من هنا وهناك

المقاومة بين تهويل القوة وقوة الحق – بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

 

المقاومة العربية والفلسطينية ليست قوة عظمى، تملك جيوشاً جرارة وأسلحة فتاكة، وقدراتٍ خيالية وامكانياتٍ جبارة، وهي لا تملك طائراتٍ ولا مطاراتٍ، ولا صواريخ بعيدة المدى ولا قنابل مدمرة، ولا يوجد بحوزتها أسلحة دمار شامل ولا أخرى محرمة دولياً، وهي غير قادرة على مواجهة دول ومحاربة جيوش، ومجابهة أحلافٍ وقوى، إذ أنها ليست جيشاً ولا تملك فرقاً وألوية، ولا يوجد عندها فيالق ولا قطاعاتٍ حربية، ولا يحمل رجالها رتباً عسكرية، ولا يعلقون على صدورهم أوسمةً ونياشين حرب، وشهادات معاركٍ وقتال، فهي ليست قوة أسطورية فوق الخيال، ولا هي قدرة خرافية يعجز عن وصفها العقل واللسان.

وهي لا تملك مؤسسات دولة، ولا أجهزة استخباراتٍ عالمية، ولا تنسق مع الدول، ولا تتبادل المعلومات مع الأنظمة، ولا تجري مناوراتٍ عسكرية مشتركة ولا أخرى بالتنسيق مع غيرها، ولا تملك أكاديمياتٍ عسكرية ولا معسكرات تدريبٍ علنية، وهي ليست حرة في حركتها، ولا قادرة على تحريك قواتها، أو كشف ما لديها وبيان أسماء عناصرها وقادتها، وهي ليست قوة دولية قادرة على تغيير موازين القوى، وإعادة رسم الخرائط، وتغيير الحدود، وفرض السياسات، وصناعة الأحلاف، وخلق الوقائع التي تريد، وهي قوة لا ترهب، وقدرة لا تخيف، وسلاحٌ لا يخرب، ورجالٌ لا يفسدون.

لذا ينبغي على المؤمنين بالمقاومة والداعمين لها، والذين يأملون بها ويثقون فيها، ويتطلعون إليها أو يعملون في صفوفها، ألا يحملوها فوق طاقتها، وألا ينتظروا منها عمل المستحيل، والانتصار الحاسم، والانجاز الدائم، وألا يصابوا بخيبة أمل إذا عجزت أو ضعفت، أو تراجعت وانكفأت، أو استجمت واستراحت، طالما أنها على الطريق نفسه، تمضي على الدرب، وتحمل الأهداف، وتتطلع إلى الغايات، فلم تبدل ولم تغير، ولم تنحرف ولم تضل، ولم تتنازل ولم تعترف، ولم تصالح ولم تهادن.

فالمقاومة التي تواجه دولاً وجيوشاً، واستعماريين ومستوطنين، تتعرض إلى حالات مدٍ وجزرٍ، وقوةٍ وضعف، وتتقدم وتتراجع، فهي ليست في صعودٍ مستمر، ولا هي في هبوطٍ دائمٍ، بل تعتريها حالات، وتمر في ظروفٍ ومراحل، تملي عليها نتائج ومعطيات، فلا ينبغي أن نحملها فوق طاقتها لئلا نحبط، ولا أن نعتقد بغرورٍ أنها دوماً قادرة، وذلك لئلا نصدم أو نصاب بخيبة أمل إن عجزت عن تحقيق أهدافها، أو هزمت أمام ضربات العدو الماكرة والخبيثة، والدائمة والمتلاحقة، والمنظمة والمركزة.

يجب علينا أن نحذر عدونا والمتآمرين علينا، الذين يحاولون تصوير المقاومة بأنها قوة عظمى أشبه بالجيوش والدول، وأنها قادرة على تشكيل خطرٍ حقيقي، والحاق خسائر كبيرة به، وأن إمكانياتها ضخمة ومهولة، وأنها تهدد وجودها وتعرض مستقبلها وحياة مواطنيها ومصالحها للخطر.

إنهم بذلك لا يمدحون المقاومة ولا يشيدون بها، ولا يبدون خوفهم منها ولا قلقهم من مواجهتها، ولا يرعبون أنفسهم وشعبهم منها، بل هم يحرضون المجتمع الدولي عليها، ويهيئونه لتقبل أي ضربةٍ عسكرية قد يوجهونها إليها، على اعتبار أنها ضرباتٌ استباقية وقائية مشروعةٌ لمنع الخطر، واحباط المخططات المعادية، وأنها ضرورة ملحةٌ، وخيارٌ لا بد منه، تلجأ إليه كل الدول والحكومات لمواجهة الأخطار التي تحدق بها.

