الأرشيفعربي وعالمي

مات القسّ بيلي غراهام… مفتي الجمهوريّة الأميركيّة – أسعد أبو خليل

يساور أذهان الرأي العام العربي مغالطات جمّة عن طبيعة الدين ودوره في المجتمعات الغربيّة. وتزيد هذه المغالطات حجماً في ما يتعلّق بالثقافة الأميركيّة. وقد ساهم في تضليل الرأي العام العربي ضخّ قساوسة «دين» الدولة في الدول العربيّة الذين ساووا بين العلمانيّة والإلحاد. والإنفاق الخليجي، والرعاية الساداتيّة للتيّارات الدينيّة المعادية للعلم، عزّزوا من نفوذ الفكر الغيبي في الحقبة السعوديّة الأولى في السبعينيّات من القرن الماضي.

لكن أميركا هي أيضاً تُضلّل العالم من خلال إنتاجها الهوليوودي. لا تعكس أفلام هوليوود، لا في حقبتها «الذهبيّة»، ولا في حقبتها الحاليّة الأكثر رداءة، حقيقة المجتمع الأميركي. الفقراء غير ممثّلين (مثلما كانت الأفلام المصريّة قبل «الثورة» لا تمثّل حقيقة المجتمع)، كما أن تديّن الشعب الأميركي لا يظهر في الإنتاج السينمائي أو التلفزيوني. أصحاب شركات الأفلام يأتون غالباً من خلفيّات إما يهوديّة أو مسيحيّة غير متديّنة أبداً. والاستثمار الأجنبي في السينما الأميركيّة يبعدها عن القيم التي يمكن أن تتضارب مع قيم معظم سكّان الأرض، لأن المبيع على نطاق واسع يعلو على كل ما عداه باستثناء تسويق «الفكرة» الأميركيّة، أو «الحلم الأميركي».

هناك حالة عداء بين قطاع واسع من الشعب الأميركي وبين العلم والعلماء. ففي استطلاع لـ«مؤسّسة دراسة الدين» في جامعة بيلور، يظهر أن أكثر من نصف الأميركيّين، بما فيهم واحد من خمسة من الذين يصفون أنفسهم بأنهم غير متديّنين، يؤمنون أن «ملاكاً حارساً» يحميهم في حياتهم. والنسبة (٥٥٪ من المستطلعين) تتخطّى فوارق الدين والمنطقة والدرجة العلميّة. وفي استطلاع في عام ٢٠٠٧ لمؤسّسة «بيو» (التي تجري أكثر الاستطلاعات سعة وشمولاً حول العالم وإن شاب استطلاعاتها حول العالم مغالطات وسوء ترجمة للمفاهيم والمصطلحات) أظهرَ أن ٦٨٪ من الأميركيّين يؤمنون أن «الملائكة والشياطين» ناشطون في العالم. و٢٠٪ من الأميركيّين يقولون إنه كان لهم «مواجهة» شخصيّة مع ملاك أو مع شيطان في حياتهم. والإيمان بالفكر الغيبي العجائبي الديني ورفض الحقائق العلميّة سمة يختلف فيها الشعب الأميركي عن شعوب الدول الغربيّة الأخرى. وهناك استطلاعات ودراسات عدة تظهر أن الشعب الأميركي أقلّ تقبّلاً لفكرة داروين حول أصل الأنواع من شعوب الدول الغربيّة الأخرى. والعائق الأكبر أمام التقبّل الأميركي هو عمق الإيمان بالفكر والفرضيّات الدينيّة. ففي الولايات المتحدة، قَبلَ ١٤٪ فقط فكرة أن «التطور» (حسب نظريّة داروين) هو «حقيقة بالتأكيد»، فيما رفض ثلث السكّان الفكرة من أساسها. أما في أوروبا، بما فيها الدنمارك والسويد وفرنسا، فإن أكثر من ٨٠٪ من المُستطلعين أيّدوا فكرة «التطوّر». والظن بأن فكرة التطوّر «قطعاً خاطئة» لم تحظَ إلّا على نسبة ٧٪ من المستطلعين في بريطانيا.

