من هنا وهناك

وصية منافق محترف – محمد سيف الدولة

 

إبنى العزيز هذا وصيتى إليك اذا قرأتها بعناية وحفظتها عن ظهر قلب، والتزمت بكل حرف فيها، وجعلتها دستورك وقرآنك، فاننى أضمن لك أن الدنيا ستفتح لك أبوابها، وستصبح من علية القوم، وسيكون لك ألف حساب، من العدو قبل الصديق.

كن من جنود النظام وحاشيته وأتباعه، كن معه مهما كان ومهما فعل، سواء كان نظاما وطنيا أو تابعا، رأسماليا أو اشتراكيا، ديمقراطيا أو مستبدا، حاميا أو قاتلا، نزيها أو فاسدا، عادلا أو ظالما.

وانظر لكل من ساير السلطة وتلون على هواها حسب الطلب؛ ستجدهم اليوم هم وأولادهم وأحفادهم سادة البلد واغني واقوى من فيها، يحتكرون كل المناصب والثروات.

ألا تريد أن تكون مثل هؤلاء؟ الا تحلم بالملايين والشهرة والمكانة والقوة والنفوذ ؟

فالشطارة يا ابنى ان تكون تابعا للسلطة، أى سلطة، وان تعمل فى خدمتها وأن تتقرب منها وان تكون رهن إشارتها، تدافع عنها وتروج لها، و تحرص على ألا تغضبها ابدا.

ولا تندهش من هذا الكلام، فغالبية الناس العادية، بعيدا عن السياسة، تنافق رؤسائها فى كل مكان؛ فى المصالح والشركات والوزارات والدواوين، فى القطاع العام أو القطاع الخاص.

انظر الى أى مؤسسة صغيرة أو كبيرة، من النادر جدا ان تجد فيها موظفا يعارض رئيسه أو مديره. فغالبية الموظفين يتسابقون  للتقرب والتزلف للكبير، بحثا عن الرضا والقبول والعطايا أو تجنبا للإيذاء والعقاب وخوفا من يده الطايلة. وتجدهم سعداء مرتاحي البال لو نالوا رضائه بكلمة او اشارة أو إبتسامة. وعلى العكس  تجدهم مرعوبين لا ينامون الليل لو غضب عليهم أو عبس فى وجوههم، او زجرهم بنظرة .

هذه هى الدنيا فى كل مكان، المنافقون يكسبون وينجحون، والسذج من المعارضين والثوار يخسرون ويفشلون على الدوام.

واقرأ التاريخ جيدا، لتتأكد مما أقول؛ انظر الى انور السادات، كيف أصبح رجلا مثله رئيسا للجمهورية، دونا عن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة الآخرين؟

 الإجابة بسيطة لأنه هو الوحيد الذى فهم “الفولة” فدأب على نفاق عبد الناصر والتزلف له وعدم معارضته، فبقى فى منصبه حتى النهاية، واول ما فعله بعدها هى تقطيع فروة عبد الناصر.

وانظر الى حسنى مبارك عندما كان نائبا للسادات، راجع صوره وأحاديثه وتسجيلاته، شخص معدوم الوزن والتأثير، لا فكر ولا ثقافة ولا دور، ولكنه استطاع بالنفاق والتزلف للسادات أن يكسب ثقته ويطمئنه الى انه لا يطمع فى منصبه أبدا.

حتى فى تنظيمات وأحزاب المعارضة ستجد غالبية الأعضاء والقيادات يتزلفون لرئيس الحزب. أما من يعارضه، فغالبا ما يكون نصيبه الفصل والطرد والعزل والاستبعاد.

النفاق هو الحل يا ابنى. والانتهازية بأوسع معانيها ووسائلها هى الطريقة الآمنة المربحة الوحيدة فى هذه البلد.

وإياك ان تتصور انها مهمة سهلة وبسيطة، فالمنافسة فيها كبيرة وشرسة، فما أوسع سوق المنافقين.

وأول شرط فى المنافق الجيد هو ان يكون صادقا مع نفسه وأن يحزم أمره تماما فى ان النفاق هو طريقه وسبيله الوحيد في هذه الدنيا. وان يعلم انه طالما نوى و قرر، فانه لا رجعة ولا تردد ولا ميوعة، فلا يوجد أنصاف منافقين.

