من هنا وهناك

هيئة الإنتاج والتصنيع العربي المشترك – بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

 

ينبغي ألا تبقى هيئة التصنيع العربي المشترك شعاراً يرفع، ومشروعاً يطرح للدرس، ومادة للنقاش دائمة، فقد مضى زمنٌ طويلٌ على مناقشة الفكرة وقد أقرت نظرياً، لكنها لم تطبق على الواقع، ولم تصبح حقيقةً على الأرض، وما زالت شعاراً جميلاً براقاً، وأملاً قومياً كبيراً، رغم أن تحقيقها ممكن، والوصول إليها سهلٌ وغير صعبٍ، إلا أنها بقيت حلماً بعيد المنال، وعصية على التنفيذ لأسبابٍ كثيرة، أغلبها غير موضوعية، وغير وطنية، ولا تتعلق بمعوقاتٍ مادية، ولا تعترضها صعوباتٌ منطقية، وإنما تتعطل لأسبابٍ سياسية، وحساباتٍ خاصة، ومصالح قطرية ضيقة، تتعمد التأخير، وترفض الموافقة والانطلاق.

ما الذي يمنع العرب من أن يشكلوا هيئةً للتنسيق القومي للإنتاج المشترك، هذا سؤالٌ منطقي وطبيعي، وهو سؤالٌ مشروعٌ ومباح، ومن حقنا أن نسأله وأن نطرحه على حكوماتنا العربية ومؤسساتنا الوطنية، فنحن سوقٌ استهلاكية ضخمة جداً، نعيش في منطقةٍ واسعةٍ جداً، يفوق عدد سكانها الثلاثمائة والخمسين مليوناً، ومنطقتنا العربية تزخر بالموارد الطبيعية المختلفة، فعندنا أم السلع الاستراتيجية النفط والغاز، ولدينا الحديد والنحاس والذهب، والفوسفات والعديد من المعادن التي تدخل في أغلب الصناعات الاستراتيجية.

ولدينا مناخاتٌ متعددة، وبيئاتٌ مختلفة، صحراوية جافة، ومطرية موسمية، وساحلية رطبة، وجبلية باردة، ولدينا القدرة على زراعة القمح القاسي والعادي والأرز، وانتاج السكر والقطن المميز طويل التيلة، وهم عماد الحياة، وأساس الكفاية والاستقلال، فضلاً عن غيرها من مختلف المزروعات الموسمية، ومئات الأنواع من الفواكه التي لا تنتج في غير بلادنا، ولا تنجح في غير أوطاننا، فضلاً عن المنتجات الزراعية الاستهلاكية اليومية، التي تزدهر في أرضنا، وتنمو في تربتنا، وتبقى نضرةً لفترة طويلة، ويمكن تصديرها إلى كل بقاع الدنيا.

ولدينا سواحل طويلة، تمتد من البحار إلى المحيطات والخلجان، وهي مياهٌ دافئة لا تتجمد، غنية بالثروة السمكية على اختلاف أنواعها وأحجامها، التي تغري بالصيد وتشجع على العمل، فضلاً عن اللؤلؤ الثمين، والمرجان العجيب، وغيرهما من ثروات المياه البحرية، التي تتغنى بها بلادنا العربية، التي تزدان بالشمس الساطعة، والحرارة الصحية، وهو ما يبحث عنه غيرنا في بلادنا، وقد فقدوه في بلادهم، وعزَّ عليهم الاستمتاع به إلا في بلادنا، فيأتون إليها فرادى وجماعاتٍ، في سيولٍ لا تنقطع من السواح والزوار، كلهم يستمتع بخيرات أرضنا، وينفق في أسواقنا، وينعش الحالة الاقتصادية، ويحرك الجمود الذي تتسبب به إدارة مؤسساتنا الفاشلة.

وعندنا المال الوفير والمدخرات الكثيرة، التي تتكدس في خزائننا ومصارفنا الوطنية، وأضعافها المودعة في المصارف وبيوت المال الدولية، وكثيرٌ منها جامدة لا تتحرك ولا يستثمر منها شئ، ما يجعل منها أقاماً فلكية فقط في ذواكر أجهزة الكمبيوتر، وحواسيب البنوك الدولية والوطنية، فلا يسحب منها شئ لخدمة المصالح الوطنية والقومية، بقدر ما يحول الكثير منها إلى حسابات الدول الأجنبية، وصناديق الشركات الدولية الكبرى، التي تستنزف طاقات الأمة، وتنهب بوسائل عدة أموالها ومقدراتها.

