من هنا وهناك

هل عَرف العلم ما في الأرحام حقًا ؟؟ – م. أحمد اليمني

 

مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل؛ وهى المذكورة في قوله تعالي: “إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [لقمان:34]، وقد جاء ذكرها أيضًا فيما رواه الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله”: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .. الآية } وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى علمها عن جميع الخلق فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب فضلًا عن غيرهما، وقد اختص سبحانه وتعالي بعلم عظام الأمور كالقيامة والموت والقدر والغيث والخامسة هى: “علم ما في الأرحام”، وشأنها لا يقل فى العظم عن الأخريات.

بيد أن القرن الذى نعيشه، وما شهدناه من ثورة علمية غير مسبوقة، جعلت المتفكرين في آيات الله عز وجل في الكون وفي الخلق يعيدون قرءاة الكتاب والسنة بنظرة أعمق ليتفكروا فى خلق الله فيزدادون إيمانًا ويقينًا، كما أن العلم كلما أبان عن معلومة منه لعلماء الغرب جعلهم يتبينون آيات الله سبحانه وتعالي وذلك مصداقًا لقول الحق سبحانه وتعالي: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” [فصلت:53]، وكثيرًا ما يتردد حول مسامعنا أسئلة بشأن قضية “معرفة ما في الأرحام” والتي جاء ذكرها من ضمن الآية الكريمة: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}، فتجد السائل يسأل فيقول: كيف نوفق بين علم الأطباء الآن بمعرفة ذكورة الجنين من أنوثته، والآية الكريمة؟

وتجد من يتعدى سؤاله جنس الجنين فيقول ان الأجهزة الأكثر تقدمًا تكشف أدق تفاصيل جسم الجنين، حتى باتت عمليات تصحيح مشكلات في جسم الجنين وهو فى رحم أمه قبل ولادته أمرًا عاديًا؛ فكيف نفهم ذلك في ظل الآية الشريفة؟

 الإجـــــابة : في البداية وقبل الكلام في هذه المسألة أحبُّ أن أبيّن نقطتين:

الأولى: أنه لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبدًا، وأنه إذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة، فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة لها، وإما أن يكون فهمنا لدلالات الألفاظ ومجمل الآيات غير صحيح؛ لأن صريح القرآن الكريم وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبدًا.

الثانية: ان المؤمن الحق الذى دخل الإيمان قلبه لا يبحث عن صحة الآية بما يترأى للعلم والعلماء، بل يبحث في صحة ما يأتى به العلم والعلماء وذلك إن وافق الكتاب والسنة، أو على الأقل إن لم يعارضهما.

نعود لقضيتنا ونسأل نحن سؤالًا يُعيد الكُرة مرة أخرى فى ملعب الطرف الآخر؛ ونقول: من قال ان معرفة جنس الجنين لم تُعرف إلا فى القرن الماضي فقط؟

الحقيقة: ان معرفة جنس الجنين كانت معروفة وبدقة قبل نزول القرأن الكريم بالالاف السنين وبأكثر من طريقة!!

نعم؛ هذه حقيقة تُثبتها برديات أجدادنا الفراعنة، وقد كانت لهم طرقهم في ذلك والتى أذكر منها كمثال: وضع القليل من بول الأم على بذور القمح وبذور الشعير كلا على حدة، وعلي حسب النبتة يُعرف جنس المولود، وهذا فقط ما وصل إلينا من علوم الأقدمين، ومن ثَمَّ؛ تكون الآية الشريفة نزلت إلى عالمنا وهناك من الناس من يستطيع بعلم الله أن يعرف ما في الأرحام –على حد الفهم السابق للآية- وعليه فيكون القول قطعيًا بأن الأمر أكبر من معرفة جنس المولود ، بل أزيدك من الشِعر بيتًا وأقول أن الأمر أكبر من أى شيء يخص جسد المولود. فهذه أمور قد علمها الله سبحانه لبعض خلقه، وأن حقيقة الآمر تتعدى ذلك لتتماشى مع عِظم “مفاتح الغيب” الأخرى التى ورد ذكرها في الآية الشريفة.

