الأرشيفثقافة وفن

كيف سأعيش بعدك؟ – رشاد أبوشاور

ندفنه بملابسه، كما هو، فلا تغسيل.. ولا كفن. مات بعيداً عن قريته وأسرته.. مات غريباً. فلندفنه فوق بين الصخور، ليكون قريباً من.. مني .. حيث أستطيع أن أزوره. يلا يا جماعة. ستحصلون على ثوابه إن شاء الله. 

رفع رأسه عن الوسادة، ومدّ يده متحسساً، فارتطمت برأس إبنته، فاطمأن عليها. لم يشأ أن يوقظها. فالبرد شديد، وهو لا يريد شيئاً. نهض وسوّى ثوبه حول بدنه، ووضع عمامته على رأسه.

خطا بحذر خطوتين. اعتاد على خطوهما كلما همّ بالخروج من تحت الخيمة. دفع الشادر المنسدل في مدخلها الذي يصطفق طيلة الليل مهما أُحكم ربطه وتثبيته بحجارة توضع على طرفيه.

أرهف سمعه وهو يدور برأسه في الجهات، فلم يسمع صوت جاره، الصوت الصباحي المتأفف دائماً، والذي لا يبدأ يومه بالتسبيح والشكر لله.

همهم وهو يحني رأسه: الفاسق، لا يصلي ولا يصوم، ولا يشكر ربّه، وكلما نصحته يرّد: على شو بدّك أشكر يا أعمى؟ على الخيمة، والبهدلة بعد حياة العّز في بيتي؟ على ما فعله اليهود فينا يا.. ودائماً أرد عليه: الحمد لله أنني أعمى حتى لا أرى خلقتك يا معضرط؟ شو عرّفك إني معضرط؟ بنتي.بنتي نعمة. صحيح أنها صغيرة لكنها شاطرة، وهي وصفتك لي بدقّة، فأنت يسحل الحزام عن وسطك لأنك من دون وسط، يعني عظم من دون لحم. بدنك ناشف من لؤمك وقلّة دينك.

سمع سعال بعض الأشخاص، ونحنحات آخرين، وهمهمات أشخاص من جيرانه في الخيم القريبة، أرهف سمعه.

ارتفع تساؤل:

 – شو اليوم ما في صراخ، ولا شتائم، ولا بهدلة، ولا…

أمال رأسه مدققاً في الصوت ليتعرّف على صاحبه:

–  أبو صبحي.. عرفتك من صوتك.

وضحك ضحكة صغيرة:

– نوم الظالمين عبادة، فهذا الفاجر الذي ضيّع أسرته، ما زال يغط في نوم عميق.

صبّحت عليه إبنته وأمسكت بيده، فانحنى وقبّل رأسها:

– نعمة.. شوفي هالسفيه ..أهو نائم، أم خارج الخيمة، فأنا لم أتصبّح بصوته المزعج .. وهذا غريب.

تركت البنت يده، ومضت إلى خيمة أبي عقل – هو أطلق عليه لقب أبو عقل زايغ – ودفعت شادر الخيمة، فرأت الرجل متمدداً على ظهره. تأملته قليلاً، ثم رجعت لوالدها وحوله يقف بعض الجيران:

 -نائم يابا

 – نائم؟ هذا ال… ليس من عادته النوم حتى هذا الوقت، فمنذ نقلنا إلى مخيم الدهيشة، وشاء نصيبي أن أتجاور معه، وهو يستيقظ قبلي و.. أتحمّل رزالته صباحاً ومساءً. أي والله، وجيراني شهود.

دارى الملتفون حوله ضحكاتهم، لأنهم سمعوا منه شتائم لم يسمعوها من قبل، شتائم يتبارى بها مع جاره أبي عقل، والذي نسي الجيران إسمه الحقيقي، وحذفوا وصف (زائغ).. واستقروا على (أبو عقل):

رفع الشيخ أبو زاهر صوته:

– انهض يا فاسق، وابحث عن عائلتك، زوجتك وبناتك وأولادك يا بطل فلعلك تجدهم في مغاور الخليل.

صمت.

– عجيب ألا يرّد، هو الذي كان يسبقني في الاستيقاظ، ويبدأ يومنا بالقبائح و…

ارتفع صوت:

– ربما كان الرجل مريضاً؟ واجبنا السؤال عنه يا شيخ…

– أنا أسال عنه؟ إذا كان مريضاً فسنرتاح من رزالته!

