ثقافة وفن

مذكرات لبناني زامل الشاعر في سجن بورصة

مذكرات لبناني زامل الشاعر في سجن بورصة
دار الفارابي، بيروت 1980.

مؤلف الكتاب: علي فائق البرجاوي
عادل سماره

أن تحظى بيوم جميل بالصدفة، فذلك فيه متعة الفجأة من جهة وتساؤل الحياة :هل المرء مخيراً أم مسيراً؟
بينما كنت صباحا احاول ترتيب بعض مكتبتي “القرمطية” وهي خامس مكتبة بعد أن أتلف القمع والزمان مكتبات اربع، آمل أن تجد طريقها للبقاء، وقعت عيني على هذا الكتاب. ورغم أنني أهرب دائما من كتب الأدب لأنني اشعر بأنني حين أُعيق تطوري في الاقتصاد السياسي والنظرية بأنني ارتكب خيانة مع سبق الإصرار.
تجرّأت على نفسي وشرعت اقرأ الكتاب الذي يصف الكاتب زمالته لناظم حكمت في السجن وخارجه وفيه توثيق لعبقرية هذا الشاعر ومصاعب حياته.
لفت نظري الكثير في الكتاب بصفحاته المئة وواحدة.
ليس هذا تقريظا للكتاب، بل ما شدني حتى انهيته هو الخيط الناظم لحياة السجون والمطاردات والمخبرين السريين وحميمية الرفاق وأسى التساقط…الخ.
فقط أضع أمامكم/ن بعض المحطات، كي لا أكون نرجسيا أو ثقيل الظل.
في ص 7 أورد الكاتب ابياتا من الشعر كتبها ناظم حكمت من قصيدة وجهها الى ماسح أحذية صغير من بور سعيد أبان حملة السويس:
“… السفن لا تُعد ولا تحصى في بور سعيد…
الشمس قريبة، قريبة، والغيوم بعيدة، بعيدة..
وفي بور سعيد صغيري منصور وهو في العاشرة من عمره يمسح الأحذية..
إنه ناحل الجسم، مغبر الوجه والملامح… كأنه نواة ثمرة البلح..
إنه رقيق صغيري منصور..
ويردد دوما الأغنية نفسها ويعيد.. يا عيني..يا حبيبي..
يا عيني.. يا حبيبي.
لقد أحرقوا بور سعيد.. قتلوا منصوري الصغير..
..شاهدت صورته في الصحيفة هذا الصباح..
ميت صغير.. بين سائر الأموات..
يا عيني ..يا حبيبي..
(براغ في 25 تشرين الثاني ، نوفمبر 1956).
لعل هذه الأبيات تضيء لنا شخصية الشاعر الأممي الذي قضى حياته لصيقا بالفقراء ونزيلا في السجون، وقد يكون هذا سر تألقه وإبداعه.
حين مررت بهذه الأبيات تذكرت الشيوعي الإيرلندي “توبي شلي” الذي كان يكتب في فايننشال تايمز حين حدثني عن طفل مغربي ماسح أحذية في مدينة سبتة المحتلة قال توبي:
وقفت امامه ووضعت قدمي على الطبلية، بعد ان قلت له صباح الخير.
فسألني :تهدر عربي؟
قلت له انا فلسطيني (وكان توبي قد زار فلسطين كثيرا)،
نهض الفتى وعانقني وقبًّلني وقال “يا خوي يا فلسطيني”
يكفيني، كما أعتقد، بقاء هذه الجذوة في الجيل الجديد من الفقراء.
حينما أعتقلت على بيان العشرين، ارسل لي توبي بطاقة عنوانها” إحذر أن تطولك يد الأوغاد”.
في ص 16 من الكتاب يروي الكاتب كيف تم اعتقاله في استانبول وتوجيه تهمة قلب نظام الحكم له ، عام 1934، ليقول: كان الذنب الذي اقترفت حيال السلطة ، انني كنت متفوقا ، مبرزا في دراستي، (كان يدرس في الجامعة في تركيا) وانني كنت اشعر بالزهو بانني عربي ، متضامن مع العرب وقضاياهم.
يروي في ص 48 اعتقال عامل وسجنه لأن ابنته الصغيرة حين سألها مفوض الأمن :بماذا تؤمنين: قالت بسذاجة: ” إنني شيوعية صغيرة يا سيدي..شيوعية مثل ابي !” وشرعت الفتاة تنشد نشيدالأممية. فاقتاد الأب إلى السجن.
كل ذلك في عهد مصطفى كمال أتاتورك، ويقول بأنه حين كان يجهز دفاعه أمام المحكمة:” غير اني كنت واعيا آنذاك مشاعر الأتراك حيال العرب” ص 51).
يقول في ص 87: “… واذكر فيما اذكره قصائده “برقية آتية من الليل”، ولماذا انتحر بيرنجي”، و ” رسائل إلى تارنتا بابو” و “ملحمة الشيخ بدر الدين”.
رسائل أو قصائد إلى تارنتا بابو هي التي لا زلت أتألم لفقدانها، لعلها دائما تذكرني بكل فُقدان وما اشده ألماً.
جانب طريف في الكتاب أن ناظم حكمت قرر طباعة كتابه عن “نظريات روزنبرع” العنصرية على نفقته فخسر خسارة فادحة”(ص 92).
هذا مصير كل كتبي وخساراتي !!!