الأرشيفعربي وعالمي

هذا الخراب..إلى متى؟! – رشاد أبوشاور

وأنا على متن السفينة ( سولفريني) التي انطلقت ببطء بعد حجزها لساعات في ميناء بيروت يوم 22 آب 1982..قررت وبيروت وراء الظهر، والبحر يمتد بعيدا، والهدف الذي تيممه سفينة المحمولين في جوفها وعلى سطحها متجهة إلى ميناء بنزرت التونسي، بعد انتهاء (معركة) بيروت: خياري بعد اليوم أن أمضي في طريقي وحيدا، لأنني ككاتب لا أجد أن تنظيما ما يمكن أن يمثلني، وأنني أنا شخصيا لن أمثّل أي تنظيم (فصيل)، فما سأقوله، وما سأكتبه، سيمثلني شخصيا، فكرا وممارسة وخيارا، ولا أريد أن أحمّل جهة ما تكلفة كلمة أقولها، أو أكتبها، أو سلوكا أمارسه.

التجربة مُرّة، وأمّر من العلقم، والكتابة ستكون مُرّة..ومكلفة، وقد دفعت الثمن برضى، فأنا كنت أعرف قبل الرحيل عن بيروت أن الكاتب الذي يقول كلمة واضحة سيدفع الثمن، وهذا ما حدث لي بعد نشر روايتي (البكاء على صدر الحبيب) عام 1974 ..يعني في زمن (الفاكهاني)، وكانت الرواية قد وصفت بأنها: صراخ (المقاعد) الأخيرة..ولعنتها إحدى مجلات (المقاومة) ووصفتني ب (سولجنتسين الأدب الفلسطيني)، أمّا مجلة الصيّاد اللبنانية فقد شنت حملة على الكاتب بتحريض مفضوح، ووجهت لي تهما على صفحاتها..ترافقت مع حملة (شفوية) شارك فيها (كّتّاب) فلسطينيون منافقون..وأمثال هؤلاء ما زالوا ينغلون في الأوساط الفلسطينية، وهم مرتاحون..ومرضي عنهم فلسطينيا وعربيا!

الاستقلالية التي اخترتها كانت وستبقى التزاما أعمق وأعند بقضيتي الفلسطينية، وبعدم الإنضواء في صفوف أي فصيل فلسطيني، والحق أنها كانت خياري عندما كنت في صفوف أحد الفصائل، ولعلها كانت سبب مغادرتي لأحد الفصائل في العام 1972 بعد عودتي من زيارتي للصين، لتفاقم خلافات – لن أخوض في أسبابها، فلست بصدد التشهير بأي فصيل ضمني يوما في صفوفه – والتي جثمت على نفسي وعقلي فلم أجد مناصا من المغادرة فرديا.. فأنا لم اقتنع بالانشقاق مع أخوة كنت وإياهم متقاربي التفكير.

بعد الخروج من بيروت والمكوث ليلة واحدة في تونس..عدت بالطائرة إلى دمشق حيث تقيم أسرتي في مخيم اليرموك، و..شهدت وعانيت وتعرضت للمخاطر عندما تفجّر انشقاق حركة فتح..وأدى إلى اقتتال دموي رهيب صدم شعبنا وفجعه، و..وقفت مع رفاق وأخوة في مواجهته رفضا وتحذيرا مما هو آت، انطلاقا من رؤيتي إلى أن التغيير لا يكون بانقلاب دموي، وبتحرّك مُدبّر ختامه الانشقاق والتمزيق والشرذمة فلسطينيا.

أما دوري، وتكلفة خياري ومواقفي..فيشهد عليها من عاشوا تلك المرحلة البشعة الحقيرة المريضة.

ما تعرضت له من مضايقات وتهديدات دفعني، مع خياري الذي اتخذته من قبل.. للاستقلالية ككاتب..والمغادرة والتوجه إلى تونس، وهناك واصلت.

