عربي وعالمي

صفقة الغواصات (الإسرائيلية) فضيحة أم مفخرة – د. مصطفى يوسف اللداوي

لا نفرح كثيراً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وبعض معاونيه ومستشاريه الأمنيين والعسكريين، سيخضعون أمام الشرطة للتحقيق، وستوجه إليهم تهمٌ بالفساد أو الرشوة، أو بالاستفادة الشخصية والمنافع الخاصة، على خلفية صفقة الغواصات الألمانية، وقد تثبت التهمة ضدهم، وقد يدان أحدهم ويحاكم أو يسجن ويغرم، وقد يحرم من امتيازاته أو يجرد من ألقابه، وقد يقصى من وظيفته ويقال من منصبه، وقد تتناوله وسائل الإعلام بالنقد والتجريح والأقلام بالتقريع والتوبيخ، لكنهم في نهاية المطاف سيبدون أبطالاً، وسيحفظ التاريخ فعلهم، وسيذكر الإسرائيليون فضلهم، إذ أفادوا كيانهم وخدموا شعبهم، ونجحوا في إبرام صفقةٍ كبيرةٍ تحمي دولتهم وتعزز وجودهم، وتجعل منهم قوةً ضاربةً تملك سلاحاً فتاكاً وقدرةً على الردع كبيرة.

ذلك أن صفقة الغواصات الألمانية الثالثة، التي اشترت بموجبها الحكومة الإسرائيلية مجموعة غواصاتٍ جديدةٍ من نوع “دولفين” الاستراتيجية الألمانية الصنع، القادرة على حمل صواريخ نووية، والتي تستطيع أن تجوب البحار العميقة والمحيطات البعيدة، والبقاء طويلاً تحت الماء بعيداً عن أجهزة المراقبة وكاميرات التصوير ومجسات المتابعة الالكترونية، الأمر الذي يجعل منها منصاتٍ نوويةٍ عائمةٍ، تكون قادرة على إطلاق صواريخ تحمل رؤوساً نووية، وتوجيه ضرباتٍ نوويةٍ استبقاقيةٍ أو انتقاميةٍ ضد أهدافٍ معاديةٍ، بعيدةٍ أو قريبةٍ من حدودها، ولكنها ترى أنها تشكل خطورةً على أمنها الاستراتيجي ومستقبلها الوجودي، في الوقت الذي قد يعجز الخصم عن تحديد مكانها ويفشل في استهدافها.

الشرطة الإسرائيلية التي فتحت ملفات تحقيقٍ واسعةٍ بحق ضباطٍ عسكريين كبارٍ، وأعلنت عن استدعاء البعض وتوقيف آخرين، لن تغفل في معرض إدانتها للمتهمين عن واجب شكرهم وتقديرهم، ولن تجعل التهمة تطغى على حق الاعتراف بالفضل، ولن تقبل أن يحبط أحدٌ عملهم، أو أن يجردهم من حُسن النية وصدق العمل من أجل سلامة كيانه وقوة جيشهم، وضمان وجودهم وتحصين مناعتهم الداخلية والخارجية معاً، فما قاموا به من وجهة نظرهم يستحق الشكر والتقدير، والعرفان والوفاء، وإن شاب صفقتهم بعض العور، ودارت حولها شبهاتُ فسادٍ أو رشوةٍ، ولكن هذه الملاحظات التي تفرضها الشفافية والنزاهة، لا تسقط حقهم ولا تغفل فضلهم، بل سيبقون دوماً يستحقون الشكر من مواطنيهم، والتقدير من ممثليهم، ولعل سقطات شيمعون بيريز الكثيرة لم تغمط حقه ولم تغفل دوره في بناء القوة النووية الأولى لكيانه.

أما الجانب الآخر للقضية التي باتت تعرف بـــ”ملف 3000″، الذي يخرجها من إسار الفضيحة إلى فضاء الفخر، فهو أنها أثبتت من جديدٍ أنه لا أحد في هذا الكيان – وإن كان لنا معادياً- فوق القانون، فالكل مهما علت رتبته وسما منصبه متهمٌ حتى تثبت براءته، فرئيس حكومته يُتهم ويُساءَل ويُحقق معه، وزوجته تتهم وتمثل أمام ضباط الشرطة للتحقيق، وتخضع لجهاز كشف الكذب، علماً أن ملف التحقيق ما زال مفتوحاً، والاستجوابات مستمرة والتوقيفات لكبار الضباط لا تتوقف، ولا حصانة للمسؤول الأول، ولا مظلة أو حماية منه لموظفٍ، رغم أن الصفقة قد تمت بنجاحٍ، ورفعت من مستوى الجاهزية العسكرية الإسرائيلية، وحققت التفوق النوعي والسبق الاستراتيجي لجيشهم، إلا أن هذا النجاح لا يعني الصمت على الخطأ.

مئات الإسرائيليين ممن لم تسكرهم خمرة النجاح، يتجمعون كل يومٍ في مناطق مختلفة، يطالبون بالتعجيل في التحقيق مع رئيس حكومتهم، والكشف عن الأدلة المتوفرة لديهم، ويصرون على وجوب الاستمرار في التحقيقات وكشف كل الملابسات، وعدم التوقف أبداً بحجة حساسية الملفات وخصوصية الشخصيات، أما النجاح في إبرام الصفقة فلا يعنيهم كثيراً أمام تهم الفساد وسوء الإئتمان، واستغلال المنصب والاستفادة من التسهيلات وتوظيف المعلومات وتسريب الأسرار، وفتح ثغراتٍ للسماسرة والتجار المستفيدين.

لا يحق لأحدٍ فينا أن يتحدث عن فضيحة صفقة الغواصات الإسرائيلية، أو أن يتشفى بهم ويشفي غليله من كبار ضباطهم وعلية قادتهم، إذ بقدر ما تبدو هذه القضية لدى العدو الإسرائيلي فضيحة مخزية، وقضية فساد كبيرة، ورأي عامٍ حيٍ وضاغطٍ، فإنها تكشف عن عمق المرض لدينا، وعن استشراء الأزمات فينا، فنحن أضعف من أن نواجه، وأجبن من أن نفتح ملفاتٍ للتحقيق مع الكبار، ومحاسبة المسؤولين، ومعاقبة المرتشين، ومحاكمة الفاسدين.

أمام هذه الحقائق التي نراها ونسمع عنها كل يومٍ، وتكاد تصدمنا بشفافيتها وجديتها، وتصفعنا بجرأتها وقوتها، وتذهلنا بمستوياتها وشخصياتها، هل يحق لنا أن نشمت في عدوٍ ملَّكَ كيانه سلاحاً، وزود شعبه بقدرةٍ فائقةٍ تحميه، وحصَّن وجوده بسلاحٍ رادعٍ يقويه، ونبدي فرحتنا بمحاكمة مسؤوليه، وشماتتنا في مساءلة قادته، وننتظر من قضائه أن يصدر في حقهم أحكاماً تذلهم وتهينهم، وتقسو عليهم وتردعهم.

هل يحق لنا الشماتة والفرح في الوقت الذي نعجز فيه عن حماية كياناتنا الصغيرة، وتحصين بلادنا الضعيفة، وتعزيز صمودنا الهش، واستعادة حقوقنا الضائعة وتحرير أرضنا المحتلة، وتطهير مقدساتنا المستباحة وقدسنا السليب، في الوقت الذي تبرم فيه صفقات السلاح العربية بمليارات الدولارات، التي يستفيد منها السماسرة وتجار السلاح ومصانعه الأمريكية والغربية، بينما لا تستفيد منه الشعوب العربية ولا تنتفع به، اللهم إلا في قصفها وتدميرها، وتركيعها وإذلالها.

هذه الصفقات الكبيرة المهولة، الفلكية الأسعار المخيفة الآثار، لا تبرم لقتال “إسرائيل”، وهذا السلاح لا يشترى لحربها أو مقاومتها، ولا يخزن لتحقيق التوازن، ولا يستخدم لخلق التفوق، وإنما يشترى لتحصين الأنظمة البالية وحماية الحكومات الخربة، وبقاء الملوك والرؤساء والقادة والحكام في مناصبهم لسنواتٍ أطولٍ، بقوة الدبابة التي تسحق المواطنين، والبندقية التي تخترق صدورهم وتستقر في قلوبهم، والأسلحة التي تجدد لسحق كرامتهم وإهانة كبريائهم.

في بلادنا مجرمٌ من يتهم الحاكم، وخائنٌ من يشك في النظام، وعميلٌ من يعارض، والويل كل الويل لمن يطالب بالمحاسبة أو يدعو للمسائلة، أو يشكو من وجود شبهاتٍ أو ظهور ملامح منفعةٍ شخصية أو رشواتٍ ماليةٍ، فحكامنا هم الطهر عينه، وقادتنا هم الحكمة ذاتها، وكلامهم الصدق وحكمهم العدل، وغير ذلك كفرٌ وتجديف، وزندقةٌ وردةٌ، وخيانةٌ وعمالةٌ، يستحق مرتكبها السجن والرجم والسحل والشنق حتى القتل، فهل أن التحقيق في صفقة الغواصات الإسرائيلية فضيحةٌ لهم، أم هي مفخرةٌ بحق.

 

بيروت في 4/9/2017