وسبب الفوارق الثقافيّة والعلميّة الهائلة بين سكّان أميركا وسكّان أوروبا هو في عامل الدين والتديّن. ليس فقط في أن الشعب الأميركي أكثر تديّناً من شعوب الدول الغربيّة الأخرى بل إن الأصوليّة البروتستانتيّة (وكلمة أصوليّة لها جذر أميركي خاص بها، وإن عُمِّمت اعتباطاً في ما بعد على أديان ومذاهب أخرى) تضفي على الفكر الشعبي الأميركي خصائص لا يتشارك بها أبناء وبنات الفرق المسيحيّة الأخرى بالضرورة. الأصوليّة البروتستانتيّة تؤمن بالتفسير الحرفي للإنجيل وترى أن «سفر التكوين» يحوي سرديّة حقيقيّة عن خلق الحياة الإنسانيّة. والارتباط الذي ترافق مع انشقاق البروتستانتيّة عن الكاثوليكيّة بالنظام الجامعي الأوروبي لا مثيل له في الكنائس البروتستانتيّة المستقلّة عن الجامعات والتي تبلور فكراً خاصاً بها، بعيداً عن التطوّرات والأبحاث العلميّة في الجامعات. لا بل إن هذه الكنائس أنشأت كليّات لتعليم الانجيل مستقلّة عن النظام الجامعي الأميركي المدني. وتزيد نسبة معاداة الفكر العلمي عند الجمهوريّين لكن قبول الفكر العلمي عند الأوروبيّين لا يتناقض مع الإيمان بالعقائد اليمينيّة في أوروبا.

إن العلمانيّة الأميركيّة في تناقص مستمرّ. القرن العشرون عكس إرادة توماس جيفرسون في احترام «جدار» الفصل بين الديني والمدني (والعبارة وردت في رسالة له وليس في الدستور كما هو شائع حتى بين الأميركيّين). لم تكن الحكومة مسؤولة بقدر ما كان الشعب عبر ممثّليه يصرّ على ردم الهوّة (المفترضة) بين الدولة وبين الدين، بسبب اعتناق الأكثريّة لفكرة أن الأخلاق لا يمكن أن تأتي إلا من الدين (وإلا من الدين المسيحي، طبعاً، بالرغم من أن جورج واشنطن المؤسّس قبل لمقولة أن الأخلاق يمكن ألا تأتي حصراً من الدين). والمحاكم العليا والدنيا في البلاد زادت من قبولها لتسرّب واختراق الدين (المسيحي) للحياة العامّة.

ليس للجمهوريّة الأميركيّة دينٌ رسمي وليس لها قسٌّ رسمي، لكن التطبيق يختلف عن النظريّة الدستوريّة. في القرن الحالي تخطّت الجمهوريّة «التعديل الأوّل» للدستور، والذي يقضي بعدم تدخّل الكونغرس لصالح أي مؤسّسة دينيّة، عندما وافق الكونغرس (بحزبيْه) في عهد دبليو بوش على قانون «المبادرة المبنيّة على الإيمان» (وهذه تذكّر بشعار أنور السادات عن دولة «العلم والإيمان»). والمبادرة تسمح للحكومة بتمويل مؤسسّة دينيّة في برامجها الاجتماعيّة، وليس الدينيّة كأن الفصل بين الاثنيْن سهل، وكأن مؤسّسة دينيّة إسلاميّة يمكن أن تحصل على تمويل حتى لو كان لها أفضل برامج الرعاية الاجتماعيّة. وكما أن الدين يزحف باستمرار نحو الدولة (ينهي كل رئيس هنا قسم الولاء بعبارة «اللهم ساعدني»، مع أن العبارة ليست جزءاً من القسم الدستوري، وهناك من يرى أن جورج واشنطن قالها ولم يجرؤ رئيس بعده على التخلّي عنها)، فإن الدولة تزيد من تعاطفها الرسمي مع الدين (المسيحي).

