الأرشيفعربي وعالمي

“إسرائيلُ” الكبرى في أوكرانيا – د. موفّق محادين

بعد انفصالِ المستعمراتِ البريطانيّةِ عن مركزها الأنجلوسكسوني في لندن، وإعلانها دولةً مستقلّةً باسم الولايات المتّحدة، الإمبرياليّة الأمريكيّة لاحقًا، كان بين الاقتراحات التي تمّ تداولُها في أوّل كونغرس أمريكي لإعلان اسم هذه الدولة: “إسرائيل” الجديدة، أرض الميعاد.. الخ.

اليوم، وبمناسبة حديث رئيس أوكرانيا (اليهودي) عن “إسرائيل” الكبرى في أوكرانيا، فإنّ الحديثَ المذكور أكثرُ خطورة مما يعتقد البعض ويؤشّر على الخفايا السريّة التي رافقت سيطرة الأوليغارشيّة الماليّة اليهوديّة على السياسة والاقتصاد والإعلام في أوكرانيا.

بالتزامن مع إعادة هيكلة الإمبرياليّة الأمريكيّة لوجودها في الشرق الأوسط والتركيز أكثر على محور روسيا الأوراسيّة وطريق الحرير الصيني، فإنّ الوظيفة الصهيونيّة نفسها عبرَ الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلّة، باتت موضوعًا لإعادة هيكلة، بعد التآكل التدريجي لهذه الوظيفة منذ حرب تشرين 1973 وحرب تموز 2006 واضطرار الإمبرياليّة للتدخّل المباشر بعد عجز الوكيل الصهيوني، مما يغري بالاستنتاج بأنّ البرجوازيّة اليهوديّة بصدد إنشاء (إسرائيل ثانية) حول قلب العالم الجديد، روسيا الأوراسيّة.

ويبدو أنّ “إسرائيل” الثانية قد راحت تتشكّل فعلًا في أوكرانيا منذ نجاح الحركة الصهيونيّة في السيطرة على هذا البلد عبر زيلنسكي وفريقه، وممّا يعزّز هذه الفرضيّة الهجرة المتزايدة المفاجئة لليهود الغربيين من الكيان الصهيوني إلى أوكرانيا وروسيا وتحوّل المقاطعة التي ولد فيها زيلنسكي (دنيبروبتروفسك أوبلاست) إلى أهم مقاطعة في أوكرانيا، من حيث الاستثمارات والأبراج العقارية والبنوك والبورصة وكل ما يلزم البرجوازيّة اليهوديّة الجديدة.

ويشار هنا إلى أنّه بالإضافة إلى يهوديّة الرئيس الأوكراني ورئيس حكومته السابق، غرويسمان وثمانية وزراء في الحكومة الحالية ومحافظ البنك المركزي ومعظم وسائل الإعلام وشركات الإنتاج السينمائي والعديد من قادة الأمن والجيش، فإنّ معظم رؤساء حكومات العدوّ الصهيونيّ ينحدرون من يهود هذه المقاطعة الأوكرانيّة، مثل: غولدامائير، ليفي اشكول، إسحاق شامير، إسحاق رابين، موشيه شاريت، والعديد من الوزراء وقادة المؤسّسة العسكريّة والأمنيّة الصهيونيّة مثل موشيه ديان، وهو ما يعني أنّنا إما إزاء سيناريو شبيه بدولة جنوب إفريقيا العنصرية قبل انهيارها، عندما سيطرت عليها الأقليّة البيضاء المعروفة، وإما إزاء سيناريو انفصال هذه المقاطعة وتحويل المحيط الأوكراني لها إلى مجالٍ حيويٍّ يشبه الدويلات التي كانت تحيط بجنوب إفريقيا مثل دويلات الزولو وبيتسوانا.

وفي الحالتين فإنّ تزامن ذلك مع الهجرة اليهوديّة المضادة إلى أوكرانيا وروسيا، يعني أنّ أوكرانيا اليهوديّة تحت أي سيناريو، تسعى لأن تكون مركزًا ماليًّا لمحيط روسي تحت سيطرتها، أي لمحيط أوراسي، ومن يسيطر على قلب هذا المحيط كما يقول ماكندر، يسيطر على العالم الجديد في كلّ مرّة.

ويلاحظ هنا الصراع الواضح بين موسكو والحركة الصهيونيّة على من يوظّف من، موسكو التي سبق واقترحت عام 1929 إقامة سلطة حكم ذاتي يهوديّة في بيرو ابيدجان السوفييتية بدلًا عن فلسطين، وبين الحركة الصهيونيّة التي تحاول استعادة المناخات التي تلت الانهيار السوفييتي ووضعت روسيا تحت سيطرة هذه الحركة.

في ضوء ذلك، فإنّ العمليّة العسكريّة الروسية الشجاعة في أوكرانيا قد تكون عملًا استباقيًّا، سرعان ما انعكس داخل موسكو نفسها، حيث قام اللوبي اليهودي بالتحريض وتحريك المظاهرات ضد بوتين، مما وسّع ولأوّل مرّة المسافة بينهما بعد أن ظلّ بوتين يدير كلّ الخطوط التي ورثها عن الجماعة التي أسقطت الاتّحاد السوفييتي، بدعم المخابرات الأمريكية وبضمنها اللوبي اليهودي وامتداداته المافيوية في تل أبيب. وليس بلا معنى أن تتّسع هذه المسافة مع القبضة الروسيّة ضدّ هذه المظاهرات وفتح ملفات العديد من عناوين اللوبي اليهودي مثل: تشوبايس الذي هرب بسرعةٍ إلى لندن، شأن كلّ اليهود الذين نهبوا روسيا بعد الانهيار السوفييتي.

إلى ذلك، وعلى الصعيد العربي، فإنّ الملاحظات الأخيرة تجعل العرب أكثر اهتمامًا بصراع روسيا مع الناتو في أوكرانيا، حيث بات الملف اليهودي أكثر خطورة وتأثيرًا على المشهد العربي نفسه، في ضوء الخلفيّة التاريخيّة لهذه التأثيرات، والآفاق المستقبليّة لها.

أوّلًا، بالنسبة للخلفيّة التاريخيّة، نتذكر أنّ تأسيس المشروع الصهيوني في فلسطين كان نتاج حساباتٍ سياسيّةٍ للإمبرياليّة البريطانية وحاجتها إلى ثكنةٍ بحريّةٍ شرق المتوسط على طريق شركة الهند الشرقية البريطانية، كما في ضوء مخاوف هذه الإمبرياليّة البريطانيّة من تكرار تجربة محمد علي في مصر بالسيطرة على القوس البحري، المصري – السوري وحصار إسطنبول العثمانية العزيزة آنذاك على قلب الإمبرياليات الأوروبية، وإلى الحدّ الذي جعلها تنظم بدعم روتشيلد ورجال المال اليهود مؤتمرًا خاصًّا في لندن لفك حصار الجيوش المصريّة عن عاصمة الخلافة، وذلك وفقًا لمذكّرات رجال بريطانيا الأقوياء آنذاك، دزرائيلي وبالمرستون.

انطلاقًا من ذلك جاءت فكرة رئيس الوزراء البريطاني، كامبل بنرمان بضرورة إقامة حاجزٍ من المستوطنين اليهود يفصل مصر عن الشام، وانطلاقًا من ذلك أيضًا استعاد الرئيس جمال عبد الناصر استراتيجيّة محمد علي وتعرّض لما تعرّض له من تدخّلاتٍ استعماريّةٍ بأدواتٍ جديدةٍ مثل الانفصال السوري والعدوان الصهيوني المباشر 1967.

ثانيًا، إنّ إقامة “إسرائيل” ثانية في الحوض الأوراسي، يعني قطع الطريق على الرؤية التي رسمها مبكرًا الجغرافي المصري الكبير: جمال حمدان، بتأكيده على العلاقة الاستراتيجيّة بين الشرق العربي وبين الشرق الأوراسي، وكذلك الرؤية التي قدّمتها سوريا عبر الرئيس بشار الأسد 2004 تحت عنوان (البحار الخمسة) التي تربط الشرقين أيضًا (البحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط والخليج والبحر الأحمر).

نشر هذا المقال في العدد 37 من مجلة الهدف الإلكتروني