الأخبارالأرشيفبساط الريح

ولاية الفقيه الأميركي في لبنان – أسعد أبو خليل

 

الكثير من الكلام الذي قيل في قضيّة تبرئة وتهريب عامر الفاخوري، جاء على لسان أعداء ممتهنين لمقاومة (إسرائيل) في لبنان. وأعداء مقاومة (إسرائيل) في لبنان كثُر، ويتوزّعون على تيّارات سياسية مختلفة. هم يمينيّون وليبراليّون ويساريّون (وحتى بعض الفوضويّين على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ إن الفوضويّة بين بعض الشباب اللبناني ليست إلا ليبراليّة تتزين بشعارات تتناقض مع مضامين ومقاصد حاملي رموزها). أعداء مقاومة (إسرائيل) هم الذين يكرّسون كل الجهد اللفظي والكتابي، للنيل من المقاومة والسخرية منها. كذلك، هناك فريق (بعضه يعمل في إعلام محطات الأثرياء) يمتهن السخرية المنتظمة من مقاطعة (إسرائيل)، لأن سماح إدريس وصحبه يشكلّون ــ برأيهم ــ خطراً يفوق خطر احتلال وعدوان (إسرائيل).

 

في الصورة سماح إدريس

 

لم تمرّ دقائق على خبر تهريب عامر الفاخوري، إلّا وكان فريق معاداة مقاومة (إسرائيل) يزايد على مقاومة (إسرائيل) في إظهار العداء ل(إسرائيل) ومجرميها المنتشرين في لبنان والمغتربات. وكان هناك من تساءل عن سبب إحجام حزب الله عن منع التهريب بالقوّة. لو أنّ الحزب لجأ إلى القوّة المسلّحة لِمنع تهريب الفاخوري، لكان هؤلاء أوّل المعترضين ولكانوا قد ملأوا الساحات بالهتافات ضد الحزب، وضد النفوذ الإيراني في لبنان. لو أنّ الحزب استعمل القوة ضد تهريب الفاخوري، لتنادت كل قوى «14 آذار»، مناشدة مجلس الأمن الدولي تحرير لبنان من حزب الله. هؤلاء أنفسهم الذين جعلوا من 7 أيّار (والتي لم تكن إلا للدفاع عن مقاومة إسرائيل بوجه مؤامرة من أعدائها المتنفّذين في الحكومة اللبنانية آنذاك) ملحمة تاريخية تفوق في معاناة ضحاياها معاناة ضحايا النكبة، باتوا اليوم يتساءلون عن سبب عدم تدخّل حزب الله لجرّ الفاخوري قسراً من سفارة أميركا. هؤلاء هم الذين يلومون حزب الله لو اعتدت (إسرائيل) على لبنان، ويلومون حزب الله لو دافع عن لبنان، ثم يلومون حزب الله لو هو ردع إسرائيل من دون أن يقصف مستوطناتها بصورة يوميّة. أي ليس لهؤلاء موقف صارم ضد إسرائيل وعدوانها، بقدر ما هم متفرّغون (ليس بالمجّان) لتصيّد الفرص للنيل من موقع حزب الله في السياسة اللبنانيّة والإقليميّة. هؤلاء لاموا حزب الله لأنه انتصر على مقاتلي «النصرة» و«داعش» وطردهم من حدود لبنان من دون أن يقتلهم جماعيّاً. وهؤلاء أنفسهم كانوا اتّهموا الحزب بارتكاب جرائم حرب لو أنه قتل كلّ مقاتلي «داعش» و«النصرة». هؤلاء هم لوبي الإعلام الإسرائيلي في لبنان. كل مواقفهم تتماهى مع مواقف الصهيونيّة.

