الأرشيفصهيونيات

من وجهة نظر صهيونية مذبحة الدوايمة المسكوت عنها – أنطوان شلحت .

من وجهة نظر صهيونية
مذبحة الدوايمة المسكوت عنها
أنطوان شلحت .

ترجمة لمقالة كتبها الباحث الأكاديمي الإسرائيلي يائير أورون عام 2017، حول استمرار الصمت الإسرائيلي المُبرمج على إحدى أكبر المجازر التي ارتكبتها الحركة الصهيونية عام 1948 في قرية الدوايمة الفلسطينية، قضاء الخليل.

ووفقًا لما يكتبه أورون، مستعينًا باقتباسات عن مؤرخين إسرائيليين، وقعت هذه المجزرة يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر 1948، خلال عملية “يوآف” التي نفّذها الجيش الإسرائيلي، وأدت إلى نزوحٍ سكاني كثيفٍ عن المنطقة. وهو ينقل، عن لسان أحد الذين شاركوا في الهجوم على القرية، أن نحو 80 إلى 100 شخص، بينهم نساء وأولاد، قُتلوا من جرّاء موجة الغزاة الأولى.

فيما يلي الجزء الثاني والأخير من المقالة:

مذبحة الدوايمة 

فيما يتعلق بما حدث في قرية الدوايمة، فإن جزءًا من الوقائع يُعتبر واضحًا، وثمة جزء آخر أقل وضوحًا. في نطاق عملية “يوآف”، احتلت القوات الإسرائيلية مخفر الشرطة في قرية بيت جبرين. وبعد يومين، أي في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1948، احتلت كتيبة الاجتياح رقم 89 قرية الدوايمة الواقعة في المنحدرات الغربية لجبل الخليل، في النقب الشمالي الشرقي.

بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر على مذبحة اللد، أضحى الحيز بأكمله مختلفا كليا، إذ بات من الواضح للجميع أن إسرائيل انتصرت في الحرب، وأنها هزمت الجيوش العربية التي هددت، طوال شهر ونصف الشهر، وجود الدولة التي أُعلن للتوّ عن قيامها.

في تلك الفترة كان الهدف هو توسيع البقعة الجغرافية وجعلها خالية من العرب، قدر المستطاع، والتوصل إلى اتفاقيات لوقف إطلاق النار بشروط مريحة ما أمكن لدولة إسرائيل. وأخذ الجيش الإسرائيلي يحتل مناطق واسعة في الشمال، وبشكل خاص في الجنوب، من دون قتال، ويتقدم من قرية إلى أُخرى. مما لا شك فيه أن الأمور جرت على هذا النحو أيضًا لدى احتلال القوات الإسرائيلية قرية الدوايمة، التي بلغ عدد سكانها في ذلك الوقت قرابة 4000 نسمة، إذ قُتِل الكثيرون من أهالي القرية، ومن ضمنهم شيوخ ونساء وأطفال، وكل ذلك من دون أن تواجه القوة الإسرائيلية التي اجتاحت القرية أي مقاومة. غير أن الذين يبحثون عن تفسير، وربما مبرر أيضا للجريمة التي ارتكبت فيها، يزعمون أن أفراد هذه القوة واجهوا مقاومة ضعيفة، إذ تعرضت آليات وناقلات الجند الإسرائيلية لطلقات قليلة أطلقت من أربع بنادق فقط.

بعد مرور أسبوعين تقريبًا، في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1948، أورد بن غوريون في مذكراته أقوال الجنرال إليميلخ أفنير، قائد الحكم العسكري، أنه “بحسب الإشاعة (!)” ذبحوا “في الدوايمة قرابة 70- 80 شخصًا”. وورد في نفس المذكرات أن الحديث يدور حول “كتيبة يتسحاق”، والمقصود هو الكتيبة 89 في اللواء الثامن الذي كان يتسحاق سديه قائدًا له في ذلك الوقت. وعلى ما يبدو فقد هزت هذه المعلومات قادة الجيش، ومن ضمنهم سديه نفسه ويغئال ألون، الذي تولى وقتئذ منصب قائد الجبهة العسكرية الجنوبية. وقد جرت عدة تحقيقات في هذه القضية، ومن ضمنها التحقيق العسكري الذي كلف القيام به إيسار باري، والذي توقف في أعقاب العفو العام الذي صدر في شباط/فبراير 1949.

وأكد عدد من ضباط الجيش الإسرائيلي أنه جرى إعدام بعض سكان قرية الدوايمة الذين عُثر في حيازتهم على وثائق أو مقتنيات سُلبت خلال “المذبحة” التي ارتُكبت ضد سكان مستوطنة “غوش عتصيون”. وفي هذا السياق، كتب أحد قادة الكتيبة الإسرائيلية (التي نفّذت مذبحة الدوايمة) قائلا: “لقد تذكرنا أحداث عام 1929، وما حصل في غوش عتصيون… دماء الذين ذُبحوا فيها تدعونا إلى الانتقام”. كذلك دعا قائد الجبهة الجنوبية، يغئال ألون، في الأمر اليومي لـ”عملية يوآف”، بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر 1948، إلى الانتقام قائلًا: “هذه الليلة سينفذ اللواء انتقامه.. هذه الليلة سيتم الانتقام لكل أيام حزن حلف المحاصرين”.

ليس من الواضح هنا ما هو داعي الانتقام ولأي سبب، ربما بسبب صعوبة وضراوة القتال في المراحل التي سبقت المعركة ضد الجيش المصري والخسائر الجسيمة التي تكبدها الطرفان الإسرائيلي والمصري.

وعلى ما يبدو، فإن حقيقة كون المذبحة في الدوايمة ارتُكبت بقيادة إسحاق سديه، قائد لواء “البلماح” سابقا، والذي عُرفت عنه حساسيته تجاه مسائل الأخلاق و”طهارة السلاح”، خلقت حالة من الارتباك والحرج.

من جهته، قام يسرائيل غاليلي، رجل حزب “مبام”، والذي كان من المقربين جدا لبن غوريون في تلك السنوات، بتقصّي وفحص ما جرى في الدوايمة، وتوصّل إلى الاستنتاج بأن “الكتيبة 89 نفّذت في الحقيقة هذه الأعمال الفظيعة”، غير أنه أعرب عن رأيه قائلًا إنه سيكون “غريبا وسخيفا إلقاء تبعة ما حدث على عاتق سديه”.

وادعى أنصار اليسار (الإسرائيلي) من جانبهم، بصورة علنية وغير مباشرة، أن المتهمين بارتكاب المذبحة هم عناصر من منظمة “ليحي” سابقا، جرى ضمهم إلى صفوف الكتيبة 89، وهو ما شكل مصدر فخر واعتزاز لدى سديه. غير أن الادعاء بأن أعضاء “ليحي” سابقا هم الذين ارتكبوا المذابح، ليس صحيحا وليس مبررا. فالمذبحة التي وقعت في قرية عين زيتون، ومذبحة مدينة اللد- وليس هاتين المذبحتين فحسب- نفذتهما وحدات تابعة لقوات “البلماح”، التي تضم “خيرة أبناء الشبيبة”.

لقد طُرحت قضية مذبحة الدوايمة في جلستين على الأقل من جلسات الحكومة الإسرائيلية. ففي يوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1948، أي بعد 20 يومًا من وقوع المذبحة، كلف رئيس الحكومة ديفيد بن غوريون، المستشار القانوني للحكومة، يعقوب شمشون شابيرا (الذي تولى لاحقًا منصب وزير العدل)، بالتحقيق في “الأحداث” التي وقعت في القرية. وقد كان ذلك هو نفس اليوم الذي نَشَرَ فيه ألترمان قصيدته “حول ذلك”. غير أن النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق المؤلفة من رجل واحد، ما زالت حتى الآن سرية يُحظر نشرها. فالتقرير الذي يتضمن نتائج التحقيق المذكور موجود في أرشيف الدولة، إلا أنه لا يُسمح للباحثين بالاطلاع عليه، وذلك بموجب قرار أمين محفوظات (أرشيف) الدولة واللجنة الوزارية الخاصة، وبإذن ومصادقة من المحكمة الإسرائيلية العليا. كذلك، فإن التقرير الذي أعده إيسار باري لا يزال مغلقًا وسريًا حتى الآن.

في الظاهر، يبدو أن قصيدة ألترمان تتحدث عن أحداث اللد التي وقعت قبل ذلك بأكثر من أربعة أشهر. غير أن مناحيم فينكلشتاين ادعى في كتابه “العمود السابع وطهارة السلاح” أن قصيدة “حول ذلك” لم تكتب عن المذبحة التي وقعت في اللد، وإنما عن مذبحة الدوايمة التي وقعت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1948، قبل فترة قصيرة من كتابة القصيدة.

ويضيف فينكلشتاين أن الترمان علِم على ما يبدو من سديه عن المذبحة التي راح ضحيتها عدد كبير من أهالي القرية، وتوفرت لديه معلومات عنها أكثر بكثير مما أتت به القصيدة، إلا أنه لم يرغب في أن يحرج ويمسّ سديه، الذي كان صديقا مقربا منه، ولربما أيضا خشي من أن يؤدي كشف الحيثيات والوقائع الكاملة للمذبحة إلى دفع الرقابة العسكرية للتدخل من أجل منع النشر.

مع ذلك، لا يرى الجميع في القصيدة إدانة قاطعة للمذبحة. فقد كتب يتسحاق لاؤور، الذي يَعتَبر ألترمان شاعر بلاط معروفًا، بأنه “ليس من المستبعد أن القصيدة نُظِمت بطلب مسبق”. وفي رأيه، فإن “القصيدة كتبت لغرض تربوي”. ويعتقد حنان حيفر، الباحث المختص في شؤون الأدب، أن ألترمان يعرض في قصيدته صوتا يهوديا صهيونيا يدين في الواقع ما ارتُكب من أعمال قتل وحشية فظيعة، ولكنه مع ذلك لا يجرؤ على إلقاء اللوم على الزعامة السياسية، وعلى صديقه بن غوريون، الذي قاد سياسة الاحتلال والطرد.

تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن ابراهام فيرد، الذي كان أحد قادة العملية في قرية الدوايمة، روى في عام 1996 قصة احتلال القرية، وسخر فيها من ألترمان الذي كان جنديا في اللواء الثامن، إلا أنه (أي ألترمان) سرعان ما استُبعد من صفوف القوة المقاتلة، نظرا لأن الحرب لم تتسق مع مصادر إلهامه الشعرية. وقد كتب فيرد وقتئذ قائلا: “لربما تناهت إلى مسامع الشاعر أثناء تجواله داخل ثكنات اللواء العسكري، قصص جرى تداولها آنذاك حول احتلال الدوايمة، الأمر الذي شكل صدمة له، لا سيما في ضوء التهويلات والمبالغات في رواية ما حدث في القرية.

 

#ذكرى_مذبحة_الدوايمة