الأرشيفعربي وعالمي

السياسة الأميركيّة الخارجيّة (نحو العرب) في عهد بايدن – أسعد أبو خليل

فيما لا تزال أميركا تعاني من أزمة ستصبح دستوريّة حتماً، إذا لم يُسلِّم دونالد ترامب بخسارته الانتخابات، تعمل حملة جو بايدن الانتخابيّة على تنظيم عمليّة انتقال السلطة، وتحضير الفريق المحيط بالرئيس الجديد. ترامب لم يكن رئيساً عاديّاً، بأيّ مقياس، إذ إنّه وجد نقصاً في الخبراء الجمهوريّين المستعدّين للخدمة في مجالات السياسة الخارجيّة والدفاع، بسبب تعهّد عدد كبير من الخبراء بالتمنّع عن تولّي مناصب في إدارته. بايدن يأتي من صلب المؤسّسات التقليديّة للحزب الديموقراطي، وهو كان عنصراً (غير فاعل كثيراً) في إدارة باراك أوباما. لن يجد بايدن صعوبة، لا بل سيجد تزاحماً، في تجنيد خبراء في مجالات السياسة الخارجيّة والدفاع والأمن القومي والداخلي. قد يكون من المُبكِر رسم معالم إدارة لم تصل إلى السلطة بعد، وفي حمأة صراع حزبيّ لم يسبق له مثيل في العقود الماضية. لكنّ بايدن شخصيّة معروفة جداً، وهو ترك وراءه سجلّاً طويلاً من الأصوات والخطب التي تعطي فكرة محدّدة وواضحة عن أهوائه واتجاهاته.

تابعتُ بايدن منذ أن قدِمتُ إلى واشنطن بغرض الدراسة في الثمانينيّات. ومرَّ عليّ في مرحلة التعليم الجامعي تلاميذ في واشنطن وبوسطن ممّن عملوا (بحكم الولادة الطبقيّة النخبويّة) في الكونغرس الأميركي، كما أنّ رئيس أركان موظّفي لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النوّاب في التسعينيّات كان تلميذي في جامعة جورجتاون. هذا يختصر ما يجب أن نعرفه عن بايدن: مرّة حضرَ زميل لي في شهادة أمام لجنة الشؤون الخارجيّة، حيث شغل بايدن منصباً رفيعاً. بعد إلقاء الشهادات في الجلسة، دعاه بايدن إلى الغداء. فقلتُ له بعدها: دعني أحزر. هو مثل أعضاء الكونغرس الذين يجاهرون بمناصرة “إسرائيل” في العلن وينتقدونها في السر، خوفاً من اللوبي “الإسرائيلي”. فقال لي، ليته كذلك: لا. كلامه في السر عن “إسرائيل” لا يختلف عن كلامه العلني. لكنّ هذا رجل بدأ العمل السياسي باكراً جداً (أصبح عضواً في مجلس الشيوخ في عام ١٩٧٣)، وفي هذه المسيرة الطويلة، يصبح اعتناق الصهيونيّة وتلقّي الأوامر من اللوبي “الإسرائيلي” من ضمن الشخصيّة. لكنّ هناك مسارات، أو مسارَيْن اثنيْن، لجو بايدن في حياته السياسيّة، بالنسبة للسياسة الخارجيّة، وأيّ خلط بينهما يمكن أن يُخلّ في رصد توجّهات الإدارة الجديدة. وهناك في حياة السياسيّين الطامحين دائماً حكاية عن أصل مناصرتهم “لإسرائيل”. بيل كلينتون، زعم أنه تشرّب حب إسرائيل من قسّيس في ولاية أركنساس، وأنّه أوصاه “بإسرائيل” على فراش الموت. ومع بيل كلينتون، يُرجَّح دائماً عدم التصديق بسبب استسهاله للكذب. أما بايدن، فيقول إنّ والده شرح له أنّ الصهيونيّة لا تعنى اليهود فقط، وأنّ غير اليهودي يمكن له أن يكون صهيونيّاً.