كعضو أمانة عامة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين تصديت للحملة التي استهدفت الفنان الكبير الشجاع الصديق ناجي العلي، وعندما تعرّض للاغتيال في لندن..أصدرت بيانا عممته..وفجأة انقطع الهاتف عن البيت ..والكهرباء..و..هنا اتصلت بصديقي الدكتور زياد علي وعدد من الأصدقاء الكتّاب في ليبيا – لم يكن لي مكان ألجأ إليه – ورحب بي أصدقائي في ليبيا، وأقمت في فندق باب البحر، وفجأة بدأ بعض القائمين في السفارة الفلسطينية حملة تستهدفني..ومن جهة أخرى طُلب مني مغادرة الفندق..فانتقلت إلى فندق يقيم فيه العمال المصريون اسمه (الواحات) ..ولم أستجب لإغراءات الكتابة (المنافقة) استرضاء..وبما يرتد مكسبا ماليا في تلك الأيام ..الخ.

-2-

لست أكتب مذكرات، ولا شهادة على مرحلة ما بعد بيروت..وما بعد أوسلو، وما بعد بعد أوسلو، ولكنني أهدف إلى التذكير السريع تمهيدا لقول كلمة أوّد أن تصل إلى ما تيسّر من أبناء شعبنا.

بعد عودتي من ليبيا إلى تونس، تقرر أن تعقد دورة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، أما الهدف فكان: إعلان دولة فلسطين…

كان سؤالي : أين ستعلن تلك الدولة؟ فعرفت: على ما احتل في حزيران 1967 ..وهو ما يعني التنازل عن 78% من فلسطين!!

منحت عضوية الملجس الوطني الفلسطيني في دورة 1983 التي عقدت في الجزائر، بصفتي مستقلاً..وما زلت حتى اليوم أتمتع بالعضوية، لأن من هو مستقل لا يمكن حرمانه من العضوية..على عكس الفصائل التي تغيّر عضوية محازبيها بحسب مشيئتها.

جرت محاولات للتأثير علي للتوجه إلى الجزائر فرفضت، حتى إن صديقي الرفيق طلعت يعقوب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية زارني في بيتي وطال بيننا الحوار حول أهمية المشاركة ..أو عدمها، وكان رأيه: نستطيع أن نعلن رأينا ونسجّل مواقفنا.. وهناك من وعدوا بالتصدي لهذا التوجه..وافترقنا وأنا متشبث برأيي: من وعدوك سيخذلونك.. وهذا ما حدث. رحل المناضل طلعت يعقوب في ذلك المجلس قهرا بنوبة قلبية..رحمه الله.

الغريب أنني عدت إلى وثائق المجلس في تلك الدورة فهالني ان اسمي مسجل في قائمة الحضور، مع أن كل من شارك يعرف انني قاطعت، ولم أغادر تونس إلى الجزائر. يا للتزوير الوقح!

-3-

اعتادت الفصائل الفلسطينية أن تتنصل من كل الخسارات التي تلحق بالقضية الفلسطينية، والكفاح الفلسطيني، وهذا ما فعلته بعد إعلان (أوسلو)..ثم بعد فترة عادوا..ومن هذه الفصائل من شارك في انتخابات المجلس التشريعي، ومنها من شارك في اللجنة التنفيذية، ومنها من قفز وتلطى بالقيادة التي توصف بالمتنفذة وانشقوا عن رفاقهم وتنعموا بما يوهب لهم من مال ووظائف وباتوا شهود زور بوقاحة..الخ.

تبرّئ الفصائل نفسها، وتغسل يديها من الآثام التي تقترف باسم فلسطين، والعجيب الغريب أنها تزيّن بياناتها (التاريخية) بالقول الواثق المطمئن: لقد برهنت الأحداث على مصداقية تحليلاتنا ومواقفنا التاريخية..الخ.

هذه الفصائل نفسها لم أقرأ لها مراجعة جادة لمسيرتها، وللوضع الفلسطيني وتحولاته، وما ألم به من هزائم وانكسارات وتراجعات، فهي تكتفي ببيانات تمتدح بها نفسها، وتثني بها على مواقفها، وتتحسر لأن من يتحكمون بالوضع الفلسطيني لم يصغوا لنصحها و (رؤيتها) الصائبة…

أنا واحد ممن رفعوا الصوت، وكتبوا داعين للوحدة الوطنية الفلسطينية، لأنه بدون وحدة الصفوف لن نحقق انتصارات على الأعداء و..المتآمرين على قضيتنا.