ولا ننسَ أننا أمةٌ غنيةٌ بالطاقات البشرية والإمكانات العقلية، وعندنا موهوبون ومتميزون ومبدعون، نباهي بهم ونفاخر، وتتسابق دول العالم في استقبالهم واستضافتهم، ومنحهم جنسية بلادهم والإقامة فيها، ليستفيدوا من قدراتهم، ويوظفوا طاقاتهم فيما يخدم بلادهم وطموحاتها العلمية والاقتصادية، وقد كان بإمكاننا أن نهيئ نحن لهم الفرصة، وأن نوجد لهم مؤسساتٍ للبحث العلمي، وأن نوظف كلاً منهم في المكان المناسب، وفي الوظيفة الصحيحة، ليعطينا أفضل ما عنده، ويقدم لنا عصارة فكره، فيساعد في رخاء البلاد، وانتعاش الاقتصاد، وتشغيل الطاقات، وخلق فرصٍ جديدة للعمل.

ألا تستطيع دولنا العربية أن تقرر التكامل فيما بينها، والتعاون في مختلف مناحي اقتصادها الوطني، فلا تكون مضطرةً لإنتاج سلعةٍ مكلفةٍ بينما هي متوفرةٌ بأقل قيمة وأعلى جودةً في بلادٍ عربية أخرى، أما يسهل عليها التنسيق فيما بينها، وتقسيم ما نقوى على إنتاجه، وما نحتاج إلى استهلاكه، بين دولنا العربية جميعاً، كلٍ بالقدر الذي يستطيع فيه ويبرع، فتكون بذلك بيننا تجارةٌ بينيةٌ رائجة، وتبادلٌ للنفع كبير، وتعاونٌ يثير الاعجاب، ويشجع على المزيد، ونقلل من الاستيراد المذل، والحاجة إلى الغرب الدائمة، الذي يخضعنا دوماً لشروطه، ويلزمنا بعقوده، ويستنزفنا بتسلطه واحتكاره.

ألا تستطيع حكوماتنا العربية أن تمنع أفواج الهجرة وسيول الغرقى، وأن تحول دون شتات الأمة وضياع أجيالها الشابة، وفقدان خيرة أبنائها من الشباب والطاقات الخلاقة، التي تهرب من واقعها التعيس، وظروف حياتها الضيقة والقاسية، إلى فضاء الغرب وحريته، وسعة عيشه وواسع رزقه، بينما نستطيع في بلادنا إن وظفنا كل طاقاتنا، وتعاونّا فيما بيننا، ونسقنا بين قدراتنا، أن نجعل بلادنا أكثر رخاءً وانتعاشاً، وأكثر تطوراً وازدهاراً، بما يجعل منها جنةً بخيراتها، ونعيماً بأبنائها، ونكون بلاداً صناعية حقيقية، وزراعية متقدمة، ومنتجة على كل الصعد، وتملك بتعاونها اقتصاداً جباراً يضاهي اقتصاد غيرها ويبزه، ويتفوق عليه دوماً نمواً وازدهاراً.

بالتنسيق العربي المشترك في مجالات الاقتصاد المختلفة، الصناعية والتجارية والزراعية والحرفية والفنية والعلمية وغيرها، لا بالتنسيق الأمني والمعلوماتي والاستخباري فقط، نستطيع أن نخلق فرصاً جديدةً وحقيقةً للعمل، فنحول دون البطالة، ونشغل جيوشاً من أبنائنا الطامحين، ونربطهم بالأرض والوطن، ونجعل مشاريعهم فيها وأحلامهم عليها ومستقبلهم وأولادهما فيها، كما نقلل من نسبة الجريمة، ونتخلص من كثيرٍ من الأدواء والأمراض الاجتماعية التي يسببها الفقر والحاجة، وتخلقها البطالة والتشرد والضياع، فما انتشار المخدرات والرذيلة، إلا نتيجة الفراغ وانغلاق المستقبل، ونقص فرص العمل التي تصنع الكرامة وتحقق السيادة.

لا ينقصنا شئ نحن العرب غير بعض الكرامة، وشيئاً من الإحساس بالوطنية، والكثير من الغيرة، والحرص على أبنائنا وأجيالنا الطالعة، وتقديراً لأنفسنا، وتفضيلاً لمصالحنا، وقراراً حراً صادقاً بالانعتاق من التبعية، والاستقلال في الإرادة، وتخلصاً من الشخصانية الضيقة، والمصالح الفئوية المحدودة، لندرك أننا أمةٌ تملك مقومات المستقبل كما كانت تملك زمام التاريخ، وأنها قادرة على الاكتفاء الذاتي الذي يعني الحرية والاستقلال، والإرادة الحرة القادرة، التي تصنع القوة وتقود إلى النصر، وتحمي الأوطان وتستعيد الأرض والبلاد والحقوق، وتحقق الكرامة، وترفع الرأس عالياً بعزةٍ وشرفٍ وفخارٍ.

 

بيروت في 12/5/2015

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi

tabaria.gaza@gmail.com

اترك تعليقاً