ثقافة وفن

مهمتنا العسيرة القادمة: مهند النابلسي

 مواكبة الانفجار المعرفي والتخلي عن النمطية التقليدية:

أمثلة عديدة وحالات عملية لممارسات مغلوطة وتوجهات عقيمة في الادارة والصحافة والتدريب…

http://t1.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcT6dtZgHXJSQsjbdj8moUZEH8UmvJIIRcBbex2sDyFX_6zNwfBthttp://t1.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcR0fBdh6YRoBn1wXZV_JITcrThdI5z-OCdF3gociispI6AboQuzdA

في غمرة التغييرات الهائلة التي تعصف بالعالم والمنطقة العربية  خصوصا، ماذا يتبقى لنا غير العلم سلاحا  نقاوم به تقلبات العصر  وصنوف الفوضى اللاخلاقة التي تعصف بالمنطقة؟ لقد شبعنا تنظيرا ولغوا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفقه، ومن المفيد أن نتحدث قليلا عن تخلفنا العلمي الحضاري المزمن القاهر:

حقا ان التطور العلمي- التقني مزعج تماما لطبيعة حياتنا الاتكالية القدرية التي تعتمد على اللامبالاة والاسترخاء ، لأنه يتطلب أنماطا انضباطية صارمة يغلب عليها المنطق،  وتغيب عنها اشكال الفوضى والعاطفة والتعصب والهيجان، ولكنا حقا لا نملك خيارات كثيرة سوى أن نعرض أنفسنا بقصد لصدمة “فكرية-علمية-ثقافية” تهز الركود العربي من أساسه وأركانه …حتى نستيقظ من سباتنا التاريخي العميق، ونهرع قبل فوات الأوان لنواجه المخططات الاسرائيلية –الاستعمارية/الغربية  –الطائفية المرعبة  التي تسعى لسرقة الموارد والأوطان وتشتيت البشر ونشر الاقتتال الداخلي والكراهية والطائفية والاقليمية …

فما مدى مساهمتنا كعرب  في ثورة المعرفة العالمية الجامحة ؟ لقد قيل أن الخبرة المكتسبة خلال ال 65 عاما الماضية  توازي تلك المتجمعة خلال ال650 سنة السابقة، كما أن الخبرة المكتسبة لهذه الأخيرة توازي  الخبرة البشرية  المتكونة خلال ال 6500 سنة السابقة لها في هذه المصفوفة، واعتمادا على هذا المقياس الدال  فان الخبرة المكتسبة  في شتى صنوف المعرفة  خلال الأربع او الخمس سنوات او حتى الست سنوات القادمة  ستوازي  تلك المكتسبة خلا ال 65 سنة الماضية وهكذا …

لقد مس الانفجار المعرفي الكاسح “المعرفة النظرية والتقنية التطبيقية” في آن واحد، وفيما يتحدث العلماء عن ظاهرة التفكك الاشعاعي ” النصف-حياتي ” لبعض العناصر الاشعاعية، يتحدث  الخبراء الان عن ظاهرة مماثلة تمس التطور في المساقات العلمية: فالعمر النصفي  للهندسة الكهربائية  والكميوتر  مثلا أصبح من سنتين لثلاثة فقط ، بينما كان المهندسون  من ثلاثين سنة خلت يعيشون لمدة 12—14 سنة مع معارفهم الهندسية المتقادمة!

