ثقافة وفن

 مصطفى عبد الفتاح يدخل عالم الرواية بخطى واثقة –  سعيد نفّاع

 

لا أحسد الكتّاب الذين اختاروا النّقد حقلا ولا أغبطهم، ولكن من أحبّ الأمور عليّ هو التمرّد عليهم ليس انتقاصا من دورهم الهام إذا تجرّد، وإنّما لتجذير ما أدّعيه من أهميّة “نقد النّقد”. وحين قرّرت أن أكتب عن مصطفى عبد الفتاح متناولا روايتيه: “عودة ستّي مدلّلة” الصادرة عام 2015م عن مطبعة “كل شيء”، وروايته “جدار في بيت القاطرات” الصادرة عام 2017م عن “مؤسّسة الأفق للثقافة والفنون” بلمحة قياسا بالأولى وعطفا عليها، لم تخلُ محاولتي هذه من هذا التمرّد، كما أفعل عادة في كتاباتي الأدبيّة.

أعتقد أن كاتباً متمرّداً وناقداً متجرّدًا وقارئاً مترصّدا، هم ثلاث الأثافي اللواتي يُثفّى عليها قدرُ حركتنا الثقافيّة ثابتا، لا مائلا ولا مهتزّا، والأهم طيّب الحمل. طبيعي أن يزعل الكتّاب على ومن النقّاد حين ينقدون إنتاجهم، ولكن ليس أبدا من الطبيعيّ أن يزعل النقّاد على الكتّاب والقرّاء إذا انتقدوا نقدهم، وهذا يحدث.!

مصطفى عبد الفتاح كاتب “بكّاياتُه قلائل” كالكثيرين غيره من كتابنا، ألم يقّل مثلنا الشعبيّ: “نيّال اللي بكّاياته كْثار”، فمصطفى مدير مكتبة عامّة في قرية صغيرة وإن كان هذا لا يقلّل من شأنه ككاتب، وصحيح أنه يحمل شهادة جامعيّة في التاريخ العام وعلم المكتبات والمعلوماتيّة، لكن على ما يبدو ليس بالمكانة التي تؤهله ليكون قِبلة أنظار!

أرى من الضرورة الإشارة إلى والتأكيد على ماهيّة حقيقة العلاقة التبادليّة التكافليّة بين الإبداع والنقد، فالكلمة كانت البدء ومن ثمّ جاء النقد تقييما وتقويما (تقييما)، ووضع “النظريّات” التي ما هي إلا علامات طريق ليس إلا وليست معايير مقدّسة، وإلا تشوّهت العلاقة وصار النقد حاجزا أمام الابداع بدل الانطلاق به، وهنا تكمن ضرورة التمرّد.

ولا يقلّ عن هذا أهميّة، ورغم إنسانيّة الأدب، أذا كانت المعايير النقديّة في جلّها مستمدّة من موروث ليس موروث النصّ ولا موروث كاتب النّص.     

بعد هذه الملاحظات ال-“ربّما” تكون ثقيلة الدّم، فللموضوع.

مصطفى في روايته الأولى “عودة ستّي مدلّلة” يأخذنا في رحلة دائريّة تنتهي حيث تبدأ، في بلدة صفورية المهجّرة بلدة ستّي مدلّلة. تبدأ بتهجير ستّي مدلّلة منكوبة، لتقطع دروب الهجرة الموحشة شمالا، وقد تركت بعضًا منها في بساتين وأزقّة صفورية وبين ركام بيوتها، ثمّ لتجازف عودةً في رحلة أشقّ وراء هذا البعض، ومرّة أخرى تاركة بعضا آخر منها في ديار الهجرة علّ وعسى أن يلتمّ يوما بعضها الأول على بعضها الثاني، لكنّ البعض الذي هنا والبعض الذي هناك ظلّا “رغم أنف” ستّي مدلّلة بعضين، ومع هذا يكفيها شرف المحاولة، وشرف الكلمات التي ودّعها بها ابنها العائد تسلّلا كرامة لأمّه، وهو يقول فوق جسدها الهامد: “أيّ قدر هذا الذي جعلنا نهرب حاملين حقائب الخيبة والحنين في كل جسد وكأن الحياة توقفت ولم يبق سوى قلب مكسور وعينين ميّتتين تصوران المشهد.”.

وقبل أن يكمل الابن “مونولوجه” يروي الكاتب عنه: “بكى بحرقة لم يعهدها من قبل، حتى عندما ترك الوطن لم يذرف الدموع، كانت والدته الجزء الأسمى من الوطن بل هي الوطن، فراقها يعني فراقا جديدا للوطن”، أمّا الابن فيتابع وقد نظر إلى قبر أمه الذي رشّ ترابه البكر بماء نبع القسطل الصفوريّ: ” لم أستطع أن أعيدك إلى قريتنا يا أمّي لأن الظلم ما زال جاثما على صدرها. لم أستطع أن أدفنك بين الأهل هناك، فما زالت الوحوش تنهش بجسدها، لم أستطع أن أعيدك إلى صفورية فأعدت صفورية إليك. جئتك يا أمي بما تحبين وتحلمين به من القرية، لعله يخفف عنك الوحدة وشدّة الحنين”. وبهذا يتّم الكاتب الرواية.

لم تخلُ رواية مصطفى من بعض قليل من الومضات التصويريّة اللافتة عمقا وجمالا، وأحيانا الومضات المؤلمة لا بل المؤذية للعين في سطوعها، ولكن ما يؤخذ عليه أنه كان بإمكانه، لا بل لزوما كان عليه، أن يحوّل الومضات إلى حزم ضوء يضيء التصويريّة منها، ويعمل على نزع الحدّة من المؤلمة المؤذية، وفي الحالتين لم يفعل ما كان يجب أن يفعل، ولو فعلها لكان زاد على الرواية أبعادا تعطيها قيمة مضافة كبيرة.  

ففي ص110 يقول: “كانت تشعر أنّ خروجها من قريتها هو نفسه خروج آدم من الجنّة، آدم خرج عقابا له على غلطته ومعصيته لأوامر الرّب وها هم أبناء قريتها يخرجون من جنّتهم بسبب أخطائهم وعقابا لهم من الرّب”.

وتكرّر ستّي مدلّلة ص171: “ما هجّت صفورية من خير فيها، ما هجّت إلا من ظلمها يا ستّي… الله عليك يا قسطل ما أقسى مياهك… لا تشرب يا ستّي من ماء القسطل… إياك ثمّ إياك…”

وعلى لسان الابن يقول ص118: “إذا لم نفعل شيئا ولم نرتكب جرما فأين الله لا يصدّ عنّا كل هذا العذاب…؟!”

وفي ص129 يقول عن الابن:” لم يهدأ له بال إلا عندما عبر النهر حتّى تأكد أنه في الوطن ثانية” ويومض مصطفى: “كانت خشخشة الجسر الذي قطعه على النهر موسيقى حالمة تعيده من الموت إلى الحياة، إنه لحن العودة”.

وفي ص131: ” وصل مشارف القرية… ولم يدخل القرية خاف من وشاية العملاء والجواسيس الكُثر…” ويتابع ص141: “تقوم فاطمة كل يوم في ساعات الليل المتأخرة بإضاءة الولاعة ثلاث مرّات متتالية لتؤكد لأمين أن لا خطر عليه من الأعداء وأعوانهم الذين ينخرون كالدود في جسم الأمّة…”.

هذه الومضات الهامّة كان يجب على مصطفى أن يذهب بها بعيدا، ولنا أن نتخيّل إلى أين كانت ستوردنا، وأي إضافة كانت ستضيف للحدث المركزيّ في الرواية.