لكن ليس كلّ من اعترض على تبرئة وتهريب الفاخوري في لبنان، ينتمي إلى صف أعوان (إسرائيل). ما حدث كان خطيراً جداً، ليس فقط من ناحية الاقتصاص من أعداء إسرائيل، بل لأنه يشكّل سابقة في طريقة تعاطي الحكومة الأميركيّة مع الدولة في لبنان، وللمرّة الأولى منذ عام 1984، يوم انسحبت القوّات الأميركيّة من لبنان، جارّة أذيال الخيبة (يومها، عجز رونالد ريغان عن الاعتراف بانسحاب القوّات الأميركيّة من لبنان، برغم أنّ الخبر شكل حدثاً يومياً على شاشات التلفزة الأميركية، وقال إن الأمر مجرّد «إعادة انتشار» إلى السفن الأميركيّة في المتوسّط). لكنّ تهريب الفاخوري، وإخراج عمليّة تبرئته بطريقة سهّلت القرصنة الأميركيّة، أعادنا إلى زمن السيطرة الأميركيّة الكليّة على شؤون لبنان في عهد أمين الجميّل، قبل أن تنفض يدها (جزئياً ومرحليّاً) بعد هزيمة مشروعها، وتقبل التشارك مع السعودية وسوريا في إنتاج «اتفاق الطائف» وفرض تطبيقه.

الحكومة الأميركيّة كانت، منذ عام 1958، الوريث الشرعي والوحيد للاستعمار الأوروبي. وقد أصبحت أميركا، لا فرنسا ولا بريطانيا، هي الحامي الأساسي، ليس فقط للنظام السياسي اللبناني، بل أيضاً لميليشيات اليمين فيه. وكانت نصرة أميركا لميليشيات اليمين، منذ عام 1958، تهدف إلى ضرب اليسار في زمن الحرب الباردة، وإلى ضرب المقاومة بعد منتصف الستينيّات، عندما تشكّل حلف سياسي من (إسرائيل) وأميركا والنظام اللبناني، لضرب المقاومة الفلسطينيّة (كما أنّ الحكومة الأميركيّة و(إسرائيل) تشاركتا لضرب المقاومة في الأردن، وليس صدفةً أنّ السفير الأميركي دين براون، والذي كان معتمداً في الأردن أيام «أيلول الأسود»، كان هو المبعوث الرئاسي لجيرالد فورد إلى لبنان، عام 1976). وقد أخبرتنا الوثائق الدبلوماسية التي أفرجت عنها الولايات المتحدة، أخيراً، أنّ الرئيسين شارل حلو وسليمان فرنجيّة كانا يعتمدان على مستشار خاص لتنسيق العلاقة مع الحكومة الأميركيّة، من خارج الأقنية الديبلوماسيّة، ومن دون علم وزير الخارجيّة والحكومة. لكنّ عهد أمين الجميّل شهد على السيطرة الأميركيّة الكليّة على مقدّرات صنع القرار اللبناني، إلى درجة أنّ أميركا كانت تتدخّل في التعيينات في حكومة الجميّل. ومنذ ذلك الوقت، أصبح لأميركا حقّ تطيير طائرات من حرم سفارتها، أي أنّ لبنان اعترف بحق تحويل مقرّ السفارة إلى مطار خاص، لا يخضع للقوانين اللبنانيّة. وفي هذا، تكون الحكومة الأميركيّة قد خرقت القوانين والأعراف الديبلوماسيّة، لأنها تعاملت مع الأجواء فوق حرم السفارة على أنّها من حصّة بلد السفارة، وليس من حصّة البلد المضيف. أجواء وأنحاء السفارة هي ملك للبلد المضيف، وليس للبلد الذي يطير علمه على مبنى السفارة. إلّا أن الحكومة اللبنانية رضخت لهذا الخرق الفظيع، ولم يؤدِّ ذلك إلا إلى جلسة شاي بين وزير الخارجيّة والسفيرة الأميركيّة التي حملت قضيّة الفاخوري، منذ أن هبطت طائرتها على أرض لبنان. هذا الحق الذي أعطاه لبنان لأميركا، بإقلاع طائرات من حرم السفارة فريد بين الدول، إن لم يكن نادراً إلّا في تلك الدول (مثل محميّات الخليج) التي تستضيف قواعد أميركيّة. استمرّ هذا الحق الأميركي على مرّ العهود، بالرغم من زيادة إعلان عداء أميركا الرسمي لفريق سياسي لبناني كبير، وبالرغم من لجوء الحكومة الأميركيّة إلى عمليّات خطف للبنانيّين حول العالم تتهمهم هي و(إسرائيل) بالإرهاب. أي أنّ أميركا كرّست خطف لبنانيّين تتهمهم هي بتهم شتّى، بينما تخطف أيضاً لبنانيّين محكومين في لبنان.