وليس لأميركا قسٌّ رسمي لها، لكن بيلي غراهام – الذي مات قبل أيّام – يكاد يكون قسُّ الجمهوريّة ومفتيها ومُرشدها الروحي. يلجأ إليه الرؤساء ليس لأخذ المشورة بقدر ما يرغبون في التقرّب منه لما يمنحهم هذا التقرّب من شرعيّة دينيّة – سياسيّة على أعمالهم وعلى حروبهم (والرجل مفتنٌّ بمباركة الحروب والغزوات). وهو كان قريباً بدرجة أو بأخرى من كل رئيس لأميركا منذ هاري ترومان. لكن الأخير وحده أدرك لعبة غراهام وتجارة الدين. كان أوّل لقاء له مع رئيس في عهد ترومان في عام ١٩٥٠. وعندما خرج من اللقاء مزهواً، اعترف للصحافيّين أنه أدّى واجب الصلاة مع الرئيس، ثم جثا على ركبتيه في حديقة البيت الأبيض ممثّلاً مشهد الصلاة مع ترومان. لم يغفر له ترومان فعلته. وصفه بالقس «المزيّف»، وقال إنه يفعل أي شيء كي يرِد اسمه في الصحف، ومنعه من دخول البيت الأبيض مرّة أخرى. لكن عهده مع باقي الرؤساء الذين تقرّب منهم وهم تقرّبوا منه (المنفعة المصلحيّة كانت متبادلة) كان أفضل. لكن كيف برز هذا القس وكيف أصبح حافظ أسرار الرؤساء؟

هناك أربع نظريّات حول صعود بيلي غراهام. الأولى هي قناعته أن الله انتقاه بنفسه من دون البشر كي يقوم بالتبشير الديني. وهو كان يصرّ أن الله سيتولّى استضافته بقربه بعد موته. لم يكن يساوره شكّ بصلته المباشرة مع الله. النظريّة الثانية حول صعود غراهام هي سياسيّة، أنه كان ضرورة سياسيّة للحكومات الأميركيّة التي استعملته في الحرب الباردة كي يحرّض ويؤجّج ضد الشيوعيّة. وكان غراهام يجول حول العالم في ما كان يسمّيه بـ«الحملات الصليبيّة» لكنيسته. (توقّف عن استعمال المصطلح في السنوات الأخيرة بنصيحة حكوميّة). وعرف العالم عظات غراهام من خلال جولاته المتكرّرة في ألمانيا في الخمسينيات والستينيّات. كان قس الحرب الباردة ينفي أن يكون مبعوثاً حكوميّاً لكن عظاته كانت اجتراراً للخطاب الحكومي الأميركي ضد الشيوعيّة. كان يخاطب الجمهور الألماني الغربي (الواقع تحت الاحتلال الأميركي) بالقول: «يا رفاق السلاح». وعن الشيوعيّة قال: «إما أن تموت الشيوعيّة أو أن تموت المسيحيّة، لأنها معركة بين المسيح وبين المسيح الدجّال». غراهام اعترف في ما بعد أن موضوع الشيوعيّة كان ثاني موضوع ألقى عظات حوله بعد موضوع الانجيل. وقد أسبغت صحيفة «شيكاغو ديلي نيوز» لقب «عدوّ الشيوعيّة العام رقم واحد» على غراهام. وفي سياق الخطاب الأميركي العدواني في الحرب الباردة، كان غراهام يُرسل للمشتركين في خدمته البريديّة أن «هذا الوقت ليس للتسكين بخطاب «السلام» المستمرّ من قبل المتحدثين الشيوعيّين. إن برنامجهم لغزو العالم يسير بوتيرة متقدّمة… نحن بشكل متدرّج مُسوَّرون». وفي عظة له قال إن خطة «ستالين الثابتة هي سجن العالم كلّه في الشيوعيّة»، وفي أخرى أن «الشيوعيّة هي دين متعصّب شنَّ الحرب على الله المسيحي». لم تكن تلك الأفكار تختلف البتّة عن أفكار المسؤولين الأميركيّين، من أمثال جي إدغار هوفر أو جون فوستر دالاس أو دين اتشسن، كما لاحظ غرانت واكِر، كاتب سيرته (1). وكان غراهام خير معين للحملة الماكارثيّة، وحذّر أن «الشيوعيّين واليساريّين يشكلّون خطراً ضد الأمّة وحذّر من وجود «طابور خامس» بيننا.

