَّردِ في القصَّة الحديثة، فاسْتَعانَ بِالارتِجاعِ الفنِّيِّ (flashback) حينًا، والتَّوثيق ِ حينًا آخَرَ، وعَرَفَ كيفَ يُضْفي على سَردِهِ لَمْحةً شِعريَّةً في بعضِ الأحيان، واعْتَمَدَ على ضميرِ الغائبِ كما في قصَّةِ حَيٍّ بنِ يَقظان.

***

“وفي القِصَصِ الثَّلاثِ لا نَقَعُ على الحِوار إلاَّ نادرًا، فحَيٌّ بنُ يَقظانَ لا يُجيدُ النُّطْقَ مع أنَّه ليسَ بِأبكَمَ، إلى أنِ الْتَقى “أبسال” فعَلَّمَه هذا النُّطْقَ، وروبِنْسون كْروزُوِيه يُجيدُ النُّطْقَ، لكنَّه لَمْ يَجِدْ مَن يَلْتَقيهِ في الجزيرة إلى أنْ عَثَرَ على “جُمعَة” فعَلَّمَه الإنكليزيَّةَ بُغيَةَ التَّفاهم بينهما. أمَّا نَتْسوكي في عُزلتِها الطَّوعيَّةِ في إبينو كوغِن، “فراحَتْ تُكَلِّمُ القَديرَ والأقلَّ قُدرَةً مِن شمسٍ وقَمَرٍ وطَيْرٍ وريحٍ، وأَتْقَنَتْ لغةَ ما قَبلَ اللُغةِ وتَكَلَّمَتْ بها، فبِلُغةِ ما بعدَ اللُغةِ، ثُمَّ بِلُغةِ اللالُغةِ، لُغةِ الوِجدان”.

***

“وليسَ مِن الضَّروريِّ أنْ تَكونَ أحداثُ القصَّةِ قد جَرَتْ في الواقع، ولكنْ، يُفْتَرَضُ أنْ تَكونَ مُحْتَمَلَةَ الوقوعِ لِتَحْمِلَ القارئَ على الاعتِقاد بِأنَّها قد جَرَتْ فِعلاً، وأقْرَبُ القُصَصِ الثَّلاثِ إلى الإيفاءِ بهذا الشَّرطِ هي قصَّةُ روبِنْسون كْروزُوِيه. أمَّا قصَّةُ حَيٍّ ابنِ يَقظانَ ففيها وقائِعُ تَضْرِبُ قواعدَ القصَّةِ مِن الأساس. إنَّ اختِيارَه الطِّفلَ البِدائيَّ المُتَوَحِّشَ بطلاً لِقصَّتِه وناطقًا بِاسمِه هو الخطيئةُ الأصليَّةُ، إذْ كيفَ لِطِفْلٍ أُمِّيٍّ أنْ يَكْتَشِفَ حقائقَ لا يُمْكِنُ اكتشافُها بِالفِطرَةِ لأنَّها ثمرةَ تَراكمِ الخِبْراتِ الإنسانيَّةِ وتطوُّرِ المعرفةِ عبرَ العُصور، وكانَ الأجْدَرُ به أنْ يَخْتارَ رجلاً ناضِجًا على اطِّلاعٍ وافٍ بِشؤونِ العِلْمِ والمعرفةِ لِيَتَصَدَّى لهذه المُهِمَّةِ الشائِكَةِ بَدَلَ أنْ يَتَقَمَّصَ شخصيَّةَ حَيٍّ بنِ يَقظانَ وهو على ما ذَكَرْنا، فراحَ هذا الأخيرُ يَنْطِقُ بِلِسانِه ويُعَبِّرُ عن فِكرِه، وهذا ما لا يَقْبَلُه المَنْطِق، ولا يَخْضَعُ لِشروطِ القصَّة، تمامًا كما حَصَلَ لاحِقًا لجبران خليل جبران في قصَّة يوحنَّا المَجنون وقصَّة وردة الهاني لأنَّ كلَيهما يَنْطِقُ بِلسانِ جبران ويُعَبِّرُ بِأسلوبه الرَّائع، مع أنَّ الأوَّلَ كانَ يَرْعى الأبقار، أمَّا الثانية الَّتي أُكْرِهَتْ على الزَّواج مِمَّن لا تُحِبُّ، فلَمْ تَكُنْ على قَدْرٍ مِن الوَعي والعبقريَّةِ يُتيحُ لها أنْ تَتَفَوَّهَ بما تَفَوَّهَتْ به.