راح الرجل وتفقّد أبا عقل فوجده نائماً على ظهره وعيناه مفتوحتان، فانحنى وهزّه وهو يردد إسمه: أبو عقل..إصح يا زلمه الدنيا صارت الظهر.

مدّ أصابعه وأغلق عيني أبي عقل فانغلقتا ولم ترمشا، فوقف، ثم خرج:

– يا جماعة، أبو عقل أعطاكم عمره. الرجل مات وهو نائم.

انحنى الشيخ أبو زاهر وأخذ في هز بدنه وهو يرتجف، وبصوت ملتاع:

 – أعطانا عمره! شو بدنا في عمره؟ سيريحنا من كلامه الرزيل، وصراخه صباحاً ومساء. لقد جعلنا حياتنا أنا وإياه فرجة لأهل الدهيشة. أنا لم أكن أتلفظ بكلمة عاطلة. أنتم تعرفون أنني درست في الأزهر سنتين، وكنت أئم في أهل قريتي بعد عودتي من الأزهر.. وأخطب فيهم حاضاً على مكارم الأخلاق.. وهذا الفاسق جرّني لكلام السوء.

جسده يرتجف وكلامه يرتجف وهو يهز جسد أبا عقل، ويكاد يسقط فوق صدره بينما دموعه تنهمر على وجه أبي عقل.    

اندفع الواقفون في برد الصباح من الجيران إلى خيمة أبي عقل، وتحلقوا فوق رأسه، ثم تحسسوا بدنه، فتيقنوا أن الرجل قد مات.

صاح أحدهم:

– يا شيخ أبو زاهر الرجل ماااات وشبع موت.

وضع أصابعه على شروش العنق.. فتأوه ورفع أصابعه، وأعاد جسده إلى الخلف:

 -أبوعقل مااات يا جماعة. مات قبل ما يلتقي بأسرته.

عاد وتحسس وجه أبي عقل:

– إكرام الميّت دفنه يا ناس.

ارتفع صوت:

 – لاحطب جاف عندنا لنغسله بماء ساخن، والدنيا شتاء وبرد وبهدلة.. ولا يوجد محل فيه قماش أبيض لنكفنه!

 – تدلّى رأس الشيخ أبو زاهر على صدره، ورنحه، وبصوت منكسر:

 – ندفنه بملابسه، كما هو، فلا تغسيل.. ولا كفن. مات بعيداً عن قريته وأسرته.. مات غريباً. فلندفنه فوق بين الصخور، ليكون قريباً من.. مني .. حيث أستطيع أن أزوره. يلا يا جماعة. ستحصلون على ثوابه إن شاء الله. 

أحضروا فاساً وكريكاً، وتوجهوا إلى أعلى المخيم، وبين الصخور حفروا في الطين، وعمّقوا، ثم حملوا المرحوم في بطانية، وصعدوا به، والشيخ أبو زاهر تمسك إبنته بيده، وتنبهه إلى الحجارة في طريقه. 

وصلوا، فأنزلوا المرحوم في الحفرة. 

– شيخ: أنزلنا المرحوم في الحفرة، وغطينا جثته بحجارة عريضة ومتينة لتحمي بدنه من الكلاب والأفاعي، وها نحن قد أهلنا عليه التراب.

ارتفع صوت أبي زاهر:

يا رب إن عبدك أبو عقل، وأنا لا أعرف إسمه الحقيقي.. والذي تعرفه أنت، ولا من أية  قرية في فلسطين، ولا أدري ما جرى لأسرته التي ربما قتلتها طيّارات اليهود كما قتلت حرمتي وهي حامل.. حرمتي إبنة خالتي التي زوجتها لي خالتي الحاجة زهدية، و.. يا رب: اغفر له شتائمه، ورزالاته معي، فهو كان يسليني، فأنا ..لا أعرف كيف سأمضي أيامي بعده.. والجيران سيفتقدونه يا رب، فبحسناته.. كل هذا أدخله الجنة، وصبّرني على فراقه.. واجمعني به يوم القيامة.

ترحموا على هذا ال.. الذي غدرني ومااات.. وتركني وحيداً للفراغ والملل والحزن.

وانهمر المطر غزيراً، فتراكض الناس إلى خيامهم، ولكن الشيخ أبا زاهر لبث عند القبر ومعه إبنته، وهو يربت على التراب الذي يغرق بماء المطر الممتزج بدموعه.

الميادين