النظريّة الثالثة تقول بأن صعود غراهام كان مؤامرة من الإعلام الأميركي الخاص. هناك الرواية المعروفة أن ويليام راندولف هيرست (امبراطور صحف «التابلويد» الصفراء الذي خلّده المخرج أورسن ويلز في فيلمه «المواطن كين»)، أرسل إلى رؤساء تحريره آمراً «انفخوا غراهام»، وكان ذلك في وقت أوّل «حملة صليبيّة» لغراهام في لوس انجلوس في الأربعينيّات. كان غراهام يعلّق على الرواية بالقول إنه لم يلتقِ به كأنه يحتاج أن يلتقيه كي يعظّمه. لكن مؤسّس مجلّة «تايم» (ومالك مجلّات «لايف» و«فورتشن» و«سبورتس اللستريتد»)، هنري لوس، هو الذي أطلق غراهام في الإعلام السائد بعد أن التقاه في ولاية جنوب كارولينا في عام ١٩٥٠. واللقاء بين الرجليْن، بحضور رمز الفصل العنصري، عضو مجلس الشيوخ، ستروم ثرمند، ترك وقعاً على تغطية مجلّة «تايم» لغراهام، باعتراف الصحافيّيْن في المجلّة، نانسي غبز ومايكل دفي (2). وفي مذكّراته، اعترف غراهام بفضل لوس عليه وقال: «عبر السيّد لوس، الناس سمعت بي، في الجامعات وفي جمع رجال الأعمال… من الذين لم يكونوا سيأخذون عملنا على محمل الجد من دون كتابات مجلّة متحضّرة مثل تايم».

النظريّة الرابعة تربط بين غراهام وبين الطبقة الرأسماليّة الحاكمة. إن القيم التي حملها غراهام كانت ديناً مخلوطاً بالرأسماليّة ومعاداة البرامج الاجتماعيّة لحماية الفقراء وذوي الدخل المحدود. وعندما أذلّ الرئيس ترومان غراهام، ردّ الأخير عليه بعد سنوات بالقول إنه انشغل بالبرامج الاجتماعيّة الليبراليّة عن الخطر الشيوعي في كوريا. والرأسماليّة في عرف غراهام هي ضرورة دينيّة إذ قال في حملته في عام ١٩٤٩ إن «الشيوعيّة قرّرت ضد الله، وضد المسيح، وضد الإنجيل، وضد كل دين. إن الشيوعيّة ليست فقط تفسيراً اقتصاديّاً للحياة، إن الشيوعيّة هي دينٌ مُلهَمٌ ومُخرَجٌ ومُحرَّكٌ من قبل الشيطان نفسه الذي شنّ الحرب ضد الله سبحانه». ويذكر كاتب لسيرته أن غراهام عندما يتكلّم عن «النمط المعيشي الأميركي» فإنما هو يعني مجموعة الحريّات السياسيّة بتعريف أمثال جمعيّة الصناعيّين أو غرفة التجارة أو جريدة «وول ستريت جورنال». وكان لغراهام بالفعل علاقة وطيدة بأقطاب المال في البلاد. وكان يبشر بالمسيحيّة وبالرأسماليّة في آن. وفي خدمة الرأسماليّين، كان يعظ ضد العمّال ويقول في عام ١٩٥٢ إن الجنّة «ليس فيها رسوم عضويّة للنقابات العماليّة وليس فيها قيادات عماليّة ولا أفاعي أو أمراض». وبتعريف غراهام، فإن العامل المسيحي القويم يرفض أن ينضمّ إلى نقابة عماليّة حتى لا يجهض حقّ صاحب العمل. ورفض غراهام تدخّل الدولة في عمل السوق واعتبر ذلك نوعاً من الاشتراكيّة. وحذّر من أن الحدّ من حريّة السوق ستؤدّي إلى خسارة «حرية الفرص» في أميركا، ودعا المحافظين إلى الثورة على دولة الرعاية الاجتماعيّة.

