الأرشيفعربي وعالمي

عسكر السودان……في السياسة والحكم – زهير كمال

بعد ثورة شعبية ناجحة أطاحت بحكم ديكتاتوري فاسد جثم على صدر السودان لمدة 30 عاماً، والمفترض خلال فترة طويلة مثل هذه أن يرتقي السودان فيها الى مصاف الدول الكبرى نظراً  لما يحتويه من ثروات طبيعية ومعدنية ضخمة، إضافة الى شعب ذكي تواق للنهوض والتقدم. وجدنا على الطبيعة انقسام البلد الى قسمين تقاتلا على فتات الثروة البترولية، أضف الى ذلك ثورات وقلاقل كردفان ودارفور والتي انحاز فيها النظام إلى طائفة من الشعب ضد طائفة أخرى. قتل كثيرون خلال هذه الفترة وبقي السودان يراوح في خانة الدول الأكثر فقراً في العالم.

وبدلاً من تشغيل الجيش في المشاريع التي يحتاجها البلد وجدنا البشير يرسلهم الى بلد شقيق في اليمن ليقوموا بقتل شعبه ولُيقتلوا، وربما لم يكلف النظام نفسه إرجاع جثثهم الى ذويهم، كل ذلك مقابل حفنة من الدولارات يضعها في خزائنه الخاصة.

كان المفترض أن يتسلم السلطة هؤلاء الثوار الذين قدموا التضحيات والضحايا، ولكن هذا لم يحدث، فقد برز فجأة دون مقدمات تكنوقراط قادم من أمريكا، لا علاقة له بالثورة والثوار، اسمه عبدالله حمدوك، تم اختياره ليصبح رئيساً للوزراء. وكانت هذه هي الغلطة الاولى التي ارتكبتها القوى الثورية ومن بينها قوى الحرية والتغيير.

لم يستمع حمدوك ( قدّس سره )[1] الى النصائح التي قدمت له بأن يتولى – وهو المدني – وزارة الدفاع وأن يحيل كل من يريد من العسكر الذين يريدون الانضمام إلى مجلس السيادة الى التقاعد، وأن يعين قادة جدداً للجيش وإحداث تغييرات هيكلية فيه بضم قوات الدعم السريع اليه.

يومها كان بإمكانه فعل ذلك، فهو يتكلم باسم الثوار ويستطيع فرض شروطه على الجميع بمن فيهم العسكر الذين كانوا في أضعف لحظاتهم وأيديهم ملطخة بدماء شهداء الثورة المنتصرة. وبعد أن قويت شوكة العسكر خلال المرحلة الانتقالية وقبل نهايتها طردوا حمدوك، فلم يعودوا بحاجة الى قنطرة للحكم، ولم نعد نسمع عن الرجل منذ ذلك الحين، فقد انتهت مهمته.

عدد لا بأس به من الأنظمة العربية تدار من خلف ستار بواسطة أجهزة المخابرات الغربية التي تستعمل أحدث العلوم في كيفية إدارة دول العالم الثالث وفي علم سيكولوجية الجماهير، وعسكر السودان حديثو عهد بالحكم، كانت وما تزال تنقصهم الحنكة السياسية ولكن لاحظنا اختيارهم التوقيتات المناسبة في الفعل ورد الفعل.

مثل هذه المقدمة ضرورية لفهم ما يجري في السودان حالياً.

تصدى الشعب السوداني وقواه الحية الى انفراد العسكر بالحكم، واستمرت المظاهرات المناوئة لحكم العسكر لفترة طويلة واستمر قتل المتظاهرين.

كان بإمكان قوى الحرية والتغيير الصبر مدة أطول لفرض رجوع العسكر الى ثكناتهم بدون مفاوضات، ففي قرارة أنفس العسكر أنه لا يحق لهم أن يكونوا في السلطة فقد تسلقوا إليها دون أن يبذلوا أي جهد للحصول عليها.

بدأت تصريحات متناغمة من العسكر، أنهم لا يريدون السلطة وأنهم كانوا مرغمين على ملء الفراغ، وأنهم في أشد التوق للرجوع الى ثكناتهم ولكن تعالوا نتفاوض. هذه أغرب تصريحات تصدر من عسكر منذ فجر التاريخ والى يوم يبعثون، ولهذا أستبعد أن تكون من بنات أفكارهم.

استطاعوا خداع جزء كبير من قوى الحرية والتغيير وضمنوا لأنفسهم فترة انتقالية جديدة مدتها 24 شهراً يعززون بها مراكزهم، وبعد هذه الفترة سينقضون هذا الاتفاق لأوهى الأسباب، كما فعلوا في المرة الأولى مع حمدوك، وهذه غلطة أخرى تحسب على قوى الحرية والتغيير.

كان يراد من السودان الاعتراف بإسرائيل، وقد تم الموضوع على مرحلتين:

في المرحلة الأولى قبل عامين تقريباً تم لقاء كل قادة العسكر بالوفد الإسرائيلي في الخرطوم، كان يراد قياس ردود الفعل على الخطوة، وقد كانت الردود على الحدث خجولة، وهذه هي الغلطة الثانية لقوى الحرية والتغيير، كانوا لا يريدون تعكير صفو المرحلة الانتقالية.

في المرحلة الثانية حضر وفد إسرائيلي رفيع المستوى يرأسه وزير الخارجية الإسرائيلي في الثاني من شهر فبراير عام  2023 ، بغرض استكمال التطبيع بين البلدين، ولوحظ هذه المرة أن الرجل القوي الثاني في النظام المدعو حميدتي لم يحضر اللقاء وتم تعميم ذلك بشكل صارخ على وسائل الإعلام.

لم يكن هذا تخطيط العسكر، فالبيادق لا تستطيع وضع خطط طويلة المدى، سيتم التخلص من البيدق الأول بعد أن أدى مهمته في إرساء خطوات التطبيع، أما البيدق الثاني فيستطيع إكمال المهمة دون تعكير. ( تمت تجربة ذلك مسبقاً مع السادات ومبارك).

مأساة العالم العربي أن شخصاً واحداً (أو عدداً بسيطاً) يستطيع قلب توجه الدولة من أقصاه الى أقصاه، من حالة عداء الى حالة سلام. من ( لا صلح ولا اعتراف) استمر لأكثر من 70 عاماً الى تبادل القبلات والتنسيق المتبادل.

غلطة أخرى من قوى الحرية والتغيير في عدم التصدي للبرهان بقوة فهو يخالف الاتفاق الإطاري الذي وقعه معهم، ولا يحق له عقد صفقات من وراء ظهر الشعب السوداني، وهو الذي يدعي أنه عائد للثكنات.

الخلاصة: عدم توحد قوى الحرية والتغيير في جسم واحد له رأس واحد ناطق باسمه وله برنامج سياسي واضح من أهم بنوده إرجاع العسكر الى الثكنات، ساهم الى حد كبير في خداعهم ولدغهم من نفس الجحر عدة مرات.

سيظل السودان يدور في حلقة مفرغة نظراً لعدم وجود قوى جماهيرية وأحزاب تتقن اللعبة السياسية وتمتلك التصميم والإرادة اللازمة لتحقيق تطلعات الجماهير في حياة كريمة.   


[1] ليس بالضرورة أن يكون تقديس السر من الله في هذه الحالة