الأرشيفثقافة وفن

توفيق زياد: الشعر حياة… – رشاد أبو شاور

جاءنا شعره مع شعر زملائه، فمد جسرا بين الصامدين المنزرعين في الوطن، والمشردين المسكونين بحلم العودة مهما طال الزمن.

أصوات شعرية لكل منها ميزاته، وكلها معا تقول: نحن أحياء، ممتلئون حياة، لم نندثر، نحرس الأرض، والحقول، والذاكرة، و..ننتظركم.

جاءت الأصوات على أجنحة القصائد حاملة البشرى: نحن شعب واحد، والأسوار التي رفعت بيننا لم تقطع أواصرنا، ولم تفك عرانا، ولم تبدّل جيناتنا، فكانت الفرحة كبيرة، وكان الصدى في كل ديار التشرد والغربة يردد: نحن شعب فلسطيني واحد، وكان هذا انتصارا كبيرا لمن بذروا الأمل، ورعوه، وغنوا له في الميادين، والشوارع، وعبر نوافذ الزنازين.

توفيق زياد، هو واحد من أبرز من زرعوا الأمل في نفوس أهلنا داخل الوطن، وعندما تسرّب صوته إلى أهله في مخيماتهم، وأماكن غربتهم، أمرع الأمل حقلاً اخضر، فرددوا قصائده، وغنوها، وحفظوها، وفرحوا بها، واستبشروا، وهكذا عرفوه، وأحبوه، وكأنه يقيم معهم في المخيمات، وديار التشرد، يحضهم على الصبر، والأمل، والتشبث بيقين العودة إلى القرى، والمدن، والبحر، في وطنهم الذي لن يضيع، لأن وراءه شعب مطالب، وتوفيق زياد الغني بتراث شعبنا، يرفع راية: ما ضاع حق وراءه مطالب، وهو لذلك يشحذ الذاكرة الوطنية، ويغنيها بالأناشيد، والأهازيج، والأمثال، أي بكل حكمة الأجداد..وهذا الزاد الذي لا ينضب يفور في قصائده، وأعماله الشعرية.

حين وصلتني رسالة الصديقة (نائلة زياد) ، رفيقة عمر توفيق، تذكرني بالذكرى العشرين لرحيله، كان أول ما فعلته أن تناولت أعماله الشعرية وعكفت على قراءتها من أول صفحة حتى آخر صفحة، وبهذا كنت أجدد العهد معه..عهد فلسطين وشعبها، وعهد الشعر الذي يحمل رسالة.

قرأت : شيوعيون، أشد على أيديكم،ادفنوا أمواتكم وانهضوا، أغنيات الثورة والغضب، تهليلة الموت والشهادة…فاستعدت أزمنة، ومعارك، وتواريخ لا تنسى، وذكرى أبطال رحلوا في مواجهة الجلادين في عالمنا الواسع، عالم الشعوب الثائرة..وتوفيق شاعر وطني، وعربي، وإنساني، يؤكد في شعره، وحياته، أن فلسطين قضية إنسانية، ولذا تجده يغني للومبا، وبورسعيد، وفيتنام، والسد العالي..فيتداخل صوته الحامل لفلسطين، لكفر قاسم، لدير ياسين،  وكل آلام شعبها، مع صوته الموجوع بالآم البشر، أخوتنا في الألم ، وعشق الحرية..في أربعة جهات العالم.

شاعر محلّي، فلسطيني، عربي، أممي إنساني، مؤمن بقوة الشعوب، وبحقها في الحرية، وبأن المستقبل لها رغم قسوة القمع، وأوقات الضعف العابرة في مسيرتها، ورغم الاضطهاد، والظلاّم، والفاشية، والنازية، والصهيونية العنصرية.

عرفته شاعرا، ولم ألتقه من قبل وجها لوجه،قبل اللقاء في القاهرة، في أمسية أحسب أن كل من حضرها لن ينساها.

كان ذلك في الأسبوع الثقافي الفلسطيني، الذي التقى فيه شعراء، وكتاب، وفنانون، ومثقفون، من ( كل ) فلسطين، من الداخل، ومن الشتات، وحتى من المنافي البعيدة، في صيف العام 1989..إضافة إلى ضيوف كبار من الوطن العربي، ومن أوربة.

تشرّفت بأن كنت عريف الأمسية الشعرية التي ضمّت ثلاثة من كبار شعراء فلسطين، هم الأساتذة الكبار: حسن البحيري الشاعر المخضرم ابن حيفا، وهارون هاشم رشيد الذي لمع اسمه واسم معين بسيسو معا بعد نكبة 1948، وتوفيق زياد الشاعر الذي عرفناه مع راشد حسين، حنا أبوحنا، محمود درويش، سميح القاسم، سالم جبران..وغيرهم.

كنت في حيرة، وحالة ارتباك، وتساؤل طيلة الوقت: كيف سأقدم هذه القامات، وحين رأيت مسرح ( السامر) العريق بالقاهرة غاصا بالفنانين، والمبدعين، والمثقفين، والشخصيات المميزة، عدت إلى شعرنا القديم، فاخترت منه بيتا مباهيا متفاخرا، وعندي كل الحق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

والتفت إلى المنصة ، وأنا أشير إليهم وهم يطلون على الجمهور، وفلسطين تطل معهم في ساء القاهرة..وكانت الأمسية التي لا تنسى.( كانت هناك مشاركة لشاعر شاب من القدس هو أسعد الأسعد).

الجمهور العربي يعرف شاعرنا الكبير هارون هاشم رشيد، والتقاه في أمسيات كثيرة ، لا سيما في القاهرة، وفي كثير من الأقطار العربية، وعرفته مهرجانات الشعر العربي، وهو صاحب نشيد( عائدون)، وشدت له فيروز( سنرجع يوما إلى حينا).

والجمهور يعرف الأستاذ الكبير حسن البحيري، والتقاه  في أمسيات شعرية كثيرة في بلاد المشرق العربي، ويعرفه جمهور دمشق المحب للشعر.

ولكن، ماذا عن توفيق زياد؟

أنا قرأته كغيري، كما أسلفت، ولكنني لم أسمعه وأراه عن قرب..وهنا كانت المفاجأة للجمهور الذي اكتظ به المسرح، في تلك الأمسية القاهرية التي كانت ترطبها نسمات النيل!

قدم توفيق زياد ( عرضا) مسرحيا ( منودراميا) مبهرا..كان يمثّل الكلمات، يجسدها، ينقلها من الصوت إلى الحركة، وبإيقاع الجسد، وكأنه يقود التظاهرات في شوارع الناصرة.

ملأ المسرح بحضوره، فكان جسده، وحركاته، ولفتاته..تشد المشاهدين، وتجذبهم، وتبهرهم.

رأيت ممثلين مصريين كبارا في حالة انبهار مما يشاهدون، فهم أمام فنان كبير، وليس شاعرا كبيرا حسب!

لا أعرف كم الوقت الذي امتد ( لعرض) توفيق زياد، فالوقت مرّ ممتعا، مدهشا، ونحن الجمهور انتشينا معه بالشعر، وبالعرض.

الفنانة الكبيرة ( محسنة توفيق) اقتربت مني وهي تبكي  منفعلة وبصوت راجف طلبت مني أن أقدمها ( لرفيقها) _ وهي شيوعية مثله_ توفيق زياد، فناديته، وحين سمع اسمها فتح ذراعيه وتعانقا..وهنا انتهت مهمتي، فوقفت أتأملهما في عناقهما الحار، وروحهما الرفاقية المؤثرة..وتحت أنظار عشرات الفنانين، والشعراء، وأفراد الجمهور.

أحيط توفيق زياد في تلك الأمسية بعاطفة ومحبة، وإعجاب يبدو انه أثر عميق الأثر في نفسه، حتى إن السيدة نائلة أخبرتني، أنا وبعض الأصدقاء، ونحن حول مائدة الإفطار صبيحة اليوم التالي بان توفيق لم ينم تقريبا الليلة الفائتة ودفع به الحماس أن يزف لها خبر عودته لكتابة الشعر، بعد طول انقطاع.

عرف توفيق زياد في تلك الأمسية انه حاضر كشاعر، وأنه بالشعر سيبقى حيّا، وبه سيصون مسيرة حياته.

لا أنسى، وهذا ما كتبته في كتابي ( آه يا بيروت) ، مشهد كرمل ابن الشاعر عز الدين المناصرة، ونحن نخوض معركة بيروت، وهو يحتضن غيتارا ضخما وجده في بيت الكاتب فاروق وادي، حين أقام فيه مع والده ووالدته، وكان فاروق وأسرته خارج بيروت عند وقوع الحرب، وأخذ فجأة ينشد بصوت طفولي قوي مع ضربات الأوتار:

أناديكم

أشد على أياديكم

أبوس الأرض

تحت نعالكم

وأقول: أفديكم

لم يطلب أحد من كرمل أن يغني هذه القصيدة، ولكنه، وتحت قصف الطائرات، وهو يرانا بملابس الكاكي، وهو يشعر بهول المعركة..لم يجد غيرها مناسبا.

هكذا كان توفيق زياد معنا في بيروت بكلماته…

هكذا يحضر الشاعر

هكذا يعيش بشعره

ولذا لا يموت، وإن غاب جسده.

* بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل الشاعر والمناضل توفيق زياد.، الذي وافته المنية إثر حادث سير وهو في طريق أريحا_ القدس، عائدا من لقاء مع الرئيس عرفات، بعد أن وفد من الناصرة للسلام عليه، والترحيب به..في مدينة (أريحا) عام 1994… وهو عائد إلى مدينة (الناصرة) عاصمة الجليل.

اترك تعليقاً