الأرشيفعربي وعالمي

روسيا بين حرب دفاع اللحظة وجدارة القرار التاريخي – د. عادل سماره

إخراج روسيا من استخدام نظام سويفت هو جزء من حرب الإمبريالية وتوابعها الجارية حالياً ضد روسيا وهي حرب مزدوجة:​​

  • الاقتصادية حيث عزل روسيا عن سويفت هو جزء منها وهذه ستكون حربا ممتدة، بل هي سابقة على الأزمة الحالية وأكثر.
  • العسكرية التي بدأتها أوكرانيا تدريجيا بقرار امريكي دون مشاركة امريكية، مما اضطر روسيا لدخول أوكرانيا.

لا تكمن أهمية نظام سويفت في ترتيباته الذاتية كعمل إداري مالي أو تسهيل للأعمال المالية على صعيد عالمي بقدر ما تكمن في أمرين:

الأول: حجم تبادل كل دولة في هذا النظام أي حدود استخدامها له حيث أن قوة أي اقتصاد هي بمقدار حاجة السوق الدولية له.

والثاني: كون الدولار هو الأداة النقدية الأهم في العالم فاكثر من ستين بالمئة من المبادلات الدولية هي بالدولار.

وعليه، فإن لهذا النظام الإداري الترتيبي وقع أكثر على الدول التي لها دور ناشط في السوق الدولية بينما ربما الدول الفقيرة والصغيرة لم تسمع به بعد!
ومن هنا، فإن إخراج روسيا من نظام سويفت لا شك سيؤثر عليها وخاصة لأن لها مبادلات مع مختلف الدول  ومنها الدول الغربية المعادية لروسيا.
وهذا يفتح على أمر مهم وهو أن روسيا دولة رأسمالية منخرطة في النظام الإقتصادي الدولي. أي ان روسيا اليوم في علاقتها بالنظام الرأسمالي العالمي  ليست الاتحاد السوفييتي أيام ستالين. لكن انخراطها في هذا النظام وعلاقتها القوية بازدياد مع الصين تجعلان حاجة بقية العالم وخاصة الغرب لهما حقيقية وعميقة، وسترون بأنها كالعشق المتأصل الذي لا يلبث أن يعود.
 يمكن لروسيا التغلب على قطع سلاسل التوريد الغربية عبر فتح شركات لها في الصين باسم صيني كما تفعل الصين في هونغ كونغ تلافيا لتسمية الشركات باسمها هي ناهيك أن بوسع روسيا اعتماد بديلها لسويفت وكذلك الذهب والعملات المشفرة والتبادل المباشر…الخ هذا دون أن نذهب إلى استيعاب الصين للكثير من منتجات روسيا.