النظريّة الخامسة للكاتب، سيسل بوثويل، تعزو نفوذ وشعبيّة غراهام إلى عنصر التخويف الذي اعتمده في عظاته (3). والتخويف الذي كان يستغلّ زرعه في نفوس المؤمنين اشتمل على التخويف من إله مُعاقِب من السقوط وعلى التخويف من الشيوعيّين والاشتراكيّين والنقابات العماليّة والكاثوليكيّين والمثليّين والانصهار العرقي والتخويف من الموت. والذين ينضمّون إلى حملته ينالون —على طريقة صكوك الغفران من بابوات القرون الوسطى— الحياة الأزليّة. ووعد غراهام جمهور المسيحيّين بأن النظام الرأسمالي هو أكثر النظم مباركةً إلهيّاً. وكان غراهام محافظاً في إصراره على واجب طاعة الحكومات، وكانت «رسالة من سجن برمنغهام» لمارتن لوثر كنغ ردّاً على غراهام، وحاجج كنغ في ضرورة رفض طاعة القوانين الجائرة.

ويمكن أن نضيف نظريّة سادسة حول ارتباط غراهام بظاهرة انتشار التلفاز في أميركا. هو كان المُبشّر التلفزيوني الأوّل، أو القسّيس الذي نشر العقيدة الدينيّة على مستوى الجمهور العام. هو الدين السريع في عصر الوجبة السريعة: يكفي أن تشاهد عظته الأسبوعيّة من كرسيّك من دون أن تتجشّم عناء الذهاب إلى الكنيسة، وتنال الغفران منه شخصيّاً. لكن غراهام هو ظاهرة لتقاطع المال والحكومة والتلفاز والإعلام المكتوب في عصر الحرب الباردة. جعلت الحكومة والإعلام منه رجلاً شهيراً أصبحت الناس تتقاطر إليه مثلما يتقاطرون اليوم (في دبيّ أو في غيرها) لمشاهدة كيم كاردشيان وهي تلقي محاضرة عن أصول وضع مساحيق التجميل. وغراهام عزّز حاجة حكوميّة – عسكريّة أميركيّة من أجل إضافة شرعيّة دينيّة على العقيدة الحربيّة في عقود الحرب الباردة، بحيث تتزاوج عقيدة معاداة الشيوعيّة مع المسيحيّة.

رافق غراهام كل الرؤساء في البيت الأبيض من دون استثناء. وكان سياسيّاً محافظاً متعصّباً لكن وجد في ما بعد حاجة تجاريّة لتوسيع نطاق جمهوره فتصنّع الحياديّة السياسيّة. هو تحزّب لأيزنهاور وشككّ في ولاء جون كينيدي لأنه كاثوليكي، لكنه هادن لندن جونسون ودعم حربه في فييتنام. وخلافاً للمراثي عن غراهام في الجرائد الأميركيّة، كان جباناً في موضوع العنصريّة. هو أنهى الفصل العنصري في جمهور حاضريه، لكنّه لم يدن العنصريّة والفصل العنصري في عظاته. على العكس، هو تمنّع عن الحضور في مسيرة عام ١٩٦٣ للحقوق المدنيّة واختلف مع «حلم» مارتن لوثر كنغ في زمن يلعب فيه الأطفال البيض والسود سويّة. وردّ غراهام على الحلم قائلاً إن ذلك لا يتحقّق إلا بعد ظهور المسيح. وذمَّ الحركة النسويّة ووصفها بأنها صدى لـ«فلسفة التفلّت» الخلقي، واعتبر أن النسويّة الحقّة هي في التزام المرأة في العمل المنزلي وتنشئة الأطفال. وعند انتشار مرض الـ«إيدز» اعتبره غراهام «حُكماً» من الله ضد المثليّين (لكنه عاد وتراجع عن قوله).