لم يعد الاستعمار ممكناً في القرن العشرين، وبالتالي برزت حاجة إلى إعادة رسم دوره وتزيين أشكاله. أوّل من كتب عن «الاستعمار الجديد»، أو «نيو استعمار»، كان كوامه نكروما وجان بول سارتر في منتصف الخمسينيات. في الاستعمال السياسي، عرَّفَ وزير خارجية غانا في خطاب أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة، في عام 1958، الاستعمار الجديد بـ«ممارسة منح نوع من الاستقلال بنيّة مستترة لجعل الدولة المُحرَّرة دولة مُلحقة، ومن أجل السيطرة عليها بوسائل غير الوسائل السياسيّة». (ليس صحيحاً ما يُقال في الأدبيّات الأكاديميّة، أنّ هذا كان أوّل استعمال للمصطلح، إذ إنّ سارتر استعمله في مقالة «الاستعمار كنظام» في «الأزمة الحديثة»، في عام 1954. لكنّ نكروما، صديق عبد الناصر، هو الذي أسهب في شرح المفهوم. ونكروما في كتابه «النيو كولونياليّة: آخر مراحل الإمبرياليّة» يختصر الفكرة بضرورة التفريق بين شكليّة الاستقلال للدول النامية، وبين حقيقة الاستعمار الجديد كحاجة ضروريّة للاستعمار القديم). يسمح الاستعمار الجديد بكل مظاهر السيادة (من علم ونشيد وطني وألقاب وأعياد وطنيّة وعروض عسكريّة وبزات مرقّطة وتمرينات مشتركة)، فيما النظام السياسي ــ الاقتصادي يُدار من الخارج. وقد تنبّه نكروما مبكراً إلى قدرة الاستعمار على السيطرة على بلد، من خلال الوسائل الاقتصادية والماليّة. وأدرك أنّ الاستعمار الجديد لا يعكس، بالضرورة، سيطرة ونفوذ القوى الاستعماريّة السابقة، بل قد ينتقل إلى قوى استعماريّة أخرى: مثلما أصبحت أميركا بعد فرنسا القوة الاستعماريّة الجديدة في جنوب فيتنام.

يمكن عقد مقارنة بين النفوذ الذي مارسته واشنطن على القضاء والمصارف والحكم والطيران المدني في بيروت وبين قدرة إيران على ممارسة هذا النوع من السيطرة

 

لكن غاب عن الكتابات الأولى عن الاستعمار الجديد، طرق الخداع الدعائيّة التي تلجأ إليها أميركا للتغطية على سيطرتها الاستعماريّة. هي مثلاً تغزو العراق وتحتلّه، وتقيم مجلس احتلال «حاكماً»، فيما لا يملك أي من أعضائه (من الأحزاب الشيعيّة الطائفيّة إلى الحزب الشيوعي العراقي) أي سلطة قرار. كان هؤلاء مجرّد أدوات مُسيَّرة، لكنهم ساهموا في ارتداء جلباب قشور السيادة لإخفاء حقيقة الاستعمار (المباشر في حالة العراق). لكن ماذا فعلت أميركا بعد ذلك؟ أقامت الدنيا ولم تقعدها، رافعة شعار أن العراق تحوّل إلى مستعمرة إيرانيّة. وكان جورج بوش يعقد لقاء أسبوعيّاً عبر الفيديو مع نوري المالكي (الذي تحوّل بقدرة قادر إلى عضو فاعل في محور الممانعة)، لتوجيهه وفق ما ترتأيه الحكومة الأميركيّة. وحتى بعد انسحاب القوات الأميركيّة (هذا قبل أن تعود بحجّة «داعش» لتمكين الجيش العراقي، بعدما كان قد انهار أمام «داعش» ــ وبعدما كان هو نفسه قد تلقّى تدريباً من قوات الاحتلال الأميركي)، بقيت أميركا المُحرِّك الأساسي والمهَيمِن في العراق. وفي أفغانستان، كما العراق، تُفصّل أميركا نظاماً انتخابيّاً يحول دون إعادة تشكيل الوطن، كي تبقى لديها حريّة التحرّك والسيطرة (الذين رفعوا شعار «نريد وطن» في العراق، نسوا أنّ الذي يمنع تشكّل وطنهم هو المحتلّ الأميركي، لكنّهم كانوا مشغولين بحرق القنصليّات الإيرانيّة). مجلس النوّاب العراقي يصوّت على ضرورة خروج القوّات الأميركيّة من العراق، فيما يرفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذلك، ويتهكّم. كل هذا وأميركا (مثل بعض «ثوار» العراق) تدين السيطرة الإيرانيّة على العراق.