“وهذا يَنْطَبِقُ إلى حَدٍّ ما على ناجي نعمان الَّذي جَعَلَ مِن نَتْسوكي ناطِقَةً بِاسمِه مُحاوِلاً عَبرَها أنْ يُدْلِيَ بِآرائه حولَ المَوتِ والحَياةِ والحَضارةِ والإنسانِ المُعاصِرِ الَّذي دَمَّرَ الطَّبيعةَ وأساءَ إلى البيئةِ وإلى الإنسانيَّةِ إساءَةً بالِغَةً جَرَّاءَ جَشَعِه وأنانِيَّتِه وتَكالُبه على المادَّة.

“واللافِتُ في قصَّة نَتْسوكي أنَّ المُؤلِّفَ يَطْرَحُ أسئلةً أَقْلَقَتِ الإنسانَ وشَغَلَتْ تَفكيرَه منذُ أقدمِ العُصورِ، تارِكًا الإجابةَ عنها مُعَلَّقَةً، كما لَو كانَ يُجيبُ عن تلك الأسئلة بِعلاماتِ استِفهامٍ، وهو بذلك يَلتَقي المُتَنَبِّي القائِل:

تَخالَفَ النَّاسُ حتَّى لا اتِّفاقَ لهُم  

إلاَّ على شَجَبٍ والخُلْفُ في الشَّجَبِ

فقِيلَ تَخْلُصُ نَفْسُ المَرْءِ سالِمَةً   

وقِيلَ تَشْرَكُ جِسْمَ المَرْءِ في العَطَبِ

ومَن تَفَكَّـرَ في الدُّنيا ومُهْجَتِهِ   

أَقامَهُ الفِكـرُ بينَ العَجْـزِ والتَّعَبِ

“واللافِتُ أيضًا أنَّ قصَّةَ نَتْسوكي تَنْتَهي بِانتِحارٍ احتفاليٍّ رائعٍ، لأنَّ البَطَلَةَ لَمْ تَعُدْ قادرَةً على تَحَمُّلِ وَطأةِ العَيْش بعدَ انقراضِ الجِنْسِ البَشَريِّ، تأكيدًا مِن الكاتبِ على أنَّ الإنسانَ كائِنٌ اجتماعيٌّ بِامتِياز، ولِذا جاءَ الانتِحارُ إثباتًا لِما وَرَدَ على لسان أحدِ الشُّعراء:

لَو دَعاني ربِّي إليه وَحيدًا     قُلْتُ يا رَبُّ لا أريدُكَ وَحدي

***

وخِتامًا أَشُدُّ على يَدِ صديقي ناجي نعمان مُهَنِّئًا وآمِلاً أنْ يُتْحِفَنا بِعَمَلٍ جديدٍ يُحَقِّقُ فيه توازُنًا وتناغُمًا بينَ المَضمونِ الفِكريِّ الدَّسِمِ والأداءِ الفنِّيِّ الَّذي يَرْقى إلى مستوى تطلُّعاتِه الفِكريَّةِ تَمامًا كَما فَعَلَ في رائِعَتِه نَتْسوكي.

مَلحوظَة: يُقرأُ الكتابُ مجَّانًا مِن طريق أحد الرَّابِطَين المَذكورَين أدناه:

https://www.facebook.com/668704876563949/posts/pfbid09Ai4bskYEwjEeqcagrrfdjshd135XT5rFmK2PaV5jWew2SQ9UNsSQjBQC55KRm3bl/
أو https://drive.google.com/file/d/1C0z7hN1Tifg29PG3QQRui8znidrlY4Cp/view?usp=sharing

الصُّورتان المُرفَقَتان:

غلاف الكتاب

أنطوان رعد وناجي نعمان: المُقَرِّظ والمُؤلِّفُ