من هنا وهناك

حين تختصر غزة أمة بكاملها – عبداللطيف مهنا

حين تختصر غزة أمة بكاملها – عبداللطيف مهنا

هى لم يعوزها أكثر من اسبوعين ملحميين، فالثالث، حتى اختصرت غزة وحدها أمة بكاملها…اسبوعين والثالث، اعطت فيهما لمعاني الصمود، واعارت لعنفوان التحدي، مديات لم يعرفها مضموناهما من ذي قبل، فكان لها وحدها، وحصراً، الحق بأن تمثل أمتها وأن تصبح وحدها، ولامن سواها، الناطق باسمها من محيطها الى خليجها…كانت أياماً فدائية الساعات ودقائقها مثقلة باسطورية التضحيات، اعاد فيها الدم الغزي المقاتل وحده قضية قضايا هذه الأمة إلى حيث عرين وجدانها المتقد، ليحتضنها ضميرها المكلوم عائدا بها إلى حيث مركزيتها متدثرةً بدفىء ما افتقدته من حدب تلكم البدايات النضالية الطهور… وكانت أياماً ودقائق ملحمية اعادت فيها غزة الأمة لفلسطينيي الأمة تائه انطلاقتهم التحررية…الى حيث سالف مدار مبادئها السوية وسلمتها من جديد لراسخ ثوابتها الأسمى…

قهرت غزة بدمها فجور فائض القوة وفلَّت عربدة جنون التفوُّق. كشفت عن محدودية ماتستطيعه هذه القوة، فافصحت عن لامحدودية ماتستطيعه الإرادة المقاومة، فكان لها أن تقول كلمتها، وأن تسمعها لكل من عجز فجبن فقعد وبات منظِّراً للجبن وانتهى الى المساوم وآلت به مساومته الى التواطوء وتواطؤه إلى التآمر: إن النصر تصنعه ارادة الحياة وليس فائض قوة الموت الباطشة، وهذه لايقهرها ولايردعها ولايدحرها إلا هذه الإرادة…بعثت غزة بعنادها الخاص مناخات زمنها المقاوم، فاعادت إلى فضاءات أمتها الملبدة زخم اشراقة ثقافة المقاومة، مطلقةً في عمق وجدانها المثلوم كامن عصف ممانعاتها، وقالت للجميع: من دير ياسين وحتى الشجاعية وخزاعة، مروراً بقانا، وإلى أن نطردهم من بلادنا ونعيدهم من حيث اتوا، هم هم ولن يكونوا سوى ماهم عليه، جيش من قتلة له كيان، اما نحن فمقاومة لها شعب وشعب يدافع عن أمة، وأمة باتت غزة الآن تختصرها…أمة بدت غزة اليوم ايقونة قيامتها، وانموذج غضبتها، وتجسيد لكرامتها…

نعم، إنهم المتفوِّقون، عسكرياً، وبمن اصطنعهم، ومن دعمهم، ومن حالفهم دولياً وحتى عربياً، وبما لايقاس. لكننا المتفوقون عليهم ومن معهم أيضاً بحقنا وارادتنا وبما لايقاس، وعليه، ووفقاً لحساباتنا لاحساباتهم، تعادلنا، وقالت غزة أن لامن عودة لماكان، ومن هنا قررت أن يبدأ المختلف بعد اليوم، ومن هنا، كلما زادت وحشية حقدهم وارتفع مستوى همجية انتقاميتهم ارتفع مؤشر فشلهم واقتربت ساعة هزيمتهم…فلَّ الكف المخرز، وانتصرت الضحية على الجلاد…هاهى غزة المحاصرة تحاصرهم وتغلق مجالهم الجوي…ها بصمودها الملحمي، وتضحياتها الجسام، وعنادها المقاوم، وعظمة فدائيتها، تسدد اقسى ضرباتها المعنوية والسياسية والاقتصادية للغزاة الفجرة…هاهو فجور فائض قوتهم المنفلتة، وفتاوي حاخاماتهم بقتل اطفالنا، تنم عن وهن وهشاشة كيانهم الاستعماري اللقيط، هذه الثكنة الاجرامية المستفزة لكافة حقائق التاريخ والجغرافيا ومعاني الإنسانية… هذا الكيان الذي حمل منذ أن افتعله الغرب واختلقه وتعهده بذور فنائه المحتم…

اسقطت الملحمة الغزية ترهة “المجتمع الدولي”، واعادتت افتضاح عورة أممه المتحدة، وإذ اربك الدم الفلسطيني المقاوم الغزاة المحتلين، انهمرت الوساطات وتلاحقت وفودها، واكتشفت الأمة الثكلى كم لها من صهاينتها…من بلير إلى بان كي مون الى كيري الى الأقل شهرةً أو ضجيجاً ممن سارع من الأوروبيين، هؤلاء اللذين هبوا هبة رجل واحد طمعاً في الحسنيين، تجريد غزة من سلاحها وارادتها، وانتشال المعتدين من ورطتهم، وتلطى هؤلاء جميعاً وراء ازدياد لهاث الصهاينة العرب تهدوياً بزعم الحرص على حقن دماء اشقاء سبق أن تركوهم لحصار فتك بهم لثمانية اعوام، ويعلمون أن دمائهم المسفوحة لن يتوقف سفكها ما دام هذا العدو قائماً وموجوداً في القلب من بلادهم وبين ظهرانيهم…فشلت الألاعيب التهدوية المفضوحة حتى الآن وهتَّك الصمود الأسطوري وملحمية المواجهة شراكها، وهال الغزيين مدى مابلغه انحطاط هذه المرحلة العربية المخجلة. راعهم أن تعدت الحال من حولها بائس العجز وعار معهود اللامبالاة، إلى شائن التواطوء المعلن، الذي مامن ترجمة له في مثل هذه اللحظة المصيرية بالنسبة الى شعب يقتل وأمة تقهر وقضية تستهدف إلا المشاركة موضوعياً في سفك دم الشقيق المقاوم. وإذ بلغ الانحطاط مداه الى حيث لم يتورع البعض عن أن يتشفي بما يلاقيه شقيقه، لم يعد من أمل لغزة في غفاة معتصميهم، ولم يبق لها سوى أن تتمنى عليهم فحسب أن يعفوها من تآمرهم…

راهن غزة الملحمي، يقول، وما يقوله راهنها يتردد صداه بعيداً في اعماق مترام أمة تختصر توقها فرادة هذه اللحظة الغزاوية المقاومة: يتوه العرب بدون البوصلة التي ماكانت ولن تكون سوى فلسطينهم، ولن يجد وجدان هذه الأمة المستباح في مثل هذه المرحلة المصيرية الأخطر، التي تتكسر فيها نصال تطييفها وشرذمتها وتمزيقها على النصال، ملجئاً لأحلامها المطاردة إلا فلسطينيتها، وما الفلسطنة هنا إلا هوية نضالية عربية وليست زمرة دم، ولامن ترجمة ولا من عنوان لها الآن ولا غداً وقبلهما بالأمس سوى المقاومة، ولهذا يقول الدم الغزي المقاوم بوضوح لم تعهده سابقات المراحل: إن أنت الآن مع غزة فأنت إذن مع الأمة، مع نفسك، وإذ أنت معهما فحتام ستكون مع المقاومة، وخلاف هذا، ومهما كثر العجزة والقاعدون والمتواطئون والمتآمرون في مثل هذا الزمن العربي الأردأ من حولك، فإن الأمة براء منك ومنهم، وانت وهم مهما بلغتم افردتم افراد البعير المعبد …ولهذا اختصرت غزة امتها واصبحت أيقونتها…  

 

اترك تعليقاً