الأرشيفثقافة وفن

هذا هو ناجي العلي… نبيّ الغضب الفلسطيني – زينب حاوي

النسخة الثانية من كتاب «كتاب حنظلة ــ رسومات ناجي العلي/ تاريخ آخر لفلسطين» (دار

Scibest – فرنسا)

تبرز الجوانب الاستشرافية للفنان والمناضل الذي اغتاله كاتم صوت في لندن عام 1987. ابنه خالد أضاف رسوماً جديدة إلى هذه النسخة التي تندرج ضمن سلسلة تنشرها حركة المقاطعة

BDS

. سنفاجأ فعلاً حين نقع على هذه الرسوم التي تتنبأ بكل ما يحدث اليوم في فلسطين

زينب حاوي

لم تكن «مفاجئة» الرسوم الخمسة التي نشرها خالد ناجي العلي أخيراً لوالده تتنبأ بـ «انتفاضة السكاكين» في فلسطين، إذ ذُكر هذا الكلام في مقدمة «كتاب حنظلة ــ رسومات ناجي العلي/ تاريخ آخر لفلسطين» (دار Scibest – فرنسا). الكتاب هو النسخة الثانية التي صدرت أخيراً باللغة الفرنسية، وقد سبقها قبل ثلاث سنوات صدور النسخة الأولى (2011). العمل الذي يحوي 164 رسمة للفنان الشهيد (1938 ــ 1987) وخمسة نصوص تختصر فن الفنان الفلسطيني وفكره، يندرج ضمن سلسلة تنشرها «الحركة العالمية لمقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها» (BDS) للتعريف بالقضية الفلسطينية ورفع الصوت عالياً في وجه ممارسات الاحتلال الإسرائيلي عبر رسومات العلي.

أتي ذلك بالتعاون مع نجله خالد الذي وضع أرشيف والده في متناول الحملة بهدف نشره للجمهور غير العربي، خصوصاً في فرنسا. في مقدمة الكتاب، يشير سيفان هالفي الناشط في هذه الحملة في باريس، إلى أنّ رسمة شخصية «حنظلة» التي اكتشفها عام 2003 على أحد جدران قرية يانون القريبة من نابلس الفلسطينية، كانت الخيط الأساسي للتعرّف إلى الشهيد ناجي العلي. ومنه انطلق متبحّراً في أعمال العلي بعد إدراكه أنّ الفنان والمناضل الذي أردي بكاتم صوت في لندن 1987، يختصر تاريخ القضية الفلسطينية من خلال التزامه بها. لذا، أراد إيصال هذه الرسالة الى الجمهور الغربي لدعم القضية الفلسطينية والتضامن مع شعبها والتعريف بمن أسّس مقاومتها.

إذاً هذا الكتاب هو الثاني بعد نشر الأول الذي تضمّن وقتها 140 رسمة كاريكاتور. يعيد خالد ناجي العلي التذكير في مستهل العمل بهذا الإرث الذي مرّ عليه أكثر من 30 عاماً، وما زلنا «نكتشف الجوانب الرؤيوية» التي تنبأ بها والده منذ اغتصاب فلسطين (1948) وشتات الفلسطينيين في أصقاع العالم. يضيف العلي أنّ أحد أسباب نشر هذه السلسلة هو الإضاءة على القضية الفلسطينية وعلى خط والده الذي ظل ثابتاً مناصراً للفقراء وللمستضعفين الذين ازداد عددهم بفعل الهوة التي خلقتها براميل النفط وقسّمت الناس بين غني وفقير. عبر هذه الرسوم أيضاً، يفتح أوراق الأحداث التي عايشها ناجي منذ الحرب الأهلية اللبنانية الى اتفاق «كامب دايفيد» وحرب الخليج الأولى والاجتياح “الإسرائيلي” للبنان (1982). وفي نهاية هذه المقدمة، وبنفس وجداني عال، يقول خالد إنّ «صورة الفلسطيني أصبحت اليوم تختصر المآسي القومية. اللاجئ الفلسطيني تحوّل الى رمز قويّ في وجه كل القوى المهيمنة على الأرض».

