الأرشيفعربي وعالمي

في سيكولوجيا انتفاضة اكتوبر العراقية – د.عامر صالح

بدون شك أن ما يجري في العراق اليوم هو أنتفاضة سلمية تعكس اخلاق شعب يحب الحياة ويبتعد عن حمامات الدم وازهاق الارواح, يطالب بحقه في الحياة الحرة الكريمة المشرفة والتي تليق بتضحياته عبر عقود من النضال ضد الدكتاتورية الفاشية ولاحقا ضد الاسلامويين السياسيين الذين سرقوا تضحيات شعب بكامله وشوهوا معالم وعية, في محاولة منهم لحرف ارادته وفرض خطاب الانفعالات المرضي بديلا عن خطاب العقل من خلال دائرة مغلقة في اللف والدوران والطقوس العصابية المأطرة بسلوكيات الهوس الديني في محاولات كاذبة لإمتصاص نقمة شعب قرر ان لا يسكت عن مهضوميته التاريخية.

أن انتفاضة شعبنا اليوم تجسد في حراكها ما ينسجم مع ادبيات الثورة العالمية, حيث ان الثورة هنا تقوم على خلفية التناقض الذي لا يحتمل الاستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة, والذي يفرز ظواهر الفقر المدقع, والتدهور للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية, والصحية, والتعليمية والخدمية والامنية بمختلف مظاهرها. ويكون الهدف المتوقع من الثورات والأنتفاضات هو إعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يفضي إلى إعادة توزيع الثروات بشكل منصف, وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية العامة والارتقاء بها.

 

ومن الناحية السيكولوجية فهناك عدة اسباب تدفع الناس للتظاهر, ولعل أبرزها هو: القيمة المتوقعة, أي ما يتوقع المتظاهرون الحصول عليه اذا نزلوا الى الشارع. والحرمان النسبي, أي شعورهم بأنهم يعاملون بطريقة أقل انصافا وعدلا من غيرهم. وكذلك الهوية الاجتماعية, أي انهم يتعاطفون مع افراد يشبهونهم او يشعرون بضرورة الدفاع عنهم. وسرعان ما تختلط المشاعر الناجمة عن الاسباب الثلاثة لتشعل شرارة الدافع, فتبدأ موجة الغضب مع تراجع شعور ” الذنب ” وتجلي فكرة أن لم يعد لدي ما أخسره بعدما خسرت كل شيء, أما بالنسبة للطبقة العاملة فهي أشد حماسا فهي لا تمتلك غير قوة عملها. كما أن طغيان السلبية على المشاعر الأولى المحركة للتظاهر لا يعني انها تسيطر بالضرورة على مشاعر المحتجين, فقد اثبتت العديد من الدراسات النفسية أن المحتجين بعدما يكسروا الحاجز النفسي الأول يولد لديهم شعور بالسعادة, سببها التواصل مع المحتجين الآخرين والعمل المشترك من اجل قضية واحدة والشعور بالأنتماء للمجتمع الأكبر, وقد جسدت احتجاجات اكتوبر العراقية المغزى السيكولوجي للمسار النفسي لطبيعة الفرد المحتج في السياق الاجتماعي.

 

لم تكن انتفاضة اكتوبر العراقية والتي امتد لهيبها الى محافظات العراق التسعة ذات التركيبة المذهبية الشيعية عملا عبثيا او نزهة استعراضية أريد به أراقة دماء الشباب, بل هي تراكم كمي لمجمل أزمة نظام الحكم المحصصاتي الطائفي والأثني السيئ الذي لم يعمل شيئ ايجابي خلال اكثر من عقد ونصف من الزمن, بل انه نظام منتج للأزمات واعادة تدوريها انطلاقا من طبيعته المافوية والمؤسسة اصلا على الأستئثار بالسلطة وتقاسمها والمبني على اساس المحاصصة المذهبية السياسية والعرقية المتخلفة التي تشتغل على اضعاف وتفكيك الوطن والمواطنة والأكتفاء في التمترس في الأطر الجغروطائفية والاثنية في فهم مريض منها ان ذلك يكفي لنيل الحقوق والاستئثار بالثروات الوطنية والافساد فيها. أن انتفاضة الوسط والجنوب ثم تضامن ابناء العراق كله هو تجسيد حي وانعكاس لأزمة الحكم الخانقة والتي لم توفر الحد الأدنى الانساني من الحقوق المشروعة والتي عكستها الحاجة الى الماء والكهرباء والصحة والتعليم الصالح وغيرها من مسلمات العيش المعاصر.

 

أن تجربة أكثر من عقد ونصف من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة للمنتفضين تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم, أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء, وأن شعارات اهلنا في المحافظات المنتفضة في الاستجابة الى المطالب الاساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي, واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية, في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش.

 

أن ما تعرضه منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان يجسد جزء من مأساة الشعب العراقي خلال ما يقارب العقد والنصف عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم” تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام “. مليونا أرملة” اعمارهن ما بين 15 و25 عاما”. ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة” تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار “.بلغت نسبة البطالة 31%” الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى”. 35% من العراقيين تحت خط الفقر” اقل من خمسة دولارات”. 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة” بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط”. 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.

 

وقد قدم شعبنا في حراكه السلمي منذ بداية اكتوبر ما لا يمكن توقعه في حراك سلمي مشروع بعرف القيم الانسانية او كما يرد في دستور العراق الذي يكفل حق التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي, وقد بلغ شهداء الأحتجاجات اكثر من 750 شهيدا وما يقارب من 30 ألف جريح, من بينهم اكثر من 700 اعاقة منتهية, وكذلك اكثر من 2500 معتقل. وقد استندت السلطات الحاكمة الى اعتمادها القمع الدموي الى افتعال ” نظرية المؤامرة ” التي تستهدف العراق كما ترويه السلطة الحاكمة, وهي تعرف تماما ان سيادة العراق منتهكة من دول الأقليم وأمريكا, وقد مارست السلطة في سلوكها اسقاطا سيكولوجيا لاحدود له في تحميل المحتجين عيوب النظام وامراضه المزمنة, فتوغلت في القتل والتصفيات الجسدية وممارسة شتى صنوف العنف واساليبه اللأانسانية.

 

اليوم نحن في العراق أمام واقع استطاع فيه الاسلام السياسي ان ينخر العملية السياسية ويشيع الفساد الاداري والمالي في كل مستوياته ويسعى جاهدا لتعزيز الخراب في ما تم تخريبه ويتشبذ في البقاء, وقد استفاد من لحظات انفعالات شعببنا بعد سقوط الدكتاتورية لكي يستثمر انفعالات شعبنا في وجهة اضطرابية مرضية صوب التعبئة الانفعالية الحشدية من خلال تحويلها الى قطعان في كل المناسبات الانتخابية منها وغير الانتخابية.

 

اليوم يخوض شعبنا مخاض في ترتيب أولويات مطاليبه من ماء وكهرباء وخدمات وايجاد فرص عمل واعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية المدمرة وايجاد فرص للعيش الكريم, الى جانب مطالب ذات بعد استراتيجي كما يراها شعبنا المتظاهر هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية, وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستور, واعادة النظر بقانون الانتخابات, واصدار قانون الاحزاب, الى جانب تشريع قانون النقابات والاتحادات, وقانون النفط والغاز, وقانون حرية التعبير, وقانون المحكمة الدستورية, وقانون مجلس الاتحاد, واعادة تشكيل مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهه, واعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن من نزاهته حقا.

 

هذه المطالب تضع حراك اكتوبر امام مسؤوليات صعبه ولايمكن تحقيق المطالب دفعة واحدة في ظل تعنت السلطات الحاكمة, وخاصة ان النظام السياسي بهياكله العامة يتمتع بشرعية دولية بأعتباره ” نظاما ديمقراطيا ” والمشكلة هنا هي مع الحكومات المتعاقبة على دفة الحكم, ومع موازين القوى السياسية في اللحظة الراهنة, وبالتالي فأن فن اجادة الصراع هنا مطلوب للحفاظ على المكاسب من جهة, ولتوسيع قاعدة الرفض المجتمعي لنظام المحاصصة من جهة أخرى.