وثانى شرط هو ان يتخلص من كل معوقات النفاق و منغصاته، كالضمير والحياء والخجل والعزة والكرامة والمبادئ وكل هذا الكلام الفارغ، فالمنافق لا أخلاق له، ولا مبدأ له سوى مصلحته فقط.

كما عليه أيضا ان يكون مستعدا للذهاب الى ابعد مدى. ففى عالم النفاق، ينال المرء من الخيرات والعطايا بقدر درجة استعداده لإذلال نفسه وتحقيرها. على رأى من قال ((علشان ما نعلى و نعلى ونعلى لازم نطاطى نطاطى نطاطيييى))

***

أما كيف تبدأ ؟ فعليك أولا أن تبحث عن “سكة” مع السلطة، و تمسك الخيط الاول معها، وهى مسألة ليست سهلة، فالطامعون كثيرون، والمناصب والمواقع والعطايا قليلة ومحجوزة.

فان نجحت فى هذه الخطوة، فعليك ان تثبت انك مفيد و قادرعلى تقديم خدمات لا يستطيع غيرك ان يقدمها. فالسلطات دائما ما تريد أشياء تخالف الدساتير والقوانين والأعراف والقيم والأخلاق، أشياء لا تجرؤ على طرحها علناً، وتحتاج دوما الى من ينوب عنها فى تبنيها والإعلان عنها و الترويج لها وكأنها مبادرات شعبية من خارجها، فكن انت اول من يطرحها. مثل التمديد للرؤساء، أو حل البرلمانات، أو تزوير الانتخابات، أو توسيع الصلاحيات، أو تعديل الدساتير، أو فبركة القوانين،أو العصف بالمعارضين، أو  فرض الطوارئ، أو تقييد الحريات أو الصلح مع الأعداء أو خصخصة الشركات، أو زيادة الأسعار …الخ

ويا حبذا لو كنت شديد الفراسة و قوى البصيرة، قادرا على أن تكتشف ما يريدونه ويبطنونه قبل أن يعلنوه فتطرحه وكأنه من بنات أفكارك.

ومن أجل ذلك احرص دائما على متابعة كل خطب وتصريحات وأحاديث الرئيس، واجعل كل كلمة فيها بوصلتك وقضيتك وموضوعا لأحاديثك و مقالاتك وبرامجك، وكن اول من يروج لها ويدافع عنها، وكن ملكيا اكثر من الملك.

وحتى ان بدَّل مواقفه او كلامه من النقيض الى النقيض، فلا تتردد لحظة فى تبديل مواقفك أنت ايضا على الفور، وإياك ان تخجل فالمنافق المحترف لا يعرف الحياء ولا الخجل.

واعمل على تثقيف نفسك جيدا. واحرص على تعلم بعض الحيل الفكرية. فالمنافق المثقف من أنجح المنافقين، لأنه يستطيع أن يبيع الفكرة للرأى العام “بحرفنة”، فلديه مخزون من الأدلة والحجج والبراهين الزائفة الجاهزة. وتذكر دائما أن المنافق الشاطر هو الذى لا يعلم الناس انه كذلك، والا انكشف وتم حرقه سريعا.

كما انه يتوجب عليك أيضا ان تتعلم فن التمثيل. ولا تندهش من هذه الوصية فاحد عناصر نجاحك هو ان تكون مقنعا وان يصدقك اكبر عدد من الناس، وهو ما يتطلب منك إجادة فنون الكذب والادعاء والتضليل بدون ان يطرف لك جفن.

ومن المهم أيضا ان تعطى انطباعا للرأى العام انك “واصل”، ومتصل بالأجهزة السيادية والأمنية وبأعلى المستويات فى السلطة، حتى لو لم تكن كذلك، فهذا يفتح لك أبوابا كثيرة، ويجنبك مشاكل جمة.

ووسع دائرة علاقاتك مع أكبر عدد ممكن من شبكات مراكز القوى والأجهزة والمصالح، وإياك ان تصطدم بأي منها، بل حاول ان تخدمها جميعا لو أمكنك ذلك. فالخير كثير، والرزق يحب الخفية.

وإعلم من ناحية أخرى أن أخطر أعدائك على الاطلاق هم الحرية والديمقراطية والثورات والانتفاضات الشعبية، فهى تكنس أمثالنا.