ينقسم الكتاب الى خمسة أجزاء، وضع نصوصها محمد الأسعد، ومقدمتها الرسام الفرنسي الشهير موريس سينيه (Siné) وختم بسرد لأهم محطات الفنان الراحل وبإطلالة على الحاضر اليوم وخلود فكره ورمزه الأبدي «حنظلة» على جدران الأزقة والمخيمات الفلسطينية. النصوص الخمسة هي نفسها أعيد نشرها في النسخة الثانية، تمهدّ بداية لقصة احتلال فلسطين وتضيء على قرار الأمم المتحدة رقم 181 أو ما يعرف بقرار «تقسيم فلسطين». ومع هذه التراجيديا الفلسطينية، يتضح كما يختم القسم الأول بأنّ ناجي العلي شكّل ــ في خضم هذه السوداوية ـــ «صوتاً للأمل» و»للعودة الى فلسطين». هذه الرسوم التي تطورت مع الوقت وفق الأحداث الدموية وسياسات الخنوع التي مارستها السلطات الفلسطينية، واكتسبت نضوجاً فنياً ظهر في الخطوط والرموز لاحقاً، مسألة يضيء عليها القسم الثاني من الكتاب. يقارب التوأمة التي ولدت بين الكاريكاتوريست الفلسطيني والمقاومة المسلحة. هذا الأمر بدأ يتمظهر في رسومه، ولعلّ الشخصية الأبرز هنا هي «المقاوم الفدائي» الذي يزنّر رأسه بالكوفية الفلسطينية وينتعل «رينجر» حربياً. هذه المقاومة سرعان ما طُعنت بخناجر من الخلف، سواء من الداخل أو من العرب، لا سيما أمراء النفط الذين «يدعمون الاحتلال والمشغولين بقتال بعضهم بعضاً».

عرّى العلي هؤلاء وكل من يدّعي بأنه «يناضل من أجل فلسطين». وهنا، بدأ تصاعد نبرة النقد السياسي والمعنوي أمام تقديم الآلاف الشهداء. نقد كان مغيّباً وقتها في الأدبيات العربية. لم تكن السهام تصيب فقط السلطة المتخاذلة. منذ البداية، أوضح العلي في رسومه أنّ هذه السلطة مجرّد أداة بيد العرب ومن ورائهم الولايات المتحدة الأميركية. الرسم الأشهر الأكثر تعبيراً عن ذلك يعود عام 1983 ونُشر يومها في صحيفة «القبس» الكويتية. استوحاه العلي من «رقصة سالوميه» الأسطورية، حيث صوّر الفدائي الفلسطيني مقطوع الرأس ويطاف به من قبل الراقصة التي زنِّر خصرها بالكوفية والى جانبها رجل صهيوني مشدوه بها.

الشاهد الذي يدّق ناقوس الخطر

«حنظلة» الشخصية الرمزية الخالدة التي ظهرت عام 1969 في صحيفة «السياسة» الكويتية، بدا وقتها عجوزاً وواضح الوجه والمعالم، لكنه سرعان ما أدار ظهره إلى العالم، وعاد صغيراً لا يتأثر بعامل الزمن. يوضح الكتاب في جزئه الثالث أنّ هذه الشخصية ليست «صورة طفل ساذج يروي الحكاية ويسمعنا إياها»، بل هو كما قال ناجي «الشاهد الذي يدّق ناقوس الخطر» على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. هو عابر للحدود ويختزن ذاكرة ثقافية ضخمة، ومنها يوّرد «رسائله لإثارة الوعي» في الرأي العام. في هذا القسم بالتحديد، يعيد العمل التذكير بالبعد الاستشرافي لهذا الفنان العظيم الذي ظلت أعماله حيّة تواجه مغتاليه، وتستقرئ الحاضر بعد ربع قرن من إنجازها، كأنها رسمت اليوم. في هذا الخصوص، يذهب الكتاب الى عام 1985 وتحديداً إلى صحيفة «القبس» الكويتية حين رسم ناجي امرأة فلسطينية توزّع الحجارة لرجم الصهيوني، والعربي المتخاذل على حد سواء. بعد ثلاثة أشهر على استشهاده، انطلقت شرارات الانتفاضة الأولى (1987) أو ما سمي وقتها بــ «انتفاضة الحجارة». في نهاية القسم الثالث، يمهدّ الكاتب للفصل الأهم الا وهو النفط أو الذهب الأسود الذي قسّم العالم العربي اجتماعياً، وأمراؤه الذين أصبحوا «لعنة ضربة المقاومة… والمعركة لم تتوقف الى اليوم».

هذه القضية أي النفط كانت مرتكزاً أساسياً بل محوراً في رسوم الفنان الفلسطيني، بوصفه المدماك الذي تدور حوله كل الأسئلة وقضايا الأمة العربية. في أحد معارضه في الكويت العاصمة عام 1983، اختصر ناجي هذه القضية بتجسيد برميل نفط يلفّ رقبة رجل عربي معدم ويخنقه. في هذا الفصل، يشار بقوة الى هذا السلاح الأمضى الذي تملكه أقلية حاكمة صوّبته ضد المقاومة والإنسان… ذلك الذهب الأسود الذي «أفسد الوعي» وأضحى: «سائلاً أسود يخرج من برميل وسرعان ما يتحوّل الى صفعة».