بايدن كان من القلّة التي تستمتع بمواضيع السياسة الخارجيّة في الكونغرس. ومثل كلّ الذين لديهم طموحات رئاسيّة، نشط بايدن مبكراً في لجنة العلاقات الخارجيّة، وسافر في أرجاء الأرض وتعرّف إلى قادة العالم (زها هذا الأسبوع وليد جنبلاط بصور له معه، لكنّه يجب إبلاغ جنبلاط أنّ لالياس المرّ وميشال سليمان صوراً معه أيضاً). بايدن يفاخر بأنّه التقى غولدا مائير، في عام ١٩٧٣، كما أنه عرف أنور السادات. وتقرّب مبكراً من اللوبي “الإسرائيلي” وكان من أدواته المُعتمدة (للّوبي صفّ من الأدوات المُعتمَدة). وبايدن ينتمي إلى الحزب الديموقراطي القديم، الذي كان عنوان مناصرة “إسرائيل” في الكونغرس، فيما كان الحزب الجمهوري عنوان الدعوة لـ«التوازن» في سياسة أميركا نحو الشرق الأوسط. لكن يخلط التحليل الساري في سياسة بايدن الخارجيّة، بين بايدن في مرحلة عضويّة مجلس الشيوخ وبايدن في مرحلة نيابة الرئيس الأميركي.

صدرت قبل أسبوع أوّل سيرة مستفيضة عن بايدن بعنوان «جو بايدن: الحياة، الحملة، وما هو المهم الآن»، بقلم إيفان أوزنس. الكتاب ينجح في عرض هذا الفصل بين أهواء وتوجّهات بايدن في مجلس الشيوخ، ثم في البيت الأبيض كنائب لباراك أوباما. يلخَّص أوزنس الفارق بالملاحظة أنه «منذ أن انضمّ إلى إدارة (أوباما)، فإنّ بايدن كان الصوت الحازم للتشكيك في صوابيّة استعمال القوة الأميركيّة. وفي بعض الأحيان، وضعه ذلك في تضادّ خلال مناظرات مع آخرين في الإدارة، بما فيهم هيلاري كلينتون وليون بانيتا (أول مدير لـ«وكالة الاستخبارات المركزيّة»). وبايدن عارض التدخّل في ليبيا محاججاً أنّ ذلك سيخلق فوضى، كما أنه حذّر من القيام بالغارة التي قتلت أسامة بن لادن» (ص. ٣٩). وقد يعود ذلك إلى أنّ بايدن لم يكن يحلم بأنه سيترشّح للانتخابات الرئاسيّة، ربما لعلمه أنّ دور هيلاري كلينتون (كامرأة) يسبقه بحكم التزام الحزب الديموقراطي (المتأخّر). بايدن في مجلس الشيوخ، كان أكثر يمينيّة حتى في القضايا الاجتماعيّة (مثل حقوق السود) وكان قريباً من صف أعضاء المجلس من الجنوب، الذين لم يتملّصوا من الإيمان بالتفرقة العنصريّة. وبايدن كان متشدّداً في قضايا مكافحة الجريمة وضد حقوق المحكومين. وقد طالته تهم العنصريّة بحكم دعمه لقانون الجريمة، في عام ١٩٩٤، والذي أدّى إلى زيادة عدد المساجين بشكل جنوني، وبنسب عالية جداً من السود.

تحرّرَ بايدن في مرحلته الثانية، وأصبح يجاهر بمواقف ليبراليّة لم تبدر عنه من قبل. هو سبقَ أوباما في دعم حق الزواج للمثليّين مثلاً، وإن كانت هناك شكوك أنّ أوباما استعمله في حينه لاختبار ردود الفعل. كان بايدن في منصب نائب الرئيس، متحرّراً من أعباء الشبق السياسي. ظنّ أنّ آخر حملة انتخابيّة كانت وراءه. لكنّه مرّ بصعوبات شخصيّة، منها مرضه (أصيب بتمدّد الأوعية الدمويّة في رأسه)، ومنها موت ابنه بمرض سرطان في الدماغ. وقال بايدن إنّ ابنه بو (الذي مات) طلب منه أن يترشّح للرئاسة. يقول بايدن إنّه طلب منه أن يعِده بذلك وهو على فراش الموت، لكن حكايات السياسيّين الأميركيّين لا يمكن الركون إليها.