واحدة من وثائق «ويكليكس» مؤرّخة بـ15 أيّار 2009 (حصيلة اجتماع بين وليد جنبلاط ومروان حمادة وديفيد هيل، وهي الوثيقة ذاتها التي يقول فيها جنبلاط إن مارسيل غانم يقبض ٢٥ ألف دولار عن كل مرشّح يظهر على برنامجه، علماً بأن غانم نفى وجود هذه الوثيقة الموجودة على موقع «ويكليكس»). يُظهر نص الوثيقة، حديث جماعة السيادة عن الانتخابات المقبلة، ويشكو فيها جنبلاط وحمادة من قلّة الحيلة والمال، أما هيل فيحذّرهم من خسارة الانتخابات لأنّ ذلك يجعل لبنان خاضعاً للإرادة الإيرانيّة. لكن «8 آذار» فازت بأكثريّة المقاعد في الانتخابات النيابيّة الأخيرة، ولم يستطع محور إيران منع تهريب الفاخوري خارج البلاد.

أميركا تسيطر على لبنان، لكنها في الوقت نفسه تُنفق الملايين من الدولارات لضخ فكرة أنّ لبنان مستعمرة إيرانيّة، وأنه خاضع بالكامل لمشيئة حزب الله. هذا جزء من الاستعمار الجديد: أن تسيطر بالكامل على البلد، فيما تتهم خصومك بأنّهم هم المسيطرون (إن في العراق أو في لبنان أو حتى في اليمن). والمفارقة في لبنان، أنّ الطبقة الحاكمة في معظمها تنتمي إلى المحور السعودي ــ الأميركي ــ الإسرائيلي، فيما يشكو أقطابها من أنهم يعانون من إرهاب حزب الله، وأن الحزب يمنع الممارسة السياسيّة في لبنان. الصياح والصراخ والشكوى من لبنان مسموعة على مدار الساعة، ثم تسمع شكاوى من أنّ إيران تسيطر على البلد، وتمنع عنهم حريّة انتقادها وانتقاد حزب الله. والذين ليسوا إلا أدوات صغيرة بيد المُسيِّر الخارجي يصرّون على روايتهم عن أنّ نصر الله أداة بيد النظام الإيراني. لو أنّ لسعد الحريري أو فؤاد السنيورة الحظوة لدى السعوديّة التي لنصر الله في إيران، لكان بالإمكان تقرير بعض سياسات «14 آذار» محليّاً، وليس بالاعتماد الكلّي على الخارج مخافة مخالفة المشيئة الملكيّة في الرياض. سعد الحريري ماشى النظام السعودي في كل سياساته، لكن ذلك لم يكفِ فكان أن رُبطَ في كرسيّ وتعرّض للإهانة والضرب (هناك المزيد عن فصل احتجاز الحريري في الرياض في كتاب بن هبرد الجديد عن محمد بن سلمان، ولي عودة إلى الكتاب قريباً). ينفي الاستعمار الجديد عن نفسه صفة السيطرة ويلصقها بأعدائه.

يمكن عقد مقارنة بين النفوذ الذي مارسته واشنطن على القضاء والمصارف والحكم والطيران المدني في بيروت، وبين إمكانيّة أو قدرة إيران على ممارسة هذا النوع من السيطرة. وحتى في حقبة سيطرة النظام السوري، حظيت الحكومة الأميركيّة بنفوذ هائل في داخل إدارات الدولة والمجتمع. هي فرضت على المجلس النيابي (تحت طائلة العقوبات) تبنّي نص لمشروع قانون ضد القرصنة الإلكترونية والفكرية والأدبيّة. أميركا لم تفقد نفوذها في حقبة سيطرة النظام السوري، بل تعايشت مع نفوذ النظام السوري ونسّقت معه في ملفّات أمنيّة. ثمّ زادت من وتيرة تدخّلها الصفيق بعد عام 2005.