هذا الانشطار الاجتماعي القاصم الذي خلّفه زعماء النفط، أثار السؤال مجدداً حول حقوق الإنسان المهدورة في العالم (الفصل الخامس) الرازح تحت الكولونيالية الأميركية وتحت سوط العالم العربي القامع. هذا الحصار للإنسان جسّده ناجي بوضوح وفرادة، وببساطة ايضاً كي تصل رسائله الى شرائح جماهيرية عريضة. خطوط رقيقة ومرنة اختصرت مفاهيم الهيمنة والسيطرة تقابلها ضحاياها من النساء والرجال والأطفال، الذي انحاز إليهم الكاريكاتوريست الفلسطيني، إذ أظهر في هذا المجال عاطفة ملفتة، مصوّراً هؤلاء معذّبين وحفاة القدمين وبثياب رثّة. كما كانت إضاءة على المرأة التي لم تكن لأمراء النفط سوى «أداة للاستهلاك»، بينما كانت لدى الفنان الفلسطيني تختصر بلده فلسطين بثوبها التقليدي المزركش، وكانت صوت الانتفاضة وفي صفوفها الأولى. أما أمراء النفط، فكانوا دائماً في الرسوم شخصيات عارية ضخمة، تظهر مؤخراتها وكروشها، وكل ذلك بغية السخرية وإثارة الاشمئزاز منهم.

يطوي «كتاب حنظلة» فصوله بفتح بوابة الراهن مع الحضور القوي لرسوم ناجي ورمزه «حنظلة» رغم مرور كل هذه السنوات. هذه الشخصية بصدقها صارت تختصر مأساة الشعب الفلسطيني، ورسوم ناجي فتحت كوة «الأمل بالنصر وبالعودة الى فلسطين».

siné: أنا حنظلة

موريس سينيه، أو الرسام الشهير في صحيفة «شارلي إيبدو» المعروف بــ

SINÉ

، كانت له أيضاً مشاركة في النسخة الثانية من هذا العمل. أهدى ناجي و»حنظلة» رسمة عبارة عن بورتريه شخصي يصافح فيه «حنظلة» الحامل لزهرة الأمل، مذيلة بعبارة «إهداء الى حنظلة…أخوياً». في هذا الإهداء، يأسف سينيه لأن الملايين لم تخرج بعيد اغتيال ناجي العلي عام 1987 لتهتف «أنا حنظلة» كما حصل في التظاهرة الشهيرة تضامناً مع «شارلي إيبدو» بعد تعرض الصحيفة لاعتداء وحشي من قبل التنظيمات الإرهابية المتطرفة. ويلفت الى الظهور المريب لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في هذه التظاهرة المليونية وقتها بين الجموع. الرسام الفرنسي تحدث عن ناجي الذي لم يكتف بإدانة جرائم الحرب التي كان يرتكبها الصهاينة، بل كان صوته عالياً أيضاً في المخيم الذي كان يقطن فيه (مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان) وهذه «جرأة تسجل له» كما يردف. أضاء أيضاً في هذا الإهداء على رؤيوية ونبوءة الكاريكاتوريست الفلسطيني الذي كان يواجه «من دون خوف أو جبن» واصفاً إياه بـ «رسام المعركة» الذي يجسد الشعب الفلسطينيي الذي «لا يقهر». وبعد مرور 28 عاماً كما يقول SINÉ على اغتيال العلي، ما زالت «فلسطين تتألم تحت أنظار العالم أجمع». وختم بالقول: «برأيي هذه فضيحة العصر… إننا محظوظون بأن لدينا حنظلة الذي بقي الشاهد. شكراً ناجي العلي».

ألان غريش: إنّه يبتسم من عليائه

عام 2011، موعد الانتفاضات و«الربيع العربي» الذي تحوّل إلى خراب لاحقاً. في هذا العام، خرجت النسخة الأولى من «كتاب حنظلة»، وكانت محطة لافتة من الصحافي والكاتب الفرنسي الآن غريش الذي كتب خاتمة الكتاب. نُشرت المقالة يومها تزامناً في صحيفة «لو موند ديبلوماتيك». عنون غريش قطعته باللغة الفرنسية: «حين حلم ناجي بالصحوة العربية». ربط غريش في هذه المقالة بين ما كان ناجي يعبّر عنه ويستشرفه، وبين ما حصل من حراك شعبي في الميادين العربية. أعاد غريش التذكير باللوحة الشهيرة لناجي التي رسمت عام 1980 حيث يظهر الشعب الفلسطيني بكامله في الشارع ويحمل لافتة Wanted (مطلوب).

هكذا أصبحت كل الشعوب مطلوبة من قبل حكامها، وذلك دليل ــ كما يسرد الصحافي الفرنسي ـــ على «الاحتقار والإذلال الذي يبديه الحكام لشعوبهم». وبنفس وجداني طاغٍ، يتوجه غريش الى الكاريكاتوريست الفلسطيني قائلاً: «تنظر الآن من عليائك، مبتسماً، ساخراً، وراضياً بأن كل ما أدنته من قمع في العالم العربي»، تلقفه آلاف المتظاهرين من المغرب الى تونس والبحرين… و»النضال لم يقف».

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | HawiZeinab@

ادب وفنون – الاخبار اللبنانية – العدد ٢٧٢٨ الجمعة ٣٠ تشرين الأول 2015

اترك تعليقاً