يقول أحد الخبراء انه يتوجب على مهندس “عصري” متخصص في تقنية “أشباه الموصلات” (كمثال) أن يقرأ يوميا ما بين 40—50 مقالا متخصصا ليتمكن من مجاراة ومواكبة التطورات العلمية في تخصصه… وأتحدى بثقة أنه لا يوجد عربي واحد متخصص يقرأ حاليا مقالا واحدا يوميا بمجال تخصصه، وقد وصلت لهذا الاستنتاج الواقعي بطريقة احصائية طريفة رصدتها شخصيا، حيث كنت ارسل بقصد احيانا مقالات متخصصة بالجودة لحوالي 40-50 شخص ولا احصل بالمقابل على تغذية راجعة الافيما ندر ومن شخص او شخصين واحيانا ثلاثة بالحد الأعلى وربما من منطلق المجاملة لا غير،  مع أني كنت اقصد ارسال مقالات قصيرة مبسطة وواقعية وبعيدة عن التعقيد والتخصص والاصطلاحات، كما لاحظت نفس الظاهرة في معظم الحالات التي تتطلب الجهد والمثابرة والاطلاع ومتابعة المستجدات، ونرى ذلك جليا في الكثير من المقالات السياسية والثقافية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية …التي تجتر وتكرر نفس الموضوع ونفس الأراء والحقائق وكأن الزمن قد توقف، حتى أصبح القارىء ينفر من قراءتها كاملة لأنه اصبح يعرف مضمونها مسبقا من العنوان المكرر،  وللطرافة أسوق مثالا معبرا من مجلة الناقد اللبنانية الرائعة ( التي اندثرت منذ أكثر من عقد ونصف) ، حيث وجدت وأجد الكثير من المقالات المعبرة والتي تبحث في الأحداث السياسية والثقافية والأدبية والاقتصادية وحتى الاجتماعية  بعمق وروح نقدية طريفة  تكاد تواكب أحداث وتداعيات عقدنا الجديد وكأنها ذات بعد مستقبلي رؤبوي، او ربما دليل على اجترارنا وانجمادنا كرهائن في نفس الحالة الزمنية “السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية” الراكدة وكان الزمن قد توقف!… وحيث تتفوق أحيانا  بطروحاتها المتنقدمة والكم المعرفي على مثيلاتها من المجلات العصرية  “كالمشاهد اللبنانية” الاسبوعية ( كمثال معبر والتي اختفت منذ اكثر من خمس سنوات والممولة من دولة خليجية)، والتي كانت  تقدم الخبر والمقالة والتحليل السطحي المنحاز كسندويش الهمبرغر (كغذاء سريع) ينساه الانسان مع انتهاء تناوله، حتى أن بعض تحاليل العرض السينمائي فيها تكاد لا تفهم منه شيئا لرداءة اللغة وسطحية الطرح والترجمة الركيكة وبلا أدنى جهد واحترام لذكاء القارىء وثقافته واطلاعه، حتى ان ابني المراهق أيامها كان يسخر من المضمون والعناوين، وكمثال جديد طازج لنقارن بين “رأي اليوم” الألكترونية وصحيفة “القدس العربي” الورقية، وكلاهما يصدر من لندن، حيث تجد التنوع والثراء الثقافي والرأي الآخر في الصحيفة الألكترونية الاولى، فيما تكاد تشعر وكأن جوقة موسيقية واحدة “مدفوعة الأجر كموظفين ملتزمين” هي التي تسيطرعلى كافة مفاصل الصحيفة الورقية الثانية، حيث لا يتجرأ احد من الكتاب (الا ما ندر) للخروج عن النص العام، وتوجهات الصحيفة السياسية المعروفة وصولا لحالات من “اللامنطق والتهريج والاستخفاف بعقول القراء المساكين”، ورغبة جارفة “مدفوعة الأجر” لتضليل الرأي العام العربي البائس بلا ادنى شعور بالمسؤولية القومية والوطنية والفكرية والاجتماعية، على عكس “رأي اليوم” التي تتمتع بالنزاهة والحيادية والجراة والانفتاح، وتستقطب كتابا مختلفين من جميع الأقطار العربية، غير مدفوعي الأجر ولا ساعين “لأكل العيش والترزق”، وانما يكتبون من منطلق الرغبة والهواية وابداء الرأي وتعميم مختلف الأفكار والتوجهات بحرية بلا ضوابط قمعية، وهذا ربما ما نحتاجه حقا في حياتنا اليومية الراهنة لمواجهة واقعنا السياسي- القتصادي- الثقافي –الاجتماعي المتردي البائس الراهن!       

لقد اصبح التغيير “هدفا ديناميكيا متحركا” وبدونه لا يمكن تخيل النجاحات الكبرى في المنافسة العالمية لأسواق السيارات والألكترونيات المختلفة والموبايلات والحواسيب الشخصية مثلا …وسنبقى نعاني من الفوضى والتخلف والبطالة وهجرة الأدمغة طالما لم نبدأ بتطبيق استراتيجيات جديدة تعتمد التدريب  والتعليم المستمر في الجامعات والمعاهد والكليات الأكاديمية والبوليتكنيك ، كما في المؤسسات الصناعية والخدمية والزراعية والحكومية المختلفة…والمؤسف هنا وكمثال معبر ومنذ اكثر من خمس سنوات كنت وما زلت أعرض في حسابي على الانترنت رغبتي المتحمسة الجادة لتقديم ندوات ومحاضرات متخصصة في الحيود السداسي والجودة العصرية، ولم القى التجاوب الا مرتين فقط (من احدى الجامعات الخاصة المتميزة ومن مركز تدريب المهندسين)، وقد ارسلت عرضي لحوالي عشر جامعات حكومية وخاصة ولم القى تجاوبا يذكر، بل وصل الأمر والاستهتار بادارة احدى الجامعات الخاصة البعيدة في ضواحي عمان أن قام مدير الجامعة “الدكتور-النزق” بالغاء الفعالية قبل نصف ساعة فقط… بحجة ضيق الوقت وعدم توفر القاعة مع أن النشاط كان سيعقد في يوم الاجازة الاسبوعية “السبت” بحضور الطلبة المهتمين، ولم يهتم المنسق بالاعتذار الجدي لهذا السلوك الفوضوي “الجلف الغريب” بعد ان تكبدت عناء الوصول لحرم هذه الجامعة وايجاد موقف لسيارتي، وهكذا كان ولا تعليق، وترى نفس الممارسات الجاحدة العقيمة كذلك في بعض المواقع الألكترونية المتعالية، والتي تتعامل مع الكتاب باستهتار وفوقية بلا احترام وتقدير مع أن هؤلاء الكتاب بكتبون فيها دوريا بالمجان!

http://t0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcQuk8hsKn0RsI6OfJ9GlUZ2nTi3YEEv9iNLepN_uEhLOa9W0g0zMghttp://t1.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcS-eBHXFFo9bApZUVlsqqh8Z_OZqM13UzyAt59xJH9Uv00SOCZJ

لقد ساعدت ثورة الاتصالات والانترنت على تسهيل نقل المعرفة بشكل لم يشهد له مثيل من قبل ، فبعض  الدورات المتخصصة تعقد الآن حاليا في صفوف تعليمية  افتراضية (عن بعد)، وتبث يوميا  لمدة خمس ساعات بواسطة الأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية، وبذلك قلت الحاجة للانتقال والسفر بغرض اكتساب المعرفة وزيادة التخصص، واصبحت بعض الجامعات المحلية قادرة على تغطية اكثر من حوالي 50 % من المادة التعليمية بواسطة الأقنية التعليمية الفضائية، وهكذا يمكن لكل واحد منا ان يبقى في مكان عمله وان يتلقى بالانتساب او بالتعلم عن بعد المعرفة المتخصصة المنتظمة التي تساعده على تطوير مقدرته وكفاءته، وكمثال فقد شاركت شخصيا بعد “تقاعدي المبكر” بأربعة مساقات تعليمية متطورة بالجودة المتقدمة ، مع متابعات افتراضية حية اسبوعيا باشراف استاذ متخصص، كما قدمت الامتحانات اتوماتيكيا بواسطة الانترنت  ،  وشعرت فبما بعد أن هذه المعرفة الضخمة المتخصصة تضاهي بل قد تتفوق احيانا على اساليب التعليم الجامعي التقليدية لأسباب تتعلق باستثمار الوقت والتركيز وجودة التعليم العملي الذاتي وكثرة الأمثلة العملية والحيادية والجدية في التعامل…

http://t2.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcSKCmjSrEowtaWOylpseofMKAuKiYsy5H0s0wp9Ef9mOV2vVGsGhttp://t0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcQgLeNwAOyRY6HGNL4to7FCMaIfLrbjS5uXzCZgOOY24zep8GdiWw

لا بد من مواكبة ” الانفجار المعرفي” بالتعليم المستمر مدى الحياة، ويلزمنا في هذا الصدد تطوير منهجي –جذري  لنظم التعليم العربية، وتسخير جزء من المبالغ الطائلة  التي تذهب احيانا لتغطية نفقات البعثات والدورات الخارجية المتعددة (والتي تعني احيانا التسوق وشمات الهوا والمياومات الكبيرة)، وذلك من اجل تطوير استراتيجي لبرامج التلفزيون التعليمي  واستخدام أنظمة الارسال بالأقمار الصناعية  والفضائيات  والأمواج الدقيقة  والانترنت وغيرها من وسائل الارسال العصرية المتطورة…راجيا أن يلقى مقالي وكلامي المعزز هذا بالأمثلة الواقعية والاحصائيات الصدى المطلوب عند اصحاب القرار والمسؤولين المبجلين، وأن لا يطير وتطير كلاماته هكذا عبثا في الهواء!  

 مهند النابلسي

كاتب وباحث/عمان – الاردن

Mmman98@hotmail.com

 

 

           http://t0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcTSlSvW30ZX3EKbJBHPYSkUFtp87sKlpbRk1k0GMnaYqPBglSSf