روائيّا يمكن تصنيف رواية مصطفى بالرواية الفنيّة التاريخيّة الواقعيّة، إذ تضمّ في ثنايا بنائها القصصيّ أطراف تاريخ يدور ارتجاعيّا على لسان الأبطال ليطال ثورة ال-1936، والمقاومة قبل النكبة وخلالها، والنكبة التي كانت بلد البطلة، صفورية، صورة مصغّرة عنها.

الأهم في هذا السياق أن مصطفى دخل حقلا شائكا، لم يكن دخوله فيه موفّقا وعلق فيه دون أن يستطيع الخروج إلا والدم ينزف منه. هذا الحقل هو حقل “جيش الإنقاذ” ودوره، فإن كان “يُلام” في الأوَل أنه لم يحاول التعامل لا مع الضوء بنعومته ولا معه في سطوعه المؤذي، ف-“يُلام” هنا أنه تبنّى رواية العملاء عن جيش الانقاذ والتي استطاعوا بشكل أو بآخر أن يجعلوها تطغى على عقول ناسنا البسطاء، وستّي مدلّلة لم تكن بسيطة وكان بإمكانها أن تضع النقاط على الحروف في هذا السياق، إلا أن الراوي بخُل عليها بذلك، وبهذا ارتكب الخطأ الأول والأصعب، أما خطأه الثاني فإن كلّ ما جاء في الرواية عن جيش الانقاذ ودوره وتحركاته مناف للوقائع التاريخيّة وتسلسلها الزّمنيّ.

لا مجال هنا للولوج في هذا الموضوع إلى العمق، ولكن وما دام الراوي قرّر أن يجيء على جيش الإنقاذ ودوره في رواية تُصنّف ب-“الفنيّة التاريخيّة الواقعيّة”، كان عليه أن يتوخى الحقيقة والدقّة التاريخيّة، ولم يفعل وبهذا أساء للقاريء معرفة، وأساء لمتطوّعي جيش الإنقاذ كرامة، وأساء للتاريخ دقّة.

أمّا فيما يتعلّق بعناصر الرواية، فأعتقد أن مصطفى خطا خطى واثقة، فالحدث الذي تناوله، “النكبة والتهجير والعودة” حدث على غاية من الأهميّة في حياتنا، وكون ارتباط الحدث بالشخصيّة هو بمكانة العلّة بالمعلول، كما يقول بعض النقّاد، فقد كانت شخصيّة “ستّي مدلّلة” خير معلول للعلّة، خير من مثّل الحدث، بشكل مثير عميق في عرضها للحدث وتعاملها معه. فقد اختار مصطفى الشخصيّة النامية لبطلته، نمت بنمو الأحداث وتقدّمت على مراحل أثناء تطوّر الرواية وهي في حالة صراع مستمر مع الآخرين، وفي حالة صراع شخصيّ مع الذات. فكانت ستّي مدلّلة خير من تَصارع مع الآخرين في تناول الحدث، وخير من تَصارع مع نفسها ومع من حولها، ولعلّ الأوج فيما ذهبت إليه ب-“اتهام الضحيّة” كما جاء أعلاه، لو لم يبترها الكاتب في عزّ الانطلاقة.     

وكون الكاتب هو حنجرة وحلق البطل وقبل ذلك عقله، فكانت حنجرة مصطفى وحلقه وما خرج منهما، ومصدره العقل، في جوهر الرواية يستحقّان كل تقدير. وإذا كان الرأي السائد أن الرواية تشكيل للحياة في بناء عضويّ يتّفق وروح الحياة ذاتها، ويعتمد هذا التشكيل على الحدث الذي يشكّل داخل إطار وجهة نظر الروائيّ، وذلك من خلال شخصيّات متفاعلة مع الأحداث والوسط الذي تدور فيه هذه الأحداث، على نحو يجسّد في النهاية صراعا دراميّا داخليّا متفاعلا، إذا كان هذا هو الرأي السائد فمصطفى نجح وأيّما نجاح.