والوحدة الوطنية لا تتحقق سوى ببرنامج وحدة وطنية متفق عليه، ومن ثم بقيادة مختارة لكفاءتها وقدراتها…

والحق أنه بعد بروز طرفين، بعد (أوسلو)، قيادة في رام الله..وتحكم حماس بقطاع غزة منذ منتصف حزيران 2007 بات الأمل بتحقيق الوحدة الوطنية بعيدا، بل يمكن القول: مستحيلاً…

لقد تحدثوا كثيرا عن (المصالحة)..وهي لا تعني الوحدة الوطنية ببرنامج وقيادة واحدة، وتوجه مقاوم شعبيا يضم كل قوى وشرائح شعبنا في داخل فلسطين، بداية في الضفة والقطاع – مع عدم تناسي شعبنا في مناطق ال 48- مع تحرك في المخيمات خارج فلسطين..و..العودة إلى الجماهير العربية التي يفترض أنها صاحبة القضية الفلسطينية العربية في جوهرها، وليست الفلسطينية الإقليمية.

-4-

27 عاما مرّت على حفل توقيع أوسلو في حدائق البيت البيض بتاريخ 13 ايلول 1993 ..ولم يحصل الفلسطينيون على (دولة) فلسطينية، وتوسع الاستيطان فخنق القدس، ومضى شرقا باتجاه الأغوار، وتم تقسيم الحرم الإبراهيمي، وفي كل يوم يستبيح المستوطنون الغزاة الأقصى بحراسة جيش الاحتلال،ناهيك عن الحفريات تحته، وتواصل عمليات هدم البيوت، وزج الألوف في سجون الاحتلال نساء ورجالا وأطفالا..مع مواصلة أمريكا بإداراتها المتعاقبة الانحياز للكيان الصهيوني..وتتوّج ترامب وإدارته الصهيونية الانحياز بما سمي (صفقة القرن) ..أي ضم المزيد من الأرض الفلسطينية و..وضع اليد الاحتلالية على الأغوار..وإنهاء إمكانية تواصل الضفة والقدس بمدنها وقراها، بحيث يستحيل قيام دولة فلسطينية.

في أيّار الماضي أوقفت السلطة التنسيق الأمني – وهو من طرف واحد..طرف السلطة – فردّت سلطات الاحتلال بوقف تسليم السلطة أموال (المقاصة) وهي أموال الجمارك المقتطعة من بضائع يستوردها التجّار الفلسطينيون…

وقعت السلطة في ضيق مالي، فاقتطعت من الرواتب نصفها..وتحمّل الموظفون، واحتمل الشعب في الضفة والقطاع المعاناة من أجل القرار الوطني المطلوب، وهو إيقاف التنسيق الأمني الذي هو في جوهره تقدم خدمات أمنية للجهات الأمنية (الإسرائيلية) التي تطارد أهلنا وتعتقلهم..وتقتلهم على الحواجز بعمليات إعدام علنية أمام عدسات كاميرات الصحفيين!

ردا على صفقة العصر، او القرن، وتحبيذا لتعليق االتنسيق الأمني، رحبت الفصائل واستؤنفت اللقاءات الفلسطينية بهمة وبترحيب من (الفصائل) وفي مقدمتها حماس والجهاد، وتم الترحيب بالدعوة لاجتماعات عقدت في بيروت، واسطنبول، ودمشق،..وآخرها في القاهرة، وقد أعلن انه تم التوصل إلى نقاط اتفاق كثيرة هامة بالرعاية الأخوية المصرية، و..في نفس اليوم أعلن عضو اللجنة المركزية حسين الشيخ التوصل إلى اتفاق مع (إسرائيل) بعد تلقي رسالة مكتوبة من الحكومة (الإسرائيلية) تؤكد فيها الاتفاقات الموقعة..ما دفع (القيادة) لاتخاذ قرار بعودة العلاقات مع( إسرائيل) إلى ما كانت عليه..يعني التنسيق الأمني و..من بعد: المفاوضات!

وبشّر السيد حسين الشيخ الشعب الفلسطيني بتحقق انتصار تاريخي يليق بصموده ..وبأنه، هو حسين الشيخ، يؤدي التحية لشعبنا العظيم!

تساؤلات كثيرة خطرت وتخطر على تفكير ملايين الفلسطينيين، الذين أدّى لهم حسين الشيخ سلام تعظيم، وأنا منهم، منها:

– من هي الجهة التي وجهت الرسالة، وما هو نصها، ومن هي القيادة الفلسطينية التي وجهت لها؟!