السؤال الكبير الذي يدور في الإعلام، وحتى في أذهان الناس العاديّين في بلادنا يتمحور حول تغيّرات محتملة في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. وهناك الارتياح العام الذي تعبِّر عنه الصحافة الليبراليّة المهيمنة في أميركا (وهي خرجت منذ سنوات عن طور الرصانة وتصنّع الحياديّة وباتت تؤجّج ضد ترامب والحزب الجمهوري علناً). ترامب كان قبيحاً وقميئاً ومنفّراً على المستوى الشخصي، وفي أدائه السياسي. لم يسبقه أحد من قبل إلى المستوى المتدنّي من ممارسة السياسة وانتهاج الخطب السوقيّة في الحديث السياسي وحتى الرئاسي. لم يسبقه أحد في موقع الرئاسة في مخالفة الأعراف والسوابق والتقاليد البروتوكوليّة والرئاسيّة، ممّا جعله مسليّاً للمشاهد والمشاهدة. لكن تقييم سياسات ترامب الخارجيّة يمكن تلخيصه بنزوع نحو نظريّة «الوقوف على الهاوية» ممزوجة بنظريّة «الرجل المجنون»، والتي لم يخفِ إعجابه بها عبر السنوات (وكان ريتشارد نيكسون من محبّذيها). كان أكثر قدرة من أسلافه على معارضة مشورة القادة العسكريّين والاستخباريّين: واغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس كان مثالاً على رفض ترامب للاعتبارات الاستراتيجية – حتى من منظور المصلحة الأميركيّة على المدى الطويل (هل يمكن أن ينسى النظام الإيراني هذه العمليّة؟ هل سينام على الضيم إلى الأبد؟) وفي التصنيف الليبرالي الغربي (والمنتشر بسرعة بحكم الإنترنت على المواقع العربيّة)، فإنّ ترامب أسوأ رئيس مرَّ على البلاد. لكنّه كان الأقلّ إشعالاً للحروب في الشرق الأوسط، منذ الثمانينيّات. كل إدارة أميركيّة ارتبطت بحرب، وهي ضروريّة سياسيّاً للرئيس. بايدن سيكون رئيس الجهاز العميق للإمبراطورية. وهذا الجهاز كان من ألدّ أعداء ترامب على الإطلاق، وساهم في إسقاطه عبر التسريبات والحروب البيروقراطيّة التي فشلَ فيها ترامب. احتمال شنّ الحروب سيكون أقوى في إدارة بايدن، مع أن المرحلة الثانية لحياة بايدين السياسيّة أظهرت نفوراً من سرعة اللجوء للعمل العسكري. والنظر إلى الفريق الذي أعدّه بايدن في المرحلة الانتقاليّة، يشير إلى بروز أشخاص من الجهاز التقليدي للإمبراطوريّة. ٨ من الـ٢٣ شخصاً المذكورين في قائمة فريق مراجعة عمل وزارة الدفاع في المرحلة الانتقالية لحملة بايدن، مرتبط مباشرة بشركات التصنيع الحربي، أو بمراكز أبحاث تتلقّى تمويلاً من شركات التصنيع الحربي. والأشخاص الواردة أسماؤهم كمرشحين في مناصب رفيعة في مجال الدفاع والاستخبارات والخارجية، مثل أنتوني بلنكن (في الأمن القومي) أو ميشيل فلورنوي (في الدفاع) أو سوزان رايس وويليام برنز (في الخارجيّة)، هو تمثيل للعودة إلى الطاقم التقليدي الحاكم للإمبراطوريّة. إنّ حرص الإمبراطوريّة على العودة إلى سابق عهدها من النفوذ، يمكن أن يزيد من احتمال استعمال القوّة في حسم الأزمة الانتخابيّة لو تطوّرت نحو أزمة دستوريّة. عندها، سيكفّ الحاكم الأميركي عن وعظ دول العالم النامي بشأن ضرورة الانتقال السلمي للسلطة (عندما يكون الفائز من أزلام أميركا) وضرورة عدم حسم الصراع بالقوّة (فقط إذا لم تكن القوة في يد أزلام أميركا).

