الأرشيفثقافة وفن

رماد الأحلام: أهي الرواية الأولى لجميل عوّاد؟ – رشاد أبوشاور

وهو في الرابعة والثمانين يفاجئ الفنان الكبير جميل عوّاد من عرفوه ممثلا، وكاتب سيناريو، ومخرجا مسرحيا، وديكوريست متميز، بروايته الأولى (رماد الأحلام)، والتي ستصدر قريبا، فما الذي دفعه لكتابة الرواية وهو في هذا العمر؟!

يقول المثل الجميل( يموت الزمّار وإصبعه يلعب)، وجميل عوّاد الفنان متعدد المواهب زمّار بامتياز، وهو، بعد أن أقعدته حادثة سقوطه عن جواد عندما كان يؤدي دوره في مسلسل يصوّر في المغرب، لا يمكن أن يتوقف عن الإبداع، ومواصلة تقديم رؤيته في أحوال الأمة، وانحدارها، وبؤس أوضاعها، وما يعانيه الإنسان العربي من قهر وفقر ومهانة، بل ومسخ لآدميته.

تبدأ الرواية بحلم يشبه أن يكون مشهدا سينمائيا كابوسيا لحركة ناس في ميدان، و لبرق يشق السماء ويمزقها، يليه رعد يزعزع الأرض وما فوقها. كل ما في الميدان يثبت في مكانه وتنعدم الحركة. الغمامة السوداء تنخفض وتلتهم الميدان. عتمة وصمت مفاجئ، تنجلي الغمامة بالتدريج عن الميدان بعد أن تحوّل كل ما كان فيه إلى رماد. أكوام من الرماد. رماد..رماد..رماد وصمت ورماد.

صوت رقيق دافئ يخترق الصمت الرهيب:

-بابا ..بابا حبيبي. لماذا تحدق بي هكذا يا أبي؟

ويدهش الأب الحالم لنجاة ابنته!

ثم يستيقظ. ويبدأ في سرد الرواية، دون أن نعرف اسمه، أو أين يعيش، وفي أي زمن بالضبط، ولكننا نُقدّر بأنه يعيش في زمن الرماد والخراب، زمن الهزائم العربية الراهنة الممتد.

كسيناريست اعتاد جميل عوّاد أن يصف المشاهد في أي مسلسل يكتبه، إعدادا، أو تأليفا، على أن تكون الكتابة ( دقيقة) و( موضوعية) بحيث ترشد المخرج، والممثلين والممثلات، بالضبط إلى ما يفعلون، فلغة السيناريو لا تحتمل الجماليات التزيينية، بل الموضوعية، لأنها ستتحوّل إلى حركة، وفعل( تمثيل) لتقديم الشخوص والبيئة، واللغة تكون مُرشدة وموجهة،لا مبهرة ثابتة على الورق مهمتها امتاع القارئ.

يقول في المقدمة: لا أستحسن اللجوء إلى القواميس التي تفرض المعاني.( ص9)

جميل عوّاد ليس غريبا عن عالم الرواية، وكتابتها، وفنها، هو المثقف الكبير، والقارئ النهم، والمحاور والمتأمل والمتابع، وصاحب الرأي والمواقف الواضحة الجريئة في كل قضايا الأمة، وفي المقدمة: المقاومة لتحرير فلسطين، وتحرير كل الأرض العربية، وفي الجوهر تحرير الإنسان العربي.

في تقديمه، وتبريره لكتابة روايته الأولى ، وهو في هذا العمر يقول: تمرّست بالكتابة سّرا، إلى أن قررت خوض معركتي العلنية، فكتبت للصحف الخاطرة، والمقالة والقصّة القصيرة، ، قبل أن أكتب النصوص المسرحيّة للصغار والكبار، والسيناريوهات التلفزية والسينمائية.

الآن، وانا في الرابعة والثمانين من العمر قررت ان لا أخرج من الحياة دون أن أحمل معي روايتي الأولى، وحاولت أن تكون متفرّدة غير مستنسخة…(1)

جميل عوّاد لديه ما يقول، وهو في هذه الرواية يقوله بلغة (مضبوطة) وهذا سّر جماليتها، ودقتها، فلا استفاضات ومحسنات للتجميل، وإبهار القارئ، ولا تثاقف على القارئ، فهو يذهب إلى هدفه، بشخصيات قليلة، عبر رحلة في القطار إلى..إلى أين؟

شخص صحفي لا اسم له، يعمل في صحيفة تواصل الصدور من الإعلانات، وهو يكتب بصدق وصراحة، ولكن رئيس التحرير- والذي يصفه بأنه يشبه عجل البحر- يطلب منه بعد جدل حاد أن يأخذ إجازة مفتوحة دون المس براتبه، بعد أن يرفض التخلّي عن (حدّة) نقده في مقالاته بما يمس ( المعلنين) الأثرياء الذين بفضل إعلاناتهم تصدر الجريدة.

يشتري بعض الهدايا لأسر،، زوجته وابنته الذكية البالغة عشرة أعوام، ويعود للبيت، ويفاجئ عائلته الصغيرة بالهدايا، وردّا على دهشة زوجته وابنته يبلغهما بأن هذا اليوم عيد، وأنه ارتجل هذا العيد، ويقدم هدية لزوجته شالا من الكشمير، ويفرح ابنته بهدية تسرها(أرجوحة)، ثم يخبر زوجته بأنه مُنح إجازة مفتوحة، وأنه سيسافر في الغد، دون أن يصطحبهما معه، فابنته في المدرسة، وأمها لا بد أن تبقى معها للعناية بها …

صحفي ناجح مشهور ومحترم،، ورّب أُسرة سعيد، زوجة لطيفة جميلة، وطفلة ذكية، فماذا ينقصه؟!

في اليوم التالي يسافر عبر قطار عتيق هرم، يقوده شخص يشبه أن يكون جنرالاً سابقا، يتجه إلى جهة ما، وهو يتأمل التلال الجرداء والتربة الرمادية، إلى أن يصل إلى بلدة له فيها صديق. ويفاجأ بأنه انتحر!

ينزل في فندق بالبلدة، وتبدأ مفاجآته وتتوالى، ويتعرّض في مغامرته لمخاطر، وتتكشف له جوانب من حياة غامضة، ومزيّفة، وتفيض بالأكاذيب.

مشاهد سريالية، وشخصيات غاضبة وغامضة، يلتقيها في عربات القطار أثناء تنقلاته بحثا عن أصدقاء قدامى، يفاجأ بزيف بعضهم – استاذه في الجامعة، وهو منافق يسلك نقيض القيم التي كان يروّج لها- ونساء تائهات، وأبطال تمّ تزييفهم ووضع تماثيل لهم وهم أحياء، في حين أن الأبطال الحقيقيين نُسوا وتمّ تجاهلهم. تثيره مدينة للكفاءات العلمية المتميزة، لأشخاص هرموا، ثم حشروا في مكان لا يزوره أحد إلاّ بعد جهود مغامرة، ثم ينتهون ضحايا برصاص بعضهم البعض…

هل رواية جميل عوّاد رمادية، يائسة، وهل هذه هي ( شهادته) عن واقع حال عرب هذه الأيام وبلادهم المحكومة بالقهر والفقر والقمع والخراب؟!

كصحفي يرسل مقالات عن مشاهداته ولقاءاته، فيكتشف أنه قد تم حذف كلمات وتبدلت المعاني، فيعرف أن تلاعبا تم تدبيره عندما مُنح إجازة لإبعاده فترة عن الصحيفة، واستغفل بالعبث في مقالاته دون علمه!

يعود بعد رحلته ( الاستقصائية) في البلاد التي لا اسم لها، وهذا يعود إلى تشابه أحوال بلاد العرب، وإلى أن الكاتب لا يريد ان يوظّف رؤيته الرمادية في مواجهة جهة واحدة في بلاد العرب، أو نظام حكم بعينه، فكلهم مستنسخون، وسياساتهم خراب.

تنتهي الرواية التي لا يمكن تلخيصها، لترابط فصولها الصغيرة المتواشجة، والتي تشبه أن تكون مشاهد في مسلسل محكم الحبكة، بمشهد يمكن أن يكون مفسرا لكل ما مرّ به الصحفي الذي كابد التجربة المًرّة في رحلته…

يعود إلى بيته، فيرى ابنته تجلس على أرجوحتها – التي كان أهداها لها – وهي تبدو مأخوذة بأمر صادم، والثلج يغطي جسدها، وينفذ البرد غلى عظامها، فيحملها ويدخل بها إلى البيت ليفاجأ بامرأته وهي تأتزر بالشال الكشمير الذي أهداه لها:

ضحكات زوجتي الحبيبة تشيع في أجواء المنزل،

لا بد أنها عرفت بوصولي.

تأتي من غرفة النوم مقهقهة شبه عارية، وقد أحاطت ردفيها بشال الكشمير.

التقت نظراتنا فغابت القهقهات، وثبتت كتمثال حجري.

التحق بها السائق المغرم بالتعرّي

لحظة هاربة من إيقاع الزمن.

كل شئ تفتت واضمحل فتحوّل إلى رماد.

ستارة من رماد فصلت بيني وبينهما

ابنتي تغلق عينيها براحتيها

تجسد حلم الرماد وصار حقيقة

ثم : انتهت ( الرواية)  والحياة تستمر.

تبدأ الرواية بالحلم الكابوسي، حلم الرماد، وتنتهي بالرماد الذي صار حقيقة، الرماد الذي هو التعبير عن الخراب العميم، الخراب الذي يُخرّب الحياة السريّة، ويدمّر الحب .. في ( الزمن الخراب)!

تمنيت لو أن النهاية لم تمّس الزوجة، لكونها عير مقنعة، ومفاجئة، ومقحمة، خاصة وحضورها في الرواية جميل، والحب يجمعها مع الزوج الصحفي النزيه، وهي تعيش معه راضية ومحبة.

ولكن الطفلة التي تغلق عينيها براحتيها الصغيرتين، وانهمار الثلج..يجعلان الحياة تستمر، والطفلة هي المستقبل الناصع الطاهر كالثلج، وهون وحتى لا يتهم باليأس، وبعد مشهد الطفلة يكتب : والحياة تستمر…

رواية جميل ليست تقليدية، وهي قريبة في بعض فصولها ومشاهدها من مسرح الللامعقول، والعبث، والغضب، وجميل مسرحي كبير، وصاحب وجهة نظر في حياتنا العربية، وهو غاضب، ومتألم، ومقاوم ببسالة، ومنحاز للجمال والبراءة، وهو صاحب تجرية غنية مدهشة مفعمة، أتمنى لو يكتبها بما فيها من وقائع وفصول مثيرة مدهشة…

في سهرتنا الجميلة يوم الأربعاء 25آب 2021،  ببيت الفنانين الكبيرين جميل وجولييت عواد، وحضور صديقي الأستاذ المثقف مصطفى نجم، أخبