الأرشيفثقافة وفن

كتاب “من يحكم العالم” للكاتب ناعوم تشومسكي ترجمة وعرض فهمي شُراب

 

يتكون هذا الكتاب من مقدمة وثلاثة وعشرين عنوانا بارزا ومثيرا للاهتمام، يعالج المؤلف تحت هذه العناوين العديد من القضايا المتعلقة بالولايات المتحدة الأميركية وشؤونها الداخلية، ومظاهر ضعفها وإرهاصات أفولها، وأيضا علاقاتها بدول المحيط الهادي ودول الآسيان، والدول الصاعدة، وأطراف الصراع العربي الإسرائيلي.
ويستدعي من التاريخ ما يعزز أطروحاته منذ القرن الثامن عشر حتى الوصول للحملة الانتخابية لدونالد ترامب والتعليق عليها، ومستقبل أميركا في حال فوزه.

أهمية الكتاب

يأتي هذا الكتاب ليكشف بالدليل عن العجز الأميركي أمام العديد من القضايا الداخلية والخارجية، ويرفع الستار بالشواهد عن تراجع الزمن الأميركي برمته، ويستمد هذا الكتاب أهميته من أهمية مؤلفه الشهير، الذي يعتبر قامة سامقة، لها بصمة واضحة في مسار نقد سياسات الولايات المتحدة الأميركية بشكل موضوعي وأكاديمي محترف، وهو أهم من وثقوا الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة.

وتعتبر كتاباته محل اهتمام واحترام كبيرين، كما يأتي هذا الكتاب ليعيد سبب تفشي مظاهر العنف وما يسمى “الإرهاب” للولايات المتحدة نتيجة سياسة التهميش والاستعلاء التي تتبعها تجاه الآخرين، وسياسة “الآذان الصماء” تجاه مطالب الأمم الأخرى، في الوقت الذي توجه أصابع الاتهام إلى دول المشرق العربي. و يرفض الكاتب فرض الولايات المتحدة نفسها قيماً على أقدار الضعفاء من الأمم الأخرى تحت عنوان “مسئولية الرجل الأبيض”.

من يحكم الولايات المتحدة؟

عندما نتساءل من يحكم العالم؟ -والقول لتشومسكي- يتبادر إلى الذهن الفاعلين في شئون العالم وهم الدول، وخاصة الدول العظمى بقراراتها وعلاقاتها البينية، هذه الإجابة ليست خاطئة، ولكن يتخللها كثير من التضليل والخداع.

فالدول لها تركيبة داخلية معقدة، وتتحكم في قراراتها واختياراتها القيادات السياسية الواقعة تحت تأثير قوى أخرى، لها نفوذ داخل تلك الدول، بينما التيار الشعبي في المعظم مُهمش، وهذا صحيح حتى في المجتمعات الديمقراطية.

لا نستطيع أن نعرف من يحكم العالم إلا إذا سلطنا الضوء على “أسياد البشرية” كما أسماهم رائد الاقتصاد السياسي الاسكتلندي “آدم سميث” في كتابه الشهير “ثروة الأمم” عام 1776 وهم “التجار وأصحاب المعامل والمصانع” في إنجلترا آنذاك، وفي أيامنا هذه “التكتلات والشركات المتعددة الجنسيات” والمؤسسات المالية الضخمة، والتي تقف خلف كثير منها قوى يهودية تتعارض أحيانا في أهدافها وتوجهاتها مع المصالح الأميركية!

في هذا النظام العالمي المعاصر، فإن مؤسسات “أسياد البشرية” وهم “أباطرة المال” تمسك بتلابيب سلطة كبيرة، تأثيرها ليس فقط في المجتمع الدولي، ولكن أيضا في داخل بلدانها حيث تحصل على الدعم، وتمنح في المقابل دعما اقتصاديا كبيرا نظير توفير الحماية اللازمة لها.

وحيوية تلك المؤسسات أو الشركات المتعددة الجنسيات تكمن في أنها تمتلك أكبر وأضخم وكالات الأنباء وشركات الإعلام والإعلان، وتمتلك شركات إنتاج الأفلام وصناعة السينما والتلفزيون، ودور النشر ومؤسسات صحفية، ومؤسسات قياس الرأي العام، أي أنها تملك إمكانية صياغة عقل ومزاج المواطن الأميركي. وتتعامل هذه الشركات مع المواطن على أنه سلعة تحاول صياغة مزاجه وتوجهاته، وتحاول غرس قيم سلوكية تتماشى مع متطلبات السوق والإنتاج، وتعمل هذه الشركات على تزييف وعي الشعوب وتقضي على مشاعر التعاطف والتضافر الجمعي بين أبناء المجتمع الواحد.

حسب تشومسكي، فإن الولايات المتحدة تشهد “ردة” في مسار حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، فالحرية أصبحت سلعة، والعقلانية قيمة تجارية، فالشعب الأميركي عندما يبحث عن حريته المقدسة، يعتبر حرية الآخرين ميتافيزيقيا لا تعنيه في شيء. ويؤكد أنه “إما أن نحصل على الديمقراطية أو نحصل على ثروة عظيمة مركزة في أيدي قلة، ولكننا لا يمكن أن نحصل على كليهما”. ويضرب مثالا بأن تركيا حليف مهم للولايات المتحدة، وعضو في الناتو، ولكن برلمانها عام 2003 رفض نشر قطع للجيش الأميركي وعبوره للعراق عبر الأراضي التركية، فكانت هذه الديمقراطية مستنكرة ومحل رفض واستياء أميركي، لأنها تعارضت مع مصالح الدولة الأميركية.

الشعب الأميركي المغيب

ويتحدث أيضا تشومسكي عن أن النخب الأميركية أصبحت معزولة وتأثيرها يتضاءل، وقد تم تحويل التيار الشعبي الأميركي إلى عنصر مستهلك يكره الضعفاء ويركن إلى اللامبالاة وإشباع الغرائز، ويعشق حياة الترف والتسلية وأنواع المتع، وأصبحت الكلمة العليا لكبار الشركات الخاصة والأغنياء. أما معظم النخب، فقد فقدت دورها الوطني الحقيقي، وأصبحت في خدمة رأس المال وأصحاب كبار الشركات والأغنياء.

ولأن السياسات النيوليبرالية (الليبرالية الحديثة) ركزت السلطة في حفنة من الأيدي متجاهلة الديمقراطية الفاعلة، فمعظم الناخبين لا يعرفون مضمون برامج المرشحين، ولماذا يصوتون لمرشح معين، لأنهم في النهاية أصبحوا أداة طيعة، يسهل توجيهها والتحكم فيها من قبل تلك الشركات المتعددة الجنسيات، وأصحاب رؤوس الأموال.

حسب تشومسكي، فان الولايات المتحدة تشهد “ردة” في مسار حقوق الانسان والحريات والديمقراطية، فالحرية اصبحت سلعة، والعقلانية قيمة تجارية، فالشعب الامريكي عندما يبحث عن حريته المقدسة، يعتبر حرية الاخرين ميتافيزيقيا لا تعنيه في شيء”.

ويرى تشومسكي أن الولايات المتحدة ستتعرض لمخاطر عديدة جراء سياستها الخارجية التي تشي بوقوع كارثة، فهي تقوم بتخريب القواسم العالمية المشتركة، ويسوق تشومسكي أمثلة كثيرة منها؛ تعزيز النزعة الفردية الأنانية، وإعداد برامج الاغتيالات بالطائرات بدون طيار، والتهديد بحرب نووية، ثم قضايا العراق وأفغانستان، وقبل ذلك فيتنام وهيروشيما، والرفض العالمي المتنامي للولايات المتحدة بسبب سياستها العدائية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

صعود دونالد ترامب

تحت عنوان “الانهيار الأميركي.. السبب والتداعيات”، يقدم تشومسكي تحليلا عميقا وثاقبا حول طبيعة الهيمنة الأميركية الحالية، والتي تقوم على انحرافات في القيم والمبادئ، والتي تعتمد على التمدد العسكري وانتشار قواتها حول العالم، والتلويح بالخيارات العسكرية دون بذل جهد دبلوماسي، ولكنها ومن خلال هذه السياسات لا يمكن أن تستمر كقوة إمبريالية، وأيضا بسبب رعايتها لبؤر التوتر في العالم العربي والإسلامي، ودعمها لأطراف النزاع من أجل بيع السلاح والسيطرة على الدول المتناحرة، وتدمير القواسم المشتركة بين الدول وعدم احترام الشعوب الأخرى وخصوصياتها.

ويفند تشومسكي في كتابه أسباب نمو شعبية مرشح الجمهوريين لرئاسة الولايات المتحدة دونالد ترامب بين الناخبين معللا ذلك بالخوف الذي يتملك الأميركيين من المستقبل ومن المجهول، وجهلهم بالسياسة الخارجية وتداعياتها على الداخل، إضافة إلى الانهيار المجتمعي والخوف من مرحلة ما بعد الليبرالية، فالناس يشعرون بأنهم معزولون وعاجزون، وأنهم ضحية القوى المسيطرة التي لا يفهمونها، ولا يستطيعون التأثير فيها.

ومن خلال تحليله المقارن، يؤكد أن الظروف التي تسوق الناخبين باتجاه ترامب هي نفسها التي كانت وراء صعود الفاشية في القرن الماضي، كما أن الولايات المتحدة لن تبقى إمبراطورية في ضوء ما ستشهده من تصدعات وسط عالم متغير تسطر ملامحه الهبة الروسية ونيران الشرق الأوسط، وتوترات في شرق وجنوب بحر الصين، واقتصاد مرتهن للأزمة في سوق النفط.

أميركا ومعاناة الشعوب

تحت عنوان فرعي “النخبة.. صنفان” يؤكد تشومسكي أن قناعات الولايات المتحدة الحالية لها جذورها التاريخية، حيث شرعن الرئيس الأميركي “وودرو ويلسون”(1856-1924) الحروب في سبيل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الليبرالية. وتحاول الولايات المتحدة توظيف مقدراتها العسكرية وفائض السلاح تجاه مناطق النزاعات والصراعات التي ساهمت في اشتعالها بنيران الفتن الطائفية والحروب، حيث تتصدر الولايات المتحدة رقم واحد في قائمة الدول المصدرة للسلاح.

“يؤكد تشومسكي ان الظروف التي تسوق الناخبين باتجاه ترامب هي نفسها التي كانت وراء صعود الفاشية في القرن الماضي. كما ان امريكا لن تبقى امبراطورية في ضوء ما ستشهده من تصدعات وسط عالم متغير تسطر ملامحه الهبة الروسية ونيران الشرق الاوسط، وتوترات في شرق وجنوب بحر الصين، واقتصاد مرتهن للازمة في سوق النفط”.

وقد شرعنت لنفسها ما أسمته الحروب الاستباقية وحق التدخل، مطوعة ما جاء في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمصلحتها، وتحت بند “تهديد السلم وحماية المدنيين”، تستخدم العقوبات الاقتصادية أو القوة العسكرية (العراق) أو لإجبار دولة ما للامتثال لقرارات مجلس الأمن.

وقد بدا الأمر وكأن الأميركيين يريدون أن يختبروا قدراتهم القتالية والعسكرية، وبدت أفغانستان كأنها حقل تجارب أرادت الإدارة الأميركية من خلاله تسجيل نصر عسكري كاسح على شعب فقير أعزل ولم تستمع لمعاناة الأفغان.

ويعتبر تشومسكي أن احتلال العراق كان “جريمة القرن الحادي والعشرين الكبرى”، فبعد أن عانى العراق من حصار مضن؛ جاءت الآلة العسكرية الأميركية لتعيث قتلا وفسادا وامتهانا لآدمية العراقي، وأججت نيران الفتن الطائفية. وبعد أن انسحبت القوات الأميركية بات الفائز الوحيد هو إيران.

  إشعال فتيل الصراعات

تحت عنوان “الولايات المتحدة المصدرة الأولى للإرهاب” يؤكد تشومسكي خطأ الولايات المتحدة باعتقادها أن مقتل قيادات الجماعات المتطرفة سوف يقضي على الجماعات، ويؤكد أن ما أسمته الولايات المتحدة “الحرب على الإرهاب” والذي بدأت شرارته في أفغانستان قد انتشر كالنيران في الهشيم ليمتد لدول أخرى من دول الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، مما كلف الإنسانية ثمنا دمويا باهظا نتيجة هوس الولايات المتحدة بالهيمنة، ودعمها لمراكز وفروع الإرهاب الحقيقي.

وأكد أن “غزو العراق قد ساهم بشكل كبير في انتشار الإرهاب وأدى لزيادة الهجمات الإرهابية في العالم بسبعة أضعاف في المنطقة، فيما زادت الهجمات الإرهابية في بقية أنحاء العالم بمعدل الثلث. ووصلت أعداد ضحايا الإرهاب إلى نحو 1.3 مليون شخص في كل من أفغانستان وباكستان والعراق خلال الاثنتي عشرة سنة الأخيرة. ومما أكد عليه تشومسكي أن الولايات المتحدة تسعى لخلق حالة جديدة لما بعد داعش، وتخطط لولادة تنظيم جديد أكثر وحشية وقسوة واستنزافا للموارد لتنفيذ مخططاتها الخبيثة في المنطقة.

اترك تعليقاً