عن إيران: لن يعود التاريخ القهقرى، ولن يسترجع بايدن عهد أوباما بمرّه ومرّه، ولو أراد. من المعروف أنّ بايدن سيعيد التفاوض حول العودة إلى الاتفاق النووي (الذي بات قراراً لمجلس الأمن، أي أنّه يحمل صفة القانون الدولي)، لكنّه سيفعل ذلك بشروط. (كان حجم التخصيب النووي الإيراني في آخر عهد أوباما ١٠٢ كلغ، وأصبح في نهاية عهد ترمب ٢,٥ طن). إدارة بايدن لن تعود إلى الاتفاق كما كان، بل ستطالب بتعديله من أجل تمديد فترة «الانطلاق» (أي المباشرة بتصنيع سلاح نووي). وكانت هذه الفترة نحو ثلاثة أشهر قبل مفاوضات الاتفاق النووي ومدّدها الاتفاق إلى نحو سنة. أميركا ستصرّ على تمديد يفوق السنة، كما أنها تريد أن يشمل الاتفاق الحدّ من إجراء التجارب على الصواريخ البالستيّة التي تخيف إسرائيل (هل في يدنا ما لا يخيف “إسرائيل”؟ ستحاول أميركا ذات يوم أن تحرمنا من سكّين المطبخ). أما المواضيع الإقليميّة ودعم حركات مقاومة “إسرائيل”، فإنّ إيران رفضت البحث فيها في المرّة الماضية. لكن قد تبدو إيران في موقع أضعف اليوم، بفعل الإنهاك الاقتصادي جراء عقوبات لا يمكن تصنيفها إلا بجريمة ضد الإنسانيّة. لكنّ أميركا في موقع تفاوضي أضعف، لأنّ الرئيس ليس ترامب، ولأنّ بايدن يريد إنهاء هذا الملف للالتفات إلى غيره. قد ينحصر الاتفاق حول القضايا الإقليميّة باليمن، لأنّ أميركا تريد إنهاء هذا الملف الذي تشاركت فيه مع الإجرام الخليجي.

عن بنيامين نتنياهو والمسألة الفلسطينيّة: يزهو نتنياهو أنّه عرف بايدن على مدى أربعين عاماً. فيقول مارتن إنديك (المسؤول الأميركي السابق): إنّ هذه ليست في صالح نتنياهو، لأنّ بايدن بالفعل عرفه على مدى ٤٠ سنة، أي أنّه خبرَ كذبه وخداعه. وكان قرار الحكومة “الإسرائيليّة” بإعلان بناء شبكة جديدة من المستوطنات أثناء زيارة بايدن إلى فلسطين المحتلّة، في عام ٢٠١٠، بمثابة صفعة له. لكن مَن كان مثلي من متابعي السياسة الأميركيّة الصهيونيّة، منذ الثمانينيّات، يذكر الدفاع المستميت عن كلّ عدوان واحتلال “إسرائيلي”، وبقوّة ووقاحة، من قِبل جو بادين. مناحيم بيغن افتتن بدفاعه عن اجتياح لبنان في عام ١٩٨٢. كنتَ تشعر أنه يزايد على زملائه في الصهيونيّة. هل تغيّر بايدن؟ لا يهمّ، لكنّ الحزب الديموقراطي نفسه تغيّر، بعدما تغيّرت أهواء أنصاره، خصوصاً القطاع الشبابي فيه، والذي بات ينطق بلغة الـ«بي.دي.إس» وانتقاد “إسرائيل”. وحكومة بايدن قد تضمّ برني سندرز، والأعضاء اليساريّين فيه يصرّحون بنهجٍ مختلف نحو “إسرائيل”. وهناك عامل آخر، ليس في صالح نتنياهو. لقد ربط نتنياهو “إسرائيل” ومصلحتها بالحزب الجمهوري وقادتِه. نتنياهو كاد أن يتبنّى ترشيح ميت رومني (ضد أوباما) في عام ٢٠١٢، وهو كان صريحاً في تفضيل ترامب هذه السنة. وخطاب نتنياهو أمام الكونغرس للتحريض ضد أوباما، بعد التوصّل إلى الاتفاق النووي، كان خرقاً لسياسة “إسرائيليّة” رسميّة، منذ عام ١٩٤٨. بن غورين أرسى مبدأ عدم أيّ تفضيل “إسرائيلي” في السياسة الأميركيّة الداخليّة. وهذا الخرق من قِبل نتنياهو، وتحالفه المميّز مع ترامب (المكروه من قِبل نصف الشعب الأميركي) ربط قباحة السياسة “الإسرائيليّة” اليمينيّة بقباحة السياسة الأميركيّة اليمينيّة عند الديموقراطيّين.

لكنّ هذا العامل لن يدفع بايدن للتراجع عن سياسات ترامب: لن يتراجع بايدن عن نقل السفارة من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة، أو عن قبول السيادة “الإسرائيليّة” على الجولان المحتل، أو عن الاعتراف بالقدس المحتلّة عاصمة «أبدية» (لإسرائيل). يصعب التراجع عن خدمات أو سياسات ملائمة “لإسرائيل” من قبل إدارة تتبع أخرى. وكل إدارة تكون عادة أكثر صهيونيّة من سابقتها (باستثناء إدارة جورج بوش الأب). يعلم بايدن أنّ ترامب تركه مغلولاً بسياسات ستثبت. لكنّ بايدن سيعيد التفاوض مع السلطة الفلسطينيّة الفاسدة (لأنّه يريد التعجيل في رفع وتيرة التنسيق الأمني) وسيعيد المساعدات الأميركيّة إلى السلطة ومنظمّات الـ«إن.جي.أوز» المطيعة في الضفّة، كما أنه سيفتح القنصليّة الفلسطينيّة في القدس، وسيعيد فتح مكتب «منظمة التحرير» في واشنطن. أما «صفقة القرن»، فلن يكون مصيرها إلا سلّة المهملات. وستعيد الإدارة فتح مسار مفاوضات مسيرة السلام، وسترحّب بمزيد من التطبيع لكنها – بحسب ما ورد هنا – ستحثّ دول التطبيع الخليجيّة على ربط التطبيع بوقف المستوطنات. أي أنّ الإدارة الأميركيّة باتت أقلّ عداء للقضيّة الفلسطينيّة من أنظمة طغاة الخليج (خصوصاً النظامَيْن السعودي والإماراتي) – هذا من دون التقليل من عداء الحزبيْن هنا – على مستوى القيادة – للشعب الفلسطيني وقضيّته. وستعود السياسة الأميركيّة إلى ما كانت عليه من اعتبار المستوطنات اليهوديّة في الضفّة الغربيّة «عقبة أمام السلام» – وسيُترجم هذا بالاستمرار في بناء المستوطنات مع اعتراض لفظي خجول، مرّة في السنة، من قِبل المتحدث باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة. أميركا ستنطلق في سعيها لتحقيق دولة فلسطينيّة (مسخ) من منطلق ما هو في مصلحة “إسرائيل”. هذا كان منطق جون كيري في مفاوضاته مع نتنياهو: أنّ المستقبل محفوف بالمخاطر “لإسرائيل”، وأنّ نظامها يتّجه نحو الأبارثيّد (حتى بمعيار أميركا المحافظ). لكن لن يتغيّر الموقف الأميركي في دعم “إسرائيل” (وحروبها) المطلق، وتسليحها فوق ما تطلبه.

طغاة العرب: هناك الكثير من الترقُّب في وسط الليبراليّين والمعارضين العرب لإدارة بايدن، خصوصاً إزاء ما تنوي فعله نحو محمد بن سلمان. لا شكّ في أنّ ترامب – باعترافه لبوب وودورد في كتابه الأخير – حمى محمد بن سلمان من عواقب وخيمة، بعد جريمة قتل الخاشجقي. وقد وعد بايدن بمحاسبة محمد بن سلمان، وأوحى أنّه من الصعب التعامل معه. محمد بن سلمان منبوذ اليوم في واشنطن، وفي عواصم دول الغرب لكن لا يمكن القطع باستحالة التوصّل إلى توافق ما معه، كأن يقوم محمد بن سلمان بإعادة محاكمة المتّهمين وقطع رأس بعضهم. وليس هناك ما يسرّ خاطر أي إدارة أميركيّة ويفتح شهيّتها أكثر من إعلان قائمة طلب مشتريات سلاح باهظة الأثمان. لكنّ محمد بن سلمان ذهب بعيداً في نظر بايدن، والفريق الذي سيشغل مناصب الأمن القومي والدفاع والاستخبارات في إدارته، تعاون عبر السنوات مع محمد بن نايف. قد تسعى إدارة بايدن لإحداث انقلاب في داخل الأسرة الحاكمة من أجل تنصيب ملك جديد بعد وفاة سلمان بن عبد العزيز. محمد بن سلمان هو الأقلّ سعادةً بمجيء بايدن. ولهذا يمكن أن يقوم بزيارة إلى القدس المحتلّة وإلقاء كلمة أمام الكنيست، على طريقة السادات، لكسب ودّ الدول الغربيّة. هذا سيساعده بالتأكيد. والحرب اليمنيّة (التي بدأت في عهد أوباما وبمباركته ودعمه) لن تستمرّ في إدارة بايدن، مهما كانت النتيجة في غير صالح النظام السعودي. قد تقوم الإدارة بوضع ضوابط أكثر على مشتريات السلاح الخليجي (وكانت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، قد أبدت اعتراضاً على تسليح النظام الإماراتي بطائرات «إف – ٣٥» بحجّة أنّ ذلك ممكن أن يُضرّ بأمن “إسرائيل” – وقد تسرّب أخيراً أنّ النظام الإماراتي لم يكن ليستطيع أن يبتاع هذه الطائرات المتطوّرة من دون تطبيع). سيستمرّ طبعاً التأييد الأميركي للطغاة العرب، وبايدن كان يقول عن صديقه حسني مبارك إنه «من العائلة»، وهو أقام علاقات مع عدد من السلالات الحاكمة، ولم يكترث يوماً لخرق حقوق الإنسان من الأنظمة المطيعة.

سوريا ولبنان: قد كان البعض في لبنان وفي المعارضة السوريّة الأكثر حماساً بين العرب، بالإضافة إلى حاشية محمد بن سلمان، لفوز ترامب. كان أعداء إيران في المنطقة يرون أن هذا الأخير لجمَ المحور الإيراني، خصوصاً بعد اغتيال سليماني. لن تتغيّر السياسة الأميركيّة نحو لبنان كثيراً، لكن الأسلوب سيتغيّر. إن إدارة ديفيد شينكر (الذي كان ناشطاً صهيونيّاً في الذراع الفكري للوبي “الإسرائيلي” في عام ٢٠٠٠، عندما تعرّف على صديقه طوني حداد، وباقي فريق ميشال عون في واشنطن، والذين عملوا مع «إيباك» لدعم سياسات “إسرائيل” ضد سوريا ولبنان – عندما كان مقاوماً على صعيد رسمي) لسياسات الشرق الأوسط لم يسبق لها مثيل من حيث الفظاظة، وعدم الخبرة والكذب المفضوح. تصرّف السفيرة دوروثي شيا لم يسبقها إليه في الصلافة سفير – وهبّ القاضي محمد مازح للدفاع عن كرامة لبنان، فيما قام سليم جريصاتي بتقديم الاعتذار لها عن الدفاع عن كرامة لبنان. سيستمرّ دعم الجيش اللبناني كي تطرحه واشنطن بديلاً عن مقاومة “إسرائيل” (وهنا الأضحوكة) وستحاول واشنطن طرح جوزيف عون رئيساً (وهنا الأضحوكة الثانية). وتمويل كلّ الأحزاب والإعلام والتنظيمات المعارِضة لمعارَضة ومقاومة “إسرائيل” سيستمرّ أيضاً.

من المرجّح أن يزيد عدد القوّات الأميركيّة في سوريا، والفريق المحيط ببايدن يتعطّش لضرب مواقع النظام السوري، خصوصاً أنّ بينهم من عارض تمنّع أوباما عن تنفيذ تهديده بمعاقبة بشار الأسد على خرق خطوطه الحمر. ومن المرجّح أيضاً أن يزيد دعم المعارضة السوريّة (على أنواعها)، خصوصاً أنّ ترامب لم يكن مقتنعاً بهذا الخيار أبداً. لكنّ إمكانيّة تغيير الخريطة السياسيّة لن يتغيّر، وإن كان موقف الإدارة لن يتغيّر في إصراره على عدم السماح بإعادة ما تدمّرَ في سوريا.

من الظالم أن تتأثّر حياة سكّان بلادنا بتغيّر شخص الرئيس في واشنطن. لكن هذه إمبراطوريّة لم يسبق لها نموذج في التاريخ. هل كان اللبنانيّون يتابعون مجريات الانتخابات الفرنسيّة في زمن الاستعمار الفرنسي بالترقّب نفسه الذي يتابعون فيه مجريات الانتخابات الأميركيّة؟ أشكّ في ذلك. لكن تعظيم قدرات الإمبراطوريّة يقلّل من قدرات الشعوب. ينسى البعض أنّ لبنان – هذا البلد الصغير الذي سخرت منه الصهيونيّة على مدى عقود – طرد قوات الأطلسي من بيروت، كما طرد قوّات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان.

* كاتب عربي

(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

الأخبار اللبنانية