اشتقت اليوم للعودة للدار! كتب : محمد عادل
اليرموك : مخيم الذاكرة الوطنية والقومية …
هي امرأة يمكن القول إنها تجاوزت الثمانين … لكنها كانت بقلب العشرين واثقة قوية متقدة الذاكرة مؤمنة تعرف مدن فلسطين وقراها وعاداتها وتقاليدها واكلاتها الشعبية وخاصة الإعراس وأيام الدبكة على ضؤ اللوكس …والليالي المقّمرة ،حيث كانت تردد …ما شفت احلي من قمر فلسطين قريب كأنه وراء التله أو وراء الجبل وضؤه بّنور البلاد … يمندرا …بنشوف بلادنا وقمرنا وبحرنا ورائحة زعترنا وشمام بلادنا اللي ما في مثله عسل عسل ومعطر … قلت لها الناس تغادر المخيم وأنت مازلت تذكريني باأيام البلاد والوقوف في هذه الجادة صعب وخطر … رددت الله بستر بدّي ارتاح واحكي واخّرف …بدي يجيئ حدا يسمعني يا خالتي …ما حدا سمعنا تخلوا عنّا …وتركونا بعد أن ضحينا من اجل فلسطين وهذا واجب علينا وفخر لنا …لكن أن يتجاهلونا من يقولوا أنهم ممثلي الشعب الفلسطيني …عزا عليهم …
…اشتقت اليوم أكثر من أي وقت مضى للعودة … لو بّطلع بيدي لأطير في السما واهّدي فوق البلاد وأشوفها من فوق من رفح حتى الناقوره … أشوف البحر والجبل والسهل والوادي وكل شئ في بلادنا اليوم أكثر من أي وقت مضى اشتقت ان أعود..ليش اليوم ..انهد حيلنا اليوم انكسرنا من جديد اليوم ضاع العمر …وضاع ما بنياه بتعبنا وشقانا وعمرنا في لحظة واقل من لحظة وإحنا بنتفرج يالله شو اللي صار كلنا بنعمل مشان نرجع لبلادنا ما بدنا نظل لا هون ولا هناك …اليوم هوت أحلامنا …هوت قلوبنا اليوم… لم نعد نر شئيا …اليوم أضعنا البوصلة … كل هذا الخراب … كل هذا الدمار … لماذا وما جنينا حتى نصل إلى ما تراه ونراه الان …عمرك في البيت راح … فرحك راح …حزنك راح شوقك راح… ضحكات أطفالنا راحت . والجيران اللي بعرفهم وعاشرتهم وبتحبهم وبحبوك وقضيت هالسنين معهم طاروا ما بنعرف وين راحو …وكمان …كلما ما جمعناه ورتبناه وتعلمناه هوى.. هوى إلى قاع سحيق لا قرار له …يا خالتي ما سمعنا حدا بيحكي ما سمعنا حدا يقول ما جرى لنا ماحدا اجا علينا سالنا سلم علينا اشر لنا بيده … هو احنا من وين مو احنا الشعب الفلسطيني وين اللي بكذبوا وبيقولوا انهم ممثلي الشعب وحماة الشعب … يالله اسدل الستار على هذا المخيم وما حدا لحدا … فجأة اهتزت الأرض ..ومالت البناية التي نقف اسفلها وصوت الانفجار يصم الاذان صفيرا ورعبا ودخانا اسود وغبار يصل الى ابعد مدى … لا اراديا تراجعت الى الخلف لأحتمي باي مكان… لاصطدم ببعض من سبقني او خرج من داخل البناء او من الشارع …لحظات… مازالت الأصوات الناجمة عن الانفجار يصل صداها ويتساقط الزجاج والخشب من اعلي البنايات … تقدمت قليلا .. ثم خرجت من البناء بعد ان تصاعد الدخان الأسود الكثيف ورائحة الحريق وقفت تحت احدى الأشجار الكبيرة ووجدت احد الأصدقاء ابو سمرة واضعا يدية فوق رأسه للحماية ..وأوراق الشجر المتساقطة من شدة الانفجار تغطي جسده في مشهد فني بحاجه الى كاميرا تحكي عن هذا المشهد وطار ابو سمره وعاد ليختبئ تحت الشجرة …؟
.قلت له يا رجل تحمي راسك … والشظايا لو وصلت الى صدرك ستقتلك قال وهو يضحك الم ترني جالس كالنعامة أضع راسي بين يدي ماذا تريدني ان افعل انا جاي لأطمئن على أخي……؟
ولم اشعر الا بهول وشدة الانفجار… رأيت ضؤ… ثم عتم الجو ولم اعد أرى شيئا صوت شديد حاد مزق السكون تلاه دخان وحريق وانكسار كل ما هو موجود وكأن… المكان يمشي والأرض تدور ويا روح ما بعدك روح …لا بدي أشوف ولا أشوف حدا ما كنت عارف انه بدو يسير مع اللي صار … يا لطيف شو اللي صار …انشلعت من الأرض وطرت لفوق … ونزلت… وبعدين ما ظل شئ الا واعتقدت انه سيقع على رأسي لم اقدر انظر الى فوق رغم إني تعرضت لقصف طيران في جنوب لبنان … هناك طرت وهديت وبعدين كأنه ما في شئ … اما اليوم بالطيف اُلطف شو اللي صار … الشجرة حمتني ومنعت سقوط مواد من البلاكين على رأسي …والحمد لله هاي شجرة كبيرة وأغصانها قوية تحملت وانا اشكر الله انني بخير رغم كل ما جرى وبعدين جلست كأني في مشهد سينما …يا روح ما بعدك روح … سلام عليكم والله يحميكم …ونهض مسرعا تاركا بعض الأغراض التي كان يحملها فنادى عليه بعض الأصدقاء ولكنه لم يكرر النداء وقال الله برزق خبز وبندوة وبطاطا وعلب دخان نعمه من الله بعدين بعطيه حقهم … وغادرنا أبو سمرة مسرعا شمالا مسرع الخطى حتى غاب بين الخارجين من المخيم ولم نعد نراه …. ساد الصمت قليلا .. نظرت من حولي …وين ام العبد ناديت عليها لم اسمع جوابا … بحثت عنها لم أجدها لا ادري أين ذهبت هل خرجت من المخيم أم بقيت فيه … لم أرها ولم اسمع عنها شيئا منذ ذلك اليوم ..لم تكمل حديثنا ربما قالت بعض ما في داخلها ولم تقل ما كانت تريد أن تقوله ربما أحدا غيري … ربما صرخت وشكت على ما جرى …لكنني لم أرها مُنذ تلك اللحظة التي مالت فيها الأرض… ومالت فيها البناية ومال الشارع ومال الزمان قبل المكان … يا للأيام الصعبة والمرّة …يا مخيمنا من يذّكرك غير الاوفياء الأوفياء.