الأرشيففلسطين

الأسرى وإضرابهم…وما لا بد من قوله – عبد اللطيف مهنا

يقترب استخدام السلاح الوحيد المتاح للأسرى الفلسطينيين خلف قضبان معتقلات الاحتلال، اي الإضراب عن الطعام، أو ما أُصطلح على تسميته بسلاح “الأمعاء الخاوية”، من اسبوعه الثاني من شهره الثاني. عديد الأسرى هو ما يقارب السبعة آلاف، ومن بينهم 34 أسيراً عربياً، المضربون منهم، حتى الآن، قاربوا الألفين، ومع مرور الوقت يُرفدون بمضربين جدداً، وعلى الرغم من كافة السبل والوسائل الجهنمية التي يتبعها عدوهم لفل صمودهم وكسر إضرابهم قمعاً وإغواءً، يزدادون إصراراً على المجابهة ويواصلون بما توفر لهم من سلاح تحديهم لسجَّانيهم. منهم من بدأ في رفض الماء، وبدأت تسوء أحوال الكثيرين منهم، وهناك من باتت حياته في مرحلة الخطر.

هذا الإضراب بالذات، يشكِّل تحوُّلاً غير مسبوق في التصعيد النضالي للحركة الأسيرة، لكونه يأخذ طابعاً شبه إجماعي، أي الخارج عن نطاق الفردية، والمتعدِّي للأطر والعصبيات التنظيمية، والمتجاوز لما يفرِّق الفصائل خارج القضبان…لذا وجب التحذير من مسألتين الوقوع فيهما هو ليس بغير واحدة من اثنتين، إما الخطيئة، أو انتفاء البراءة:

أولاهما، حصر المسألة في الجانب الإنساني وحده، والذي يعني الإساءة لنضالات هؤلاء الأبطال، الذين ما قادهم للوقوع في الأسر سوى فعلهم النضالي، ولم يتم أسرهم خارج ساحة العطاء والنضال.

وثانيتهما، ردَّها لقضايا مطلبية، وبالتالي تقزيمها بإغفال كونها لا تعزل عن سياق نضال وطني عام ضد مستعمر محتل…وفي الحالين، فإن ارتكاب هذين المحذورين، إنما يعادل الخدمة المجانية لعدو يسعى جهده لتشويه وتقزيم وكسر حالة نضالية تربكه وتقض مضجعه.

…ما تقدم يدفعنا لسوق الملاحظات التالية:

الأولى، المحدودية المريعة لمظاهر الدعم والإسناد الشعبي العربي، ولا نقول الرسمي، الذي لم يعد يؤمل ولا هو في الحسبان… وإذ نقول المحدودية، نشير لقليل من اعتصامات تكاد لا تذكر هنا أو هناك، أو معزول ندوات يكاد لا يسمع بها خارج قاعاتها، أو اضراب شخصي لرموز محترمة ليوم واحد عن الطعام، وكلها إن هي المرحَّب بها، فبمجملها، ومن أسف، شحيحة الأثر سريعة الذوبان، ولعل الأنشط في هذا السياق هو ما تتداوله وسائط التواصل الاجتماعي، رغم ما يشوبه أحياناً من تزيُّد في جلد الذات، أو تفجُّع لا يغني ولا يسمن من جوع، وهاته الحالات جميعها هي في أحسن الأحوال تنفيس عن غضب، أو تعويض مرده تبكيت الضمير، وفي أسوأها رفع عتب…بينما يظل الأسرى وحدهم يجابهون عدو أمتهم بأمعائهم الخاوية حد الإشراف على الموت.

والثانية، إنه لمن نافل القول إن الإنسان العربي أو الفلسطيني، ولا من فرق هنا، لا يتضامن مع نفسه، وإنما يقف معها، والتضامن أو الشجب والإدانة، واستجداء نخوة “المجتمع الدولي”، المعدومة تاريخياً فيما يتعلق بعدالة القضية المركزية للأمة والمنحاز أبداً لعدوها، مثله مثل التغني ببطولة الأسرى وتمجيد صلابتهم وامتداح صمودهم في وجه جلاديهم، أي لا يجدي، بل والمعادل لعدمه، إن لم يقترن بما يوازي ويلتقي مع الفعل النضالي المنبعث من خلف القضبان إلى حيث خارجها، إن في الوطن الفلسطيني الأسير بكامله، أو في الوطن العربي الأكبر المنشغل الآن بلعق جراح الفتن الفاتكة به.

والثالثة، إنه لا يجب تحميل الأسرى المكبلين بالأغلال المزيد مما هو فوق طاقتهم كبشر، ولا أن يطلب منهم أن ينوبوا عن الفصائل، التي أقعدها عجزها عن اللحاق بانتفاضة الفدائيين ورفدها وتطويرها. كما لا ينبغي أن ينتظر من الشعب الفلسطيني أن ينوب عن الأمة فيما يتعلق بواجبها القومي تجاه قضية قضاياها المركزية، وإذا كان هو رأس حربتها وخندق مواجهتها الأول في الصراع على فلسطينها، وهذا ما يقوم به، فمهمته إدامة الاشتباك، أما التحرير فمهمة أمة بكاملها وليس هو وحده ولا بمقدوره.
كما لا يجب نسيان كون كل الفلسطينيين الباقين صامدين داخل وطنهم المحتل ولم يشرَّدوا في المنافي هم أسرى. وإنه كما يجوع الأسرى المضربون بإرادتهم في سجون الاحتلال، تجوع غزة لعقد كامل رغماً عنها بسبب من حصار إجرامي مضروب من حولها براً وبحراً وجوا حوَّلها لمعتقل كبير لمليونين من الفلسطينيين، الأمر الذي ينذرنا بأن اسرانا سيتركون وحدهم يواجهون فجور عدوانية سجَّانهم، كما تركت غزة وحدها في مواجهة متتالي الحروب العدوانية المتلاحقة التي شنت عليها، إلى جانب معاناتها المديدة التي فاقت عن الوصف في معتقل حصارها البشع المشار إليه.

بقي أن نقول، إنه إذا ما نجحت أجهزة الحكم الذاتي الإداري المحدود في ظل الاحتلال، وبالتنسيق الأمني مع المحتلين، في حصر حركة الإسناد الشعبي المتصاعد داخل الوطن المحتل في خيام التضامن المنتقاة مكانياً بحيث تكون المعزولة عن المواجهة مع العدو، والحؤول دون الخطوة الوحيدة المجدية والمنتظرة وهي العصيان المدني، فإن أسوأ ما سوف يرتكب ضد الأسرى والقضية برمتها، هو بوادر محاولات ركوب موجة التضامن معهم تطبيعياً عبر توجيه الدعوات للنخب العربية للمشاركة في مهرجانات تضامنية تنظمها السلطة تحت الاحتلال لاستجلاب من يهرعون من المطبِّعين باسم دعم الأسرى، أو ما لا يتم إلا عبر التنسيق الأمني مع المحتلين وبموافقتهم وبإذن منهم.