أمّا من ناحية الوعاء اللغوي، لغة الرواية سردا وحوارا، ففي المونولوج كما في الديالوج وفي السّرد لا أستطيع إلا أن أقول أن مصطفى خطا خطى ثابتة. لكن المشكلة العويصة كانت في اللغة وبكلّ مركباتها، فهنا وقع مصطفى وقعات كان بإمكانه أن يتلافاها فلم يفعل. ليس بالضرورة أن يكون الكاتب ضليعا كلّ الضلوع في اللغة، ولذا فهنالك المدقّقين ويُحسن الكاتب، أي كاتب، صنعا إن يعرض انتاجه على غيره.

مصطفى في هذا الباب وفي روايته الأولى “عودة ستّي مدلّلة” فعل ما لا يُفعل وقد ارتكب خطا فادحا إن لم يكن خطيئة، وكون الرواية حريّة بباقي مركباتها أن تكون في مكان جيّد بين الروايات في حقل إنتاجنا المحليّ، فاقترح عليه إعادة طباعتها بعد أن تخضع لعمليّة جراحيّة عميقة في هذا المجال. (وقد زودتُه وجاهيّا بكل ملاحظاتي في هذا الموضوع).

في روايته “جدار في بيت القاطرات”، وإن كانت تختلف من ناحية الموضوع فهي “سياسيّة اجتماعيّة واقعيّة”، إلا أن مصطفى تخطى المشكلة “الوعائيّة” جزئيّا لكن بما لا يُقاس قياسا للرواية الأولى، أمّا فيما يتعلّق بالعناصر الروائيّة فالأولى، من وجهة نظري، أنجح.       

وأخيرا وليس آخرا، مهما اختلفت وتعدّدت النظريّات النقديّة، أصليّة أصلانيّة كانت أو مستوردة، يظلّ الأهم في العمل الأدبيّ هو الرسالة التي يحمل، وحين يعيش الكاتب قضيّة جمعيّة وطنيّة لا يُغفر له أن يتخطّاها تحت أي شعار ك-“الفن للفن” مثلا وغيره، وفي هذا قمّة الفن والإنسانيّة. في سياقنا النكبة وتداعياتها ما زالت قضيتنا الجمعية الوطنيّة الأهم، وحين اختارها مصطفى عمودا فقريّا لروايته فقد حمّلها رسالة سريعة الوصول إلى عقل وقلب القارىء، وهذا يُسجّل له ولعمله الروائيّ.

وإن كانت الرواية التعليميّة التثقيفيّة المحضة أفرغت مكانها، إلا أن هذا لا يعفي الرواية الفنيّة من تطعيم سطورها تعليما وثقافة، وهنا ضعف آخر في رواية مصطفى وحين طرق الباب من حيث يدري أو لا يدري أخطأ، ومثالا في كلّ ما جاء عن جيش الإنقاذ. كذا الأمر بالنسبة للتطعيم الفكريّ، وهنا لامس مصطفى نواصي بعض الأفكار إلا أنه تركها مبتورة وكان بإمكانه أن يلج فيها طولا وعرضا.     

أمنياتي الطيّبة يا مصطفى !

أخيرا، أتساءل كقارىء: هل روايتنا المحليّة تخطّت جدران “زينب- محمد حسين هيكل” رغم مرور مئة وعشر سنوات تقريبا على “زينب هيكل”، والمجمع عليها أنها الرواية الفنيّة الرائدة في تاريخ الأدب العربيّ؟!   

وإذا كان الرّد ب- “نعم” فأين ذلك ؟! وإذا كان الرّد ب-“لا” مثلما أعتقد، فلماذا ؟!

أهي مشكلة المبدعين أم مشكلة النقّاد؟!

أو ربّما هي مشكلة القراء!

                                                                                   سعيد نفّاع

                                                                             أواسط نيسان 2017