كما أن العدو الذي يهول قوة المقاومة، ويصورها بأنها قادرة ومتمكنة، وتملك إمكانياتٍ كبيرة، يريد من خلال فشلها أو عجزها، أو تراجعها التكتيكي وانكفائها المرحلي، أو تأخر انتقامها وضعف ردها، أن يحبط الشعب، وأن يضعف ولاءه له وإيمانه بها، وأن يفضهم من حولها، فلا يؤيدونها ولا يدعمونها، ولا يؤازرونها ولا يساعدونها، ولا يثقون فيها ولا يأملون بها، ليدفعهم بذلك للبحث عن خياراتٍ بديلةٍ وحلولٍ أخرى، لا تقوم على القوة، ولا تعتمد المقاومة.

لكن المقاومة التي تفتقر إلى كل ذلك من الأسلحة المادية وأدوات التغيير القاهرة، ومظاهر الظلم السافرة، ومفردات القهر الفاسدة، إلا أنها تبقى الأمل الحقيقي، والوسيلة الأقوى والأجدى، فهي ليست ضعيفة وخرعة، ولا مسكينة ومستكينة، ولا خائفة وخائرة، ولا جبانة وهاربة، بل هي قوية بالإيمان الذي تحمل، وبالعقيدة التي تقاتل بها، وبالحق الذي تدافع عنه، وبالقضايا التي تناضل من أجلها، وتضحي في سبيلها، ولعلها بهذا السلاح الذي لا يقهر ولا يهزم، ولا يضعف ولا يتراجع، ولا يجبن ولا يتردد، تخيف العدو أكثر مما تخيفه الجيوش، وتربكه أكثر من الدول، وتلحق به خسائر في معاركها الصغيرة أكثر من تلك التي تلحق به جراء الحروب والمعارك الرسمية الكبرى.

المقاومة العربية على أشكالها وتعدد أسمائها قويةٌ بالمثل والمبادئ، وبالقيم والأخلاق، وبالشيم والمزايا، وبالمناقب والسجايا، وبالرجال الذين يحملون أرواحهم على أكفهم ويضحون، ويتقدمون ولا يبالون، ويسبقون ويتنافسون، وبالنساء الماجدات اللاتي يربين أولادهن على التضحية والفداء، والمقاومة والقتال، فلا تذرف لهن عين، ولا يلطمن لحزنهن خد، ولا يشققن لعظم الخطب جيب، بل يدفعن أولادهن إلى كل مجد، ويشجعنهم لكلٍ مكرمةٍ ومفخرة، وبالأخوات الصابرات المؤمنات، المعطيات الشريكات، الدافعات المشجعات، المكفكفات المعزيات، اللاتي يتطلعن إلى النصر، وينظرن بفارغ الصبر إلى الثأر والانتقام.

المقاومة قويةٌ بالشعب الصابر المعطاء، العظيم المفضال، الخفي المتواري، البسيط المتواضع، الساكن في أسماله، والمرابط فوق ترابه، والمسكون بكل آلامه وآماله، الذي لا يضج ولا يشكو، ولا يئن ولا يصرخ، ولا يخنع ولا يركع، القابض على الجرح، والساكت على الألم، المكابر الجلد، الشجاع الهصور، المكابد المعاني، الذي يحمي المقاومة بلحمه الحي، ويدافع عنها بصغاره وأطفاله، ويسكنها بيته، ويخفيها تحت دثاره، ويربط على بطنه من الجوع، ويصبر على الحصار والقيد، ويجاهر رغم الدم المهراق، والجرح الغائر، والمصاب العظيم، بحقه الأصيل، ومجده التليد، وكرامته العزيزة، وهو بهذا العنصر الأقوى، والعدة الأبقى، والسلاح الأمضى، وورقة الرهان الأقوى، وبارقة الأمل الأسنى.

المقاومة العربية قويةٌ بقرارها الحر الصادق، وبإرادتها المخلصة الغيورة، وبقيادتها العاملة في الميدان، المعفرة بغبار الأرض، والمصبوغة بترابها العبق، التي تعرف متى تضرب وأين، وكيف تواجه ومن تقاتل، فقرارها حرٌ غير مرهون، وسياستها مستقلة غير تابعة، وإرادتها طليقة غير مقيدة، وقتالها لحقٍ غير مشروط، ولغايةٍ غير مشبوهة، ولأهدافٍ كلها نبيلة، تعرف أنها تقاتل عدواً فتقوى، وتقاوم مغتصباً فتسمو، وتجابه محتلاً فتصفو، وتبذل أرواحها في المعركة ولكنها تربو، وتقاتل بحقٍ وإلى الجنة تصبو.

اترك تعليقاً