– ما هي الاتفاقات الموقعة مع (إسرائيل)..ولماذا لم يتحقق شئ لشعبنا على امتداد 27عاما هي عمر أوسلو؟!

– هل اجتمعت لجنة فتح المركزية وقررت الموافقة على العودة للتنسيق الأمني، والثقة برسالة الجهة (الإسرائيلية)؟!

– هل اجتمعت القيادة الفلسطينية ودرست (رسالة) الحكومة (الإسرائيلية)؟!

– هل اللجنة التنفيذية، والمجلس الوطني الفلسطيني (المشرّع)، والمجلس التشريعي.. جزء من القيادة الفلسطينية، وهل تم إطلاع كل هذه الجهات؟!

– ماذا عن استشارة الفصائل التي كنتم تفاوضونها في تركيا، وبيروت، ودمشق، والقاهرة..وعبر الفيديو كونفرس، وترحبون بحميّة وغبطة بها؟!

– لماذا سمعنا صوت ورأينا وجه عضو اللجنة المركزية لحركة فتح..ولم نسمع كلمة لواحد من أعضاء اللجنة المركزية لفتح؟ ما مواقفهم أفرادا..وجماعة؟ أين اختفوا؟ أهم مع..أم ضد ويخشون الخسارات لو هم افصحوا عن مواقف رافضة؟!

وهنا أسأل الفصائل:

  • هل تكفي بيانات الإدانة والشجب التي تكررونها باستمرار مع كل حدث مؤثر على القضية الفلسطينية، تتخذ فيه قيادة السلطة موقفا غير مرض لكم؟
  • كيف يمكن أن تتحقق المصالحة بينما في رام الله قيادة تستفرد بالقرار الفلسطيني، وفي غزّة تهيمن حماس على كل شئ في القطاع..ولن (تفلت) غزة من قبضتها؟!

 

-5-

المصالحة راحت..انتهت، بعد العودة للتنسيق مع الاحتلال، لأنها منذ انطلق السعي لها لم تكن النوايا جادة، ولأن فكرتها خاطئة، ولأنها تضليلية لشعبنا، فالمطلوب: تحقيق الوحدة الوطنية ببرنامج وطني، والتفاف شعبي وطني فلسطيني، وبقيادات مشهود لها، مؤتمنة، وموثوقة، ومرتبطة بشعبها، ومضحية لقضيتها، ولا امتيازات لها سوى التضحيات في الميادين…

هل الخروج من المأزق الفلسطيني يكون بإجراء انتخابات؟

أرد بسؤال: هل نحن دولة مستقلة، وشعبنا يعيش على أرضه بأمان، ولا ينقصه سوى ترتيب أوضاعه في دولته المستقلة السيدة على أرضها وسمائها ومياهها واقتصادها وحدودها؟!

من تفاجأوا بعودة السلطة للتنسيق، خاصة من الفصائل، ليس لهم سوى أن يتفاجأوا باستمرار، وأن يتسابقوا على مكاسب لن ينالوها، ولأنهم ينطلقون من رؤاهم الضيقة المصلحية التي لا تسهم في حماية قضيتنا من العبث الذي يحيط بها من شتى الجهات..ولأنهم اندفعوا وراء وهم المصالحة دون تفكير وتحليل..فهم تفاجأوا، و..جميعهم لا يفاجؤون شعبنا الذي لم يعد يتفاجأ بكل هذا الخراب..هذا الخراب الذي إن استمر.. فماذا أقول؟!

لا يجب ان يستمر، وهذا واجب كل شرفاء الشعب الفلسطيني، سواء أكانوا منضوين في الفصائل وما أكثرهم، وكل أحرار الأمة العربية الذين يرون في الصراع مع العدو الصهيوني – الأمريكي صراع وجود لا صراع حدود.

وأخيرا: لا بد من تذكير المثقفين الفلسطينيين..والعرب، بدورهم الوطني والقومي الجوهري في صراع الوجود هذا، فما يحدث ليس مسؤولية عرب فلسطين وحدهم.

20 نوفمبر 2020

هذا الخراب..إلى متى؟!

رشاد أبوشاور