فقاتل ضدها حتى آخر نفس، لتحمى نفسك قبل أن تحمى أسيادك. ولذا إياك أن تأخذك رحمة أو شفقة بالمعارضة والمعارضين، فسن لهم أسنانك، ولا تراعى معهم أدب أو حوار، بل شَهَّر بهم وشيطنهم وأهنهم وأبلغ عنهم. واقذفهم بكل ما فى قاموسك من شتائم و تهم و جرائم، لا يهم ان تكون حقيقية، بل المهم أن يصدقها الناس. ولا تخشى شيئا، لا المسائلة القانونية ولا غيرها فالنظام سيحميك.

ومن ناحية أخرى قم بتكوين فريق عمل من المساعدين والخدم والتابعين لكى تتمكن من توسيع وتطوير قدراتك وخدماتك وتأثيرك. ولكن احذر منهم، واحرص على الا يقوموا بفتح “سكة” مباشرة مع السلطة من وراء ظهرك، فقد ينافسوك ويقلشوك ويشكلون خطرا عليك لأنهم يعلمون اسرارك وأساليبك وأدواتك وعلاقاتك .

كما ان عليك ان تدرك ان للدولة صبيان وتابعين ومنافقين كثيرين، وانها لن تكتفى بك وحدك، فتعاون معهم اذا أَمرت بذلك، ولكن ضع عينك فى وسط رأسك، وتوقع دائما ضربات من تحت الحزام، من “الزملاء” والمنافسين والحاقدين عليك ومن الطامعين فى مكانتك أو عطاياك أو موقعك أو منصبك.

ومن اجل ذلك حاول ان تدير أمورك ومصالحك بحنكة، وغطى نفسك أولا بأول. ولا تترك امور البيزنس والسبوبة، بدون غطاء قانونى، حتى لا تكون كبش فداء لو انكشفت الأمور.

فالسلطات تحتفظ لكل منا بملف يحمل كل أسراره وأخطائه وهفواته، ليخرجوها له وقت الحاجة. وانت تعلم انه لا يوجد قانون فى البلد يمكن أن يحميك فيما لو قررت السلطة التضحية بك. فتليفون صغير يقعد اكبر شنب فى البيت، واغنى رجل اعمال يمكن أن يتخرب بيته بجرة قلم.

واحرص من جهة أخرى على رصد  أكبر قدر ممكن  من الفضائح و الأسرار عن أعدائك ومنافسيك واحتفظ بها لتستخدمها وقت اللزوم.

ولو تغير العصر والأحوال أو مات الملك أو هبت عاصفة شديدة، فإنحنى لها فورا. وحاول أن تركبها وتتوافق معها؛ وغير كلامك ومواقفك، وانقلب على سيدك القديم، واظهر ولاءك للجديد. لا تهمك فى ذلك سمعتك او مصداقيتك ولا يهمك رأى الناس. المهم الوحيد هو رضا السلطة الجديدة أو السيد الجديد.

وتأكد انك ستكون موضع ترحيب، فكل السلطات متشابهة، تكره الحرية والديمقراطية والمعارضة و النقد، كلها مستبدة حتى النخاع. وكلها تحتاج أشخاصا مثلنا، نحن معشر المنافقين المحترفين. ولذلك يطلقون علينا “رجال لكل العصور”.

ولكن لا قدر الله، لو فشلت مساعيك ووقعت. فنصيحتى لك أن تلتزم الصمت. وإياك ان تعترف على السلطة او على اى من مؤسساتها او رجالها. أرأيت كيف تحمل مبارك ورجاله البهدلة والسجن بدون أن ينطقوا بحرف واحد عن المطبخ وأسراره؟ وكيف كوفئوا على ذلك بإخراجهم من كل التهم كالشعرة من العجين؟ ان الدولة لا تترك رجالها ابدا.

***

ابنى العزيز، كانت هذه هى وصيتى لك، كمنافق قديم و محترف، ذكرت لك فيها خلاصة الصنعة التى تعلمتها وخبرتها فى حياتى على امتداد أكثر من نصف قرن، أما التفاصيل فسأتركها لاجتهاداتك وإبداعاتك.

محمد سيف الدولة

Seif_eldawla@hotmail.com

 

اترك تعليقاً