منذ أكثر من عشر سنوات والدولتان الأساسيتان في بريكس تعملان على إنشاء مؤسسة نظيرة لصندوق النقد الدولي وعملة بديلة للدولار.
وتجنباً لأي عقوبات اقتصادية من قبل نظام “سويفت”، اتجهت روسيا لإنشاء نظام مالي جديد تحت مسمى  Spfs في العام 2014 (Russian SPFS (System for Transfer of Financial Messages)
  عندما هددتها الولايات المتحدة بالطرد من نظام “سويفت” عبر فرض العقوبات. ونفذ النظام أول معاملة ناجحة له في العام 2017 ولديه الآن أكثر من 400 مؤسسة مالية في شبكته، وتسعى روسيا إلى ضم حلفائها لهذا النظام، وهو من بين أفضل خمسة صناديق نقل في روسيا ورابطة الدول المستقلة المشغلين. كما انشأت الصين ايضا نظامها CIPS (Cross-Border Interbank Payment System), )
وطالما قررت امريكا وتابعتها أوروبا قطع علاقة روسيا بنظام سويفت وطالما أن روسيا بصدد ضبط سلوك اوكرانيا بالقوة فلا شك أنها تتوقع عدوان اقتصادي عليها وبالتالي من المنطقي أن تكون قد أعدت الاحتياطات المناسبة  أو ما تقدر عليه.
سويفت هو منظمة عالمية مؤلفة من مجموعة مؤسسات مالية مقرّها بلجيكا، تأسست في العام 1973 عندما اجتمع 239 بنكاً من 15 دولة لإيجاد طريقة موحدة للتحويلات المالية العابرة للحدود. لكن لافت ان مقرها بلجيكا وبلجيكا وحش إمبريالي صغير لكنه دموي كما فعل في إفريقيا ولذا جرى اختيار بلجيكا كمقر إداري للغرب العدواني أي قيادة الناتو. اي هي قاعدة هامة في أوروبا الغربية للمعسكر الغربي يمكننا تسميتها المكتب الإداري للتخطيط العدواني الناتوي العسكري ، كما أن سويسرا إمبريالية المال المنهوب والمحمي.
صحيح ان روسيا لديها منتجات ريعية، ولكن العالم بحاجة قاتلة لها اي للقمح والنفط والغاز وهذه منتجات لا يسهل توفيرها من خارج روسيا ولا التحول لإنتاجها سريعا إن كان ذلك ممكنا هنا أو هناك. كما أن النفط والغاز هي حاجة يومية لكل منزل  ومشفى ونادي وسيارة…الخ أما القمح فلا داع للتفصيل. إن الحرب الاقتصادية في توسع  متدحرج كل ساعة  ككرة الثلج إضافة إلى  إمطار أوكرانيا بالأسلحة حتى من “الحكومات غير الحكومية” اي الدول الإسكندنافية والدنمارك من بينها، وهو إسم اطلقته عليها عام 1991 (في كتابي التنمية بالحماية الشعبية 1991) حيث تم اعتمادها لتسهيل تسريب أموال الأنجزة المرتبطة بأنظمة الدول الإمبريالية لاختراق بلدان المحيط تحت غطاء أن حكوماتها أقل عداءٍ للعالم ، أو عدائها  مخفي، من حكومات المركز الإمبريالي، بل وانضمت للعدوان الاقتصادي حتى سويسرا التي يعتقد البعض بأنها محايدة بينما هي في خطورة دولة إمبريالية عظمى من حيث تخصصها في غسيل “شرعي” لأموال الفاسدين والمافيات من العالم الثالث خاصة أي هي آلية شفط الأموال المسروقة على صعيد عالمي وقد تمكن المركز الغربي من تسهيل مهمتها بما يسمى “سرية الحسابات” هي إمبريالية المال.ولا شك أن سويسرا لا تخفي هذه الأموال تحت البلاطة.

لم تتضح بعد قدرة هذا النظام   (Spfs)على تعويض الحصار الذي جرى تطبيقه ضد روسيا، ولكن ما يجري على الأرض هو توسيع التبادل بين روسيا والصين بالعملات الخاصة بهما وهذا يشكل حماية قوية لهما. ولا يمكن المرء التقليل من تاثير (أي التأثير على المركز الإمبريالي العالمي) التبادلات البينية بين دول كبرى بعملاتها أو بعملة جديدة ستقومان بسكها عاجلا أو آجلا كما اشرنا،  وهذا يتضح من قرار الإمبريالية الأمريكية احتلال العراق ومن ثم ليبيا بعد أن قرر الشهداء، رغم أنف العملاء، صدام والقذافي وقف بيع النفط بالدولار.

كما أن عزل روسيا سيقود عمليا إلى خسائر ايضا لمختلف الشركات الغربية المتعاملة مع روسيا والتي عليها قيودا وضمانات وتعهدات …الخ لروسيا مما سيقود إلى تحايل مصلحي لعديد الشركات على هذا القرار العدواني. حيث لم تغلق واشنطن الأجواء الأمريكية أمام الطائرات الروسية، وتواصل شراء النفط الروسي. بل إنه منذ اليوم الأول لقرار إخراج روسيا من سويفت بدأت تتضح تفلُّتات كثير من الشركات الغربية من ذلك مما يكشف حقيقة أن قرار السياسي لا يمكنه ان يحكم مصالح الرأسمالي وخاصة في عصر تتركز القرارات بايدي رجال الشركات فوق قرارات رجال السياسة.

نذكر هذا كي نضيىء عليه بعاملين:

الأول: أن المقاطعة والحرب الاقتصادية هي في الأساس اختراع رأسمالي غربي حيث مورست ضد الاتحاد السوفييتي فورا بعد انتصار الثورة البلشفية عام 1917 ومن هنا اسموا الاتحاد السوفييتي والكتلة الإشتراكية لاحقاً دول الستار الحديدي مع أن من أقام الستار هو الغرب نفسه. وفي عام 1918 قام الغرب بغزو الاتحاد السوفييتي بمليون ونصف جندي من 14 دولة إضافة لقوات القيصر والجنرالات البيض، وهُزموا جميعا بعد عامين من الحرب وبالطبع استمرت الحرب الاقتصادية كحصار حربي وهو ما قاد إلى ابتكار السوفييت سياسة الاعتماد على الذات اقتصادياً وفك ارتباط البلاد بالنظام العالمي وهو ما قاد إلى تثبيت النظام الاشتراكي.

والثاني: فإن الاتحاد السوفييتي وخاصة في فترة ستالين قرر بنفسه عدم الانخراط في النظام الراسمالي العالمي  وقرر إشراف الدولة على التجارة الخارجية والأهم أن المصرف المركزي الروسي بقي خارج صندوق النقد الدولي وخارج هيمنة بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي إلى أن قاد الاتحاد السوفييتي المرتد خروتشوف ثم العميل جورباتشوف.

التحدي وتجربة التاريخ

ما ذكرناه أعلاه، هو الاشتباك القائم بين روسيا وأصدقائها من جهة  وبين الإمبريالية وتوابعها من جهة ثانية. لكن هذا الاشتباك يشترط على روسيا والصين مراجعة مواقفهما بل سياساتهما الاقتصادية الاجتماعية مجدداً وهي مراجعة بالطبع ليست سهلة خلال الاشتباك، كما أنها عملية او سيرورة تأخذ وقتاً وليست مجرد قرار رسمي بين ليلة وضحاها، هذا إذا اتخذت القيادات ذلك القرار .
والقرار تغيير في البنية الاقتصادية وطبعا الاجتماعية أي في مجمل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية من حيث علاقتها بالنظام الراسمالي العالمي وصولاً إلى أو عودة إلى النظام الاشتراكي.
وهذا يفرض مباشرة السؤال: وهل النظامين في البلدين مرشحين للانتقال أو العودة إلى هذا التوجه؟
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التحدي الحاصل اليوم والذي سوف يواصل حشر النظامين في البحث عن بديل ما.
أي هل سيتطور خلال الصراع ونظراً لشدة الصراع مع الإمبريالية، موقف يدعو إلى تجاوز الرأسمالية في هذين البلدين؟ وهل هذا أمر سهل بعد تجذر اصحاب الطريق الراسمالي في كلا البلدين؟ وهم من أسماهم ماوتسي تونغ   The Capitalist Roaders طرائقيو راس المال.
وهناك بالمقابل وجود وتنامي تيار شعبي يرى في تجاوز الرأسمالية ضرورة اجتماعية ووطنية للبقاء وتاريخية للاستمرار؟
اللحظة الحالية لا تُغري قيادات البلدين  بتبني مثل هذ التوجه، إن كانت معه اساساً. ولكنها قد تسمح لكلا التيارين بطرح أو الترويج لرؤيتيهما.
إن الأزمة الحالية ليست في صالح طرئقيي رأس المال لأنه ما من أحد بوسعه الدفاع عن حسن نوايا الناتو وقد وصل حدود روسيا وداس مختلف تعهداته بعدم وصول الحدود الروسية. فهذا الوصول هو إعلان العداء لروسيا بل ممارسة الحرب ضدها ، ومن ينكر ذلك من الروس يصطف ضد الوطن.
قد يقول مضادو راس المال: ها قد ذهبنا إلى الراسمالية وها هي الرأسمالية تحاول احتلال وطننا!

وتجدر الإشارة إلى فارق هام فيما يخص الشارع في الغرب كمركز والمحيط ومن ثم روسيا والصين. فالشارع الغربي يلتف حول أنظمته لأنه يتمتع بفائض القيمة التاريخي والجاري الذي نهبته أنظمته خلال فترة الاستعمار واليوم التبادل اللامتكافىء وحتى الاحتلال المباشر ناهيك عن الثقافة العنصرية وزعم التفوق الأبيض…الخ.أي أن اليسار الحقيقي ضئيل جدا في بلدان المركز.
وبالمقابل، فإن الشارع في العالم الثالث غالباً ضد الغرب ولكنه يفتقر للأداة الثورية. ولا نريد أن نقطع بأن شارع الصين وروسيا كشارع بلدان المحيط، ولكن هو أيضاً يعاني من ضعف القوى الثورية التي وحدها تقود التغيير.

على أية حال، ليس هذا المقال للحسم والقطع بأن التحول عن الرأسمالية هو قيد الحصول أو التوجه لدى النظامين الروسي والصيني، ولكن الهدف هو طرح وجهة نظر في آلية التحول إذا ما توفرت القوة البشرية لتبنيها والحركة الثورية لتقودها وطبعا التحدي يحفز ذلك.

أولا: الانسحاب إلى الداخل: Internal Withdrawal إن الحصار المفروض ضد روسيا وحتى ضد الصين يدفع اي نظام وطني لإعادة التموضع داخليا، وللتحكم بالتجارة الخارجية وضبط الاستهلاك الترفي وخاصة من البلدان العدوة ومقاطعة منتجات الأعداء وخلق بدائل لها، وهو على ما يبدو قد اتجهت إليه روسيا منذ 2008 كما غرد مدفيديف مؤخراً حيث قال بأن روسيا ركزت على تطوير الزراعة والصناعة وبأنها مع الحصار الحالي ستركز أكثر على هذا التوجه. إن فرص هذا التوجه واسعة في بلدين ضخمين من حيث الموارد وخاصة روسيا. إن الانسحاب إلى الداخل يفرض تبنيه بسبب ثلاثة عوامل:
حصار من الأعداء
قرار حكومي سلطوي بالرد على الحصار بتنمية الموارد، وتغييب منتجات الأعداء من السوق
تفاعل شعبي مع ذلك ، أو إضطرار للتفاعل في غياب منتجات الأعداء وهنا يكون الاضطرار من الطبقة المترفة الشرهه استهلاكياً.
ثانيا: التنمية بالحماية الشعبية Developent by Popular Protection: ونقصد هنا تبني وتمثُّل الطبقات الشعبية لحماية اقتصاد البلد عبر مقاطعة مبدئية واعية لمنتجات الأعداء والانخراط في عملية تنموية وتعاونية شاملة حيث تُقاطع السوق الراسمالي مقاطعة ذاتية وخاصة إذا لم تقم بذلك السلطة. وبهذا يتكون في البلد سوقين لنظامين:
–          السوق الراسمالي الذي تتبناه السلطة
–          والسوق الوطني باعتماد قانون قيمة وطني تتبناه الطبقات الشعبية وطبعا بوجود قوة سياسية منظمة تمارس التوعية والتخطيط لهذا التوجه بما في ذلك الاستهلاك الواعي إنتاج الأساسيات، …الخ وكل هذا تمهيدا لفك الارتباط.
ثالثاً: فك الارتباط De-Linking: إن الوصول إلى فك الارتباط مشروط بتوفر الشرطين او العاملين أعلاه. أي الانسحاب إلى الداخل والتنمية بالحماية الشعبية حيث أن هذين الشرطين يُرغمان السلطة على مغادرة السوق الراسمالية العالمية وتبني فك الارتباط بما يتضمنه من وقف الواردات الأجنبية والترفية وتأميم المصارف وخاصة المصرف المركزي.
لماذا أطرح هذا السيناريو؟
بداية، فقد إتضح من تجربة كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية أن القرار الدولاني من أعلى بفك الارتباط (من لينين إلى ماو)  قد تم التخلي عنه بقرار دولاني من أعلى (من خروتشوف/جوباتشوف إلى دينغ هيساو بينغ). ولذا توصلت إلى القناعة بأن فك الارتباط يجب ان يكون شعبيا لا دولانيا لكي يصمد وهو ما طرحته في كتابي  Beyond de-linking:Development by Popular Protection vs Development by State, Chapter 7 p.p. 159-174 , كما يمكن للقارىء العودة إلى مقالي في  (
https://kanaanonline.org/en/2017/08/14/amin-bets-on-the-state-for-development-great-goal-but-blunt-tool-by-adel-samara/

  )النقدي للرفيق الراحل سمير امين فيما يخص دور الدولة وخاصة مقاله في  (Published in the Journal of Labor and Society (Volume 20, Issue 1 March 2017  Pages 7–22, URL:  http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/wusa.12276/full

● ● ●