ما فتئت أميركا تستثمر في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري. لفخر إميل لحّود (زارع العقيدة الوطنيّة المقاومة للجيش) إنّ أميركا لم تستثمر في الجيش، في سنوات قيادته أو رئاسته، لأنّ العقيدة الوطنيّة التي زرعها ورعاها تناقضت مع غاية التمويل الأميركي. أمّا تحت قيادة ميشال سليمان وجان قهوجي ثم جوزيف عون، فقد تدفّقت الأموال مع دعاية صفيقة مترافقة مع «وحدانيّة احتكار السلاح»، وبات الشعار لازمة في صف الفريق الذي راهن على نصر إسرائيل في حرب تمّوز. لم يتغيّر نوع السلاح الأميركي، بل زاد تعاسةً وصدأً عمّا كان عليه قبل الحرب الأهليّة، لأنّ اللوبي الإسرائيلي لم يكن يخاف من لبنان قبل الحرب الأهليّة.

إنّ عمليّة تبرئة وتهريب الفاخوري، كانت تعبيراً أخيراً عن نفوذ الحكومة الأميركيّة في لبنان. يندر أن تجد قطاعاً، غير المقاومة، لا يخضع، جزئيّاً أو كليّاً، للنفوذ الأميركي. قائد الجيش الحالي، لم يعد فقط صامتاً في زياراته المتتالية إلى واشنطن عن عدوان واحتلال إسرائيل، بل هو أفتى بأنّ المانع الوحيد أمام اقتناء لبنان لسلاح رادع ضد إسرائيل هو مانع مالي محض (أي أنّه تطوّع لتبرئة أميركا من سياسة أكيدة وواضحة في منع لبنان من اقتناء سلاح رادع، وقد ظهر في وثائق «ويكليكس» مدى عرقلة أميركا للسلاح الروسي المقترح، كما أنّ الوثائق الأميركيّة المُفرج عنها، عن مرحلة السبعينيّات، تتحدّث عن دور أميركي في عرقلة تسليح لبنان من قبل الجامعة العربيّة في مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة). لا يصلح تسليح الجيش وتجهيزه بسلاح، إلا لغايات القمع الداخلي ومهام الشرطة (مع أنّ هذا السلاح بدا عاجزاً أمام زعران «القوات اللبنانية» في جل الديب أثناء الحراك)، ويترافق ذلك مع بروباغندا مسرحيّة لتعظيم دوره و«جهوزيّته» لخداع الشعب اللبناني، بأنّه بديل ناجح للمقاومة. الجيش تولّى حماية الفاخوري وتسليمه إلى السفارة الأميركيّة، أي أنه شارك في عمليّة تسليمه إلى أرض أجنبيّة (أي حرم السفارة الأميركيّة)، بعد صدور قرار قضائي بمنع سفره من لبنان. من اتخذ القرار بذلك؟ وعلى أي مستوى؟ طبعاً، الكلام عن تحقيقٍ في ملابسات ما حدث لن يؤدّي إلى نتيجة، لأنّ لبنان لا يزال ينتظر التحقيق في صفقة صواريخ «كروتال» وعمليّة خطف الميراج وطائرات «الكوبرا»، بالإضافة إلى التحقيق السريع والجدي في اغتيال معروف سعد.

لم يسلم قطاع من قطاعات الدولة والمجتمع في لبنان، من سطوة وتدخّل ونفوذ الحكومة الأميركيّة. وقد باتت شدّة العقوبات الأميركيّة وفعاليّتها، بالمقارنة لما كانت عليه قبل العصر الإلكتروني، سلاحاً قويّاً تستعمله أميركا ضد دولٍ وأفراد. هذا السلاح لا يؤثّر إلّا على الميسورين والأثرياء، وعلى الذين يريدون بعث أولادهم إلى الدراسة والسياحة والعمل في أميركا. العقوبات الأميركيّة ضد قادة حزب الله وتجميد أموالهم، لم تكن إلا إعلانات دعائيّة، لعلم الحكومة الأميركيّة أنّ أحداً من قادة الحزب لا يكنز المال في المصارف الأميركيّة. لكنّ التهديد، مجرّد التهديد، لنوّاب ووزراء وأقطاب، بتجميد الأموال والوضع على قوائم العقوبات يؤتي مفعوله بسرعة. لوّحت الحكومة الأميركيّة بسيف العقوبات، بعد عام 1991، ضد أثرياء فلسطين حول العالم، فجفّ تمويل «منظمة التحرير» بلمح البصر. سلاح العقوبات الأميركيّة لا يخيف فقراء اليمن، لكنّه يرهب ويرعب الفاسدين من السياسيّين والقضاة والمنتفعين في لبنان (بصرف النظر عمّا إذا كانوا ينتمون إلى 8 أو 14 آذار).