 والحقيقة أن سادتنا العلماء قد أبانوا وتكلموا بكلام بليغ في هذه القضية؛ نتعلم منه كيف يفتح الله على عباده من الردود والإجابات النورانية .. والتى من كثرتها لا أستطيع أن احصيها، ولكن يمكن لأى باحث الرجوع إليها على شبكة المعلومات -إن أراد ذلك- وما كلامى هنا -إن اقحمت نفسى تطفلًا بين ساداتنا- إلا كهامش فى أخر صفحة من صفحات أنوارهم، لا لأباريهم، بل طمعًا فى أن يرزقنى الله تعالي صحبتهم فى الجنة.

 أقول مستعينًا بالله عز وجل: ان الآية الشريفة تتجلى أنوارها إذا ما جمعنا فهمها مع قوله تعالي من سورة الزمر: “يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ” [الزمر:6] فالخلق في الأرحام يكون أطوارًا، وكل طور في حقيقتة خلق مختلف عن سابقة كليًا ” خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ” فهذا خلق وهذا خلق آخر. وأن الله سبحانه وتعالي قد سمح للإنسان أن يرى ويعرف جزءًا صغيرًا من طور واحد من الأطوار التى يتكون منها المخلوق، وهو الطور المادى – أى الطور الملموس المحسوس الذى تقع محدداته فى نطاق الحواس الخمسة- أى الجسد فقط لا غير..

أما الأطوار الأخرى التى تصل في عِظم مقامها بأن تتساوى مع عِلم يوم القيامة وموت الإنسان، فمنها انتقال النفس من عالم البرزخ إلى الحياة الدنيا لتدب الحياة فى تلك “اللُحيمة الحمراء” التى تتشكل فى الرحم بطريقة غيبية لا نعلمها، والتى لا يعرف سرها إلا خالقها، فسبحانه هو واهب الحياة وسبحانه هو سالب الحياة، فهو الذى يحيى ويميت، وهذا شأن لا يكون إلا لله الواحد الأحد ولا سبيل لمعرفة الإنسان به مهم بلغ من علم، وبوجودها يتحول الخلق من شئ إلى شئ آخر، أى من خلق إلى خلق آخر.

أيضًا من الأطوار التى حُجب علمها عن خلق الله أجمعين “نفخة التكريم والتشريف” وهى التى تُنفخ فى الجنين على المائة والعشرين يومًا، والتى بمقتضاها ينتقل الخلق إلى مرتبة الإنسانية، مرتبة الإختيار، وهذه النفخة القدسية هى التى تُنير القلب فتعرف المخلوق الأول بخالقه سبحانه وتعالي، وبها تنعقد الصلة وتنشأ “العروة الوثقى” التى لا انفصام لها. وبها يتسلم المخلوق “الأمانة”، وبنفخها تتحول الذات البشرية إلى ذات إنسانية مُضيئة بنور الفطرة -أى بنور الوحدانية والعبودية لله عز وجل- ويتكون خلق جديد مُكرم وهو “الإنسان”.

من السابق نوقن بضئالة علم البشرية، وصدق الله العظيم إذ قال “وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” وهى الأية رقم “85” من سورة الإسراء والتى بدئت بقوله تعالي “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” وكأن الله سبحانه وتعالي يُريد أن يقول لنا أنه مهما أعطانا من علم لنتعرف به على خلقه فى الأرحام؛ فلن نستطيع معرفه شيء عن الروح التى تُبث في الأرحام، وأن كل العلوم الموهوبة للإنسانية فإن وصفها اللائق بها أنها “قليلة” .. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، هذا والله تعالي أعلم بمراده، وما كتبته بيدي لا يزيد علي فهمى أنا العبد الضعيف الجهول للآية الشريفة، فإن أصبت فمن فضل الله تعالي على عبده الجهول، وإن أخطأت فمن نفسى والشيطان