وحافظ غراهام على علاقة وطيدة جدّاً مع دولة الاحتلال (الإسرائيلي) وصادق رؤساء حكومات العدوّ (4). وأقام علاقات مع زعماء الجمعيّات اليهوديّة في أميركا. لكن نفاقه افتضح في عام ١٩٩٤ بعد نشر «يوميّات هالدمان»، رئيس أركان الموظّفين في البيت الأبيض في عهد نيكسون. ذكر هالدمان أن غراهام كان يشارك نيكسون عداءه ضد اليهود وكان يلومهم في المسؤوليّة عن معارضة عهد نيكسون، وقال عنهم إنهم «يخنقون» البلاد. لكن غراهام كذَبَ ونفى ما ورد في اليوميّات، وقال «هذه ليست كلماتي»، وأكّد أنه لم يتكلّم يوماً بـ«السوء عن اليهود». وصدّق الجميع غراهام إلى أن أفرج في عام 2002 عن شرائط تسجيل البيت الأبيض من عهد نيكسون، وفيها حديث عن اليهود بين نيكسون وغراهام. وقال غراهام في التسجيل إن اليهود «هم الذين ينشرون البورنوغرافيا» وأنه يجب الإفلات «من خناق اليهود وإلا فالبلاد ستتدهور نحو المجرور». وأضاف أن الكثير من اليهود هم أصدقاؤه وأنهم يحومون حوله كالحشرات وأنهم ودودون نحوه بسبب موقفه الودود نحو (إسرائيل)، لكنهم لا يعلمون حقيقة موقفه منهم وحول ما يفعلون بالبلاد. طبعاً، نفى غراهام ما جاء في الشريط وقال إنه لا يتذكّره، لكنه قدّم اعتذاره عن أقوال كان قد نفى قولها. لكن صهانية أميركا – مثل حكومات (إسرائيل) تماماً – يغفرون معاداة السامية إذا كانت مترافقة مع مواقف مؤيّدة لاحتلال وعدوان (إسرائيل).

لكن علاقة غراهام بالرؤساء استمرّت على مرّ الأعوام، وهو بارك كل الحروب الأميركيّة من دون استثناء. وقد لازم جورج بوش (الأب) في البيت الأبيض عشيّة شنّه حرب العراق في عام ١٩٩١، وصلّى معه لنصر القوّات الأميركيّة. أما ابنه (وخليفته فرانكلن) فقد أرسل شحنات من الانجيل كي يقوم الجنود الأميركيّون بنشر الدين المسيحي بين السكّان المسلمين في الخليج. وعلاقة غراهام بعائلة بوش كانت وثيقة جداً ويعترف جورج دبليو أن غراهام كان مؤثّراً في تحوّل مسار حياته ونبذه للكحول وقبوله للمسيح مخلّصاً.

مات غراهام وترك ابنه فرانكلن رئيساً لمؤسّساته المنتشرة حول العالم. وبالرغم من رثاء وسائل الإعلام السعوديّة لغراهام، فإن فرانكلن يقود المؤسّسات في حرب شعواء ضد الإسلام والمسلمين. وبعد ١١ أيلول، عبّر فرانكلن عن آرائه فوصف الإسلام بأنه «دين خبيث وشرّير جدّاً»، وأن «إله الإسلام ليس إله المسيحيّة» وأن «الإسلام اعتدى على أميركا» في ١١ أيلول. وعندما استفسرت وسائل الإعلام عن آرائه لتوضيحها، زاد بأن «الإسلام ليس دين سلام» وأن القرآن يحضّ على الإرهاب، ووصف نبي الإسلام بـ«الإرهابي»، وقال إن الارهابيّين يقلّدون نبيّهم في ارتكاب أعمال الإرهاب.

ليس غراهام (الابن) شخصاً عاديّاً. هو كان القسّ الذي أشرف على حفل قسم اليمين لجورج دبليو بوش، وهو كان مستشاراً لحملة ترامب الانتخابيّة ورأى «أعمال يد الله» في انتخاب ترامب. وغراهام يزور دول العالم العربي وقد أقام علاقة وطيدة مع طاغية السودان. وهو (الابن) يقيم علاقة شبه رسميّة مع وزارة الدفاع الأميركيّة ويشرف على مراسم الصلاة من قبل القوّات الأميركيّة حول العالم. إن القنابل والصواريخ الأميركيّة في بلادنا تأتيكم بمباركة دينيّة، من المفتي الأميركي، ومن ابنه من بعده.

مراجع

(1) راجع كتاب غرانت واكِر، «قسّيس أميركا: بيلي غراهام وتكوين الأمّة»، ص. ٢٣٤.

(2) راجع كتابيْهما، «الواعظ والرؤساء: بيلي غراهام والبيت الأبيض».

(3) سيسل بوثويل، «أمير الحرب: حملة بيلي غراهام من أجل امبراطوريّة مسيحيّة كليّة».

(4) راجع كتاب واكِر، ص. ١٩٤.

*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)

يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | asadabukhalil@