وقد تطلّبت عمليّة المجرم الفاخوري ضلوعاً من قطاعات عدّة في الدولة والمجتمع: مَن الذي وثّقَ تشخيص إصابته بالسرطان (في المرحلة الرابعة ــ ماذا لو ثبتَ أنه غير مصاب بالسرطان؟ هل سيُقال لنا إنه تعافى من المرحلة الرابعة من السرطان، بمجرّد أن تنشّق هواء ولاية نيوهامبشر العليل؟) إلى الذي حرص طيلة فترة احتجازه على إقامته في المستشفى ــ حتى قبل تشخيص السرطان ــ بدلاً من السجن، تأميناً لراحة لم يُوفّرها لضحاياه في سجن الخيام. ومن الذي أمّن عدم حضوره جلسات المحكمة بشتى الذرائع؟ ومن الذي غطّى على ذلك؟ هذه أسئلة لن تجيب عليها تحقيقات لبنان، لأنّه لن يكون هناك تحقيقات (ماذا جرى في التحقيق في شنيعة ثكنة مرجعيون؟)

 

إنّ الدولة العميقة في لبنان تنتمي، في معظمها، إلى جهات تعادي حزب الله. كذلك، فإنّ القطاع المصرفي والإعلامي مرتهن بالكامل للتحالف السعودي ــ الأميركي. محاولة لصق المسؤوليّة بحزب الله جزء من الحملة المعادية ضدّه. كل من درس حزب الله، ومن درس السياسة الأميركيّة، يستطيع أن ينفي أن تكون قد جرت صفقة بين حزب الله أو أميركا (مفهوم الصفقة في هذه الحالة يتناقض مع عقيدة كل من الطرفيْن). حكاية الصفقة هي من إنتاج مصنع المخابرات السعوديّة، الذي منذ إذلال حرب تموّز يريد أن يروّج أنّ كل صراع حزب الله مع إسرائيل يُخفي صفقات تحت الطاولة: أي أنّ تمريغ أنف العدوّ بالتراب وإجباره على التقهقر في أرض الجنوب، كان مسرحيّة. كذلك، هناك من لا يزال يقلّل من عمل المقاومة الجبّار، عبر المبالغة اليوميّة في إنجازات «جمّول» (على أهميّتها، لكن يفيد التذكير بأن الياس عطالله كان قائد «جمّول» فيما كان عماد مغنيّة قائد المقاومة الإسلاميّة. وأنا أسأل يساريّين من الذين يبالغون في إنجازات «جمّول»: لو كنتَ محاصراً من قبل العدو، هل تختار عماد مغنيّة أم الياس عطالله لوضع خطة الدفاع عنكَ؟). ولم تكن هناك صفقة بين الدولة وبين أميركا، لكن كانت هناك سلسلة من الصفقات الصغيرة بين الحكومة الأميركيّة وبين أفراد في لبنان: من رجال أمن وسياسة وعسكر وإدارة وقضاء. لا، لم تكن هذه العمليّة دليلاً على أن أميركا تحرص على حياة مواطنيها. هي لم تكترث لحياة يساريّين قُتلوا من قبل حكومات حليفة لأميركا (مثل راشيل كوري في فلسطين). لو أنني تعرّضتُ للسجن في لبنان بسبب مخالفتي لقانون السير، مثلاً، لن تتدخّل أميركا لإنقاذي، ولن تتطيّر مروحيّة لانتشالي. على العكس، قد يزور مبعوث من السفارة الأميركيّة المحقّق، ويطلب عقوبة لا تقلّ عن الإعدام. لكنّ عامر الفاخوري قام بخدمات جلّى للجيش الحليف لإسرائيل في جنوب لبنان. وهناك عدد من متقاعدي جيش لحد و«القوّات اللبنانيّة» ممن قاموا بعمليّات مُرافقة للقوّات الأميركيّة أثناء الغزو الأميركي للعراق، وبعضهم شارك في التحقيق مع المعتقلين وفي تعذيبهم.

 

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

 

في الصورة أسعد أبو خليل