الأرشيفوقفة عز

الشهيدان عبد الستار وأبو علي الحمصي – نضال حمد

الشهيدان عبد الستار وأبو علي الحمصي – نضال حمد

في بداية سنوات الثمانينيات من القرن الفائت، في الفاكهاني الذي كان يغمس خبزه بالنضال الفلسطيني وكان الفلسطينيون بنفس الوقت يغمسون لقمتهم بالدم القاني. ويقدمون حيواتهم قرابين على مذبح عروبة لبنان… هناك على مقربة من مخيمي صبرا وشاتيلا حيث الوجع الفلسطيني الذي لا يزول، تعرفت الى الرفيقين الشهيدين فيما بعد، عبد الستار.. فقط هيك، عبد الستار حاف، بلا اسم عائلة أو لقب آخر.. لغاية اليوم لا أعرف اسم عائلته، فكل ما أعرفه عنه أنه كان فلسطينيا من (الكويت).. وكذلك الرفيق أبو علي الحمصي لا أعرف لا اسمه ولا كنيته ولا جنسيته، فلسطيني أو سوري، أعرف أنه كان من (سوريا).  كلاهما كانا فدائيين فلسطينيين في تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة القائد الشهيد طلعت يعقوب.

مع مرور الشهور والأسابيع قامت بيني وبين عبد الستار خاصة علاقة صداقة قوية، تمتنت كثيرا خلال الأسابيع التي قضيناها معاً في مدرسة الكادر ببلدة شملان الجبلية اللبنانية. حيث كنا مع آخرين منضويين في دورة تثقيفية لاعداد الكادر الشاب في الجبهة، وكان من المحاضرين في الندوة في ذلك الوقت، أبو علاء نجم،  الراحل الياس شوفاني، مصطفى الولي -فهد- عارف حمو، الراحل عبد الكريم كلوب ولا أذكر الباقين. كما كان من المترددين على شملان الرفيق القائد الميداني الشهيد أبو كفاح فهد، الذي كان يأني من القواعد العسكرية الفدائية في الجنوب اللبناني، ليقضي في بعض الأحيان إجازته في المدرسة. جدير بالذكر أنه كان قبل أسابيع من وصولي الى هناك سبقني الى مثل تلك الدورة في شملان من رفاق الحارة والمخيم والدرب الشهيد عبد حمد، ابن العائلة والمخيم وصديق الطفولة ورفيق المواقع والمواجهات. قبيل الاجتياح بشهور قليلة استشهد الرفيق ابو كفاح في شباط – فبراير 1982 اثناء قيامه بتفكيك عبوة ناسفة في تعمير عين الحلوة. شكل رحيله خسارة فادحة للجبهة وللنضال الفلسطيني.

في شملان كنا نقضي الكثير من الوقت في المطالعة والنقاش وأحيانا في الأحاديث العامة وفي التنقل بين الأماكن في المدرسة ولم نكن نخرج الى البلدة أو خارج المدرسة إلا في حالات اضطرارية نادرة. كما كنا أيضا نلتقي مع الرفاق الآخرين داخل المدرسة التي كانت كبيرة وفيها أماكن عديدة للقاء وللهو أيضاً.

بقيت العلاقة مع عبد الستار قوية وثابتة بعد عودتنا الى الفاكهاني في بيروت وحتى استشهد في السادس من حزيران – يونيو 1982. تلقينا برقية تحمل نبأ استشهاده هو والرفيق أبو علي الحمصي واصابة رفيق ثالث (مروان) في منطقة الجرمق، جراء غارة صهيونية استهدفتهم هم ومدفعهم الهاون 180 حيث كان المدفع المذكور من أواخر المدافع الفلسطينية التي بقيت تقصف شمال فلسطين المحتلة في ذلك اليوم. بعدما كان الطيران الصهيوني استهدف وأصاب وحيّد غالبية المدافع والراجمات الفلسطينية في المنطقة.

عند استلامنا البرقية التي حملت ذلك النبأ الحزين كنا في طريقنا من النبطية الى مدينة صيدا ومخيم عين الحلوة برفقة القائد طلعت يعقوب. تركت البرقية أثرها على نفسيتي، حزنت لاستشهادهما ولكني تمالكت نفسي وحبست دموعي. فالآن الوقت للمعركة ولا وقت للبكاء أو للوداع. خاصة أن هناك اخوة ورفاق آخرين لازالوا صامدين في قلعة الشقيف وحولها. هناك الرفاق في مواقعهم بالقلعة وجوارها.. أذكر منهم الرفيقين ممدوح وأبو عذاب، اللذان استشهدا فيما بعد في ملحمة صمود قلعة الشقيف في ذلك الوقت من الزمن الفلسطيني بالتوقيت الجنوبي اللبناني.

يقول الصديق والرفيق مروان الناجي الوحيد من تلك الغارة التي استهدفت المجموعة والمدفع، أنهم واصلوا قصف المستعمرات في فلسطين المحتلة على مدار ساعات طويلة. دون أن يتمكن العدو من اصابتهم. لكن في لحظة ما شاهد كيف أن الطائرة حلقت في أدنى منخفض لها وجاءت باتجاههم حيث كانوا يتمركزون مع مدفعهم بين جبلين، في مكان يصعب اكتشافه بسهولة. في تلك اللحظة إنقضت عليهم بصواريخها. يقول مروان أن عبد الستار حين أصابته الشظايا كانت مازالت يده ممسكة بحبل المدفع، حيث رمى قذيفته الأخيرة. استشهد بعدما أصيب إصابات عديدة وبقيت يده التي انفصلت بفعل الشظايا عن جسده ممسكة بحبل المدفع، كأنها ترفض الموت وتصر على المقاومة. استشهد معه بنفس الغارة رفيقه رفيقنا وصديقه صديقنا أبو علي الحمصي، الذي كان أيضاً مقاتلاً فدائياً شجاعاً، رفض الانسحاب والمغادرة وبقي يرمي قذائف مدفعه على الصهاينة ومستعمراتهم الى أن نال الشهادة برفقة عبد الستار. قص الرفيق مروان على مسامعي هذه الحكاية بعد عشر سنوات من استشهادهما وإصابته بجراح في تلك المواجهة.

يعتبر الشهيدان عبد الستار وأبو علي الحمصي أول شهيدين لجبهة التحرير الفلسطينية في الغزو الصهيوني للبنان في حزيران – يونيو 1982. فيما ثالث الشهداء كان ابن العم ورفيق الصبا والحارة والمخيم، الشهيد عبد حمد الذي استشهد في السابع من حزيران – يونيو في مخيم عين الحلوة خلال تصديه للدبابات الصهيونية. تجدر الاشارة ان هناك أخ ورفيق وابن مخيم وحارة هو الشهيد شحادة استشهد مع عبد حمد في نفس القذيفة ونفس المكان، حيث كانت اصابته قوية جدا، بترت ساقيه وأدت الى وفاته. كان الأخ شحادة مقاتلاً في صفوف حركة فتح. الكثيرون من ابناء جيلي والجيلين الأكبر والأصغر قليلا مني، يعرفون دار شحادة قرب الوادي في حارة المنشية، حيث كان والده يملك مرجوحة أو أكثر، لم أعد اذكر بالضبط وكنا كأطفال وأولاد في المخيم نذهب للتمرجح هناك مقابل بعض المال.

الشهيد الرابع للجبهة كان الرفيق حاتم حجير الذي استشهد في منطقة الفيلات قرب المخيم خلال استهدافه من قبل الدبابات الصهيونية. فيما الشهيد الخامس كان أبو جميل زيدان الذي قضى خلال القصف الصهيوني على مخيم عين الحلوة. كل هؤلاء الأبطال استشهدوا في اليومين الأول والثاني للمعارك. تلك المعارك والخطط العسكرية الصهيونية التي تمكنت من احداث صدمة وتشتيت الفلسطينيين، وايجاد حالة بلبلة وارباك وعدم ثقة وانهيار بينهم، أدت الى فوضى لم تكن متوقعة، خاصة بعد فرار بعض القيادات العسكرية الفصائلية وعلى رأسها قائد القوات المشتركة، عضو المجلس الثوري لفتح الحاج اسماعيل، الذي حماه ولم يحاسبه أبو عمار، بل جعله من المقربين له، ورقاه حتى أصبح لواءا، ولو عاش عرفات أكثر قليلا لكانت رتبة الحاج اسماعيل جبر وصلت الى مشير أو مهيب. عند توقيع اتفاقية اوسلو التي تنازلت عن ثلاث أرباع أرض فلسطين اتضح لماذا حماه ياسر عرفات، فقد كان الحاج اسماعيل على رأس أول دفعة من شرطة سلطة الحكم الذاتي المحدود الفلسطينية، التي دخلت الى الوطن المحتل عبر بوابة أريحا وغزة أولاً. الحاج اسماعيل وصمة عار ستبقى تقبح وجه فتح ومنظمة التحرير والثورة الفلسطينية. ذهابه أولاً الى أريحا من بوابة الاعتراف بالعدو، هذا وحده يكفي كي نفهم لماذا حماه ورقاه وتبناه ياسر عرفات. فقد احتفظ به لمثل هذه اللحظات الفاصلة. وهو الذي كان يصف بعض عماله وخدمه “بالجِزَم” التي سيقطع بها المرحلة.

بعيدا عن فراره هو وأمثاله من الفصائليين الذين تساقطوا عند أهم اختبار حقيقي، فإن أمثال الفدائيين الذين ذكرناهم واستشهدوا كثيرين، تتشرف بهم فلسطين. واجبنا التذكير ببطولاتهم وتضحياتهم، لأن الفكرة العامة المنقولة والمأخوذة عن مواجهات الغزو سنة 1982 أن غالبية الناس سقطت وفرت من الميدان. هذه فكرة خاطئة ولا يمكن التعميم لأن هناك أبطال وأساطير صمود ومواجهة يجب تذكرهم. لذا أنا أكتب عنهم. من هؤلاء نتذكر ونذكر القائد الفدائي الفتحاوي، العقيد بلال السمودي المعروف ببلال الأوسط، وهو قائد القطاع الأوسط في حركة فتح، الذي قاتل وصمد وقاوم وشن العمليات طيلة فترة من الزمن خلف خطوط العدو الصهيوني. حتى استشهد في الميدان استشهاداً بطولياً مشرفاً. هذا البطل والمقاتل والقائد الميداني هو النقيض للحاج اسماعيل وأشباهه من المتساقطين والفارين، سواء بقرار من قيادته كما ادعى الحاج اسماعيل أو بدون قرار من قيادته.

لا يبقى في الوادي إلا حجارته

ولا يبقى في الميادين الا الفدائييين الحقيقيين.

ألم نتعلم منذ الطفولة في البيت والمدرسة والحارة والمعسكر، نموت لتحيا فلسطين؟

نموت ليحيا الوطن لا ليحيا المطبعين، المستسلمين والمنسقين الأمنيين والساقطين، خونة قضية فلسطين.

لا يبقى في المعركة إلا المؤمنين بعروبة وحرية فلسطين

لأنهم الوادي وحجارته وروح قضية فلسطين.

المجد والخلود للشهداء وسنبقى على عهد الوفاء والعطاء لأجل تحرير كل فلسطين.

نضال حمد في 17-2-2021

ملاحظة: للأسف لا صور للشهيدين عبد الستار وأبو علي الحمصي ولا للشهيدين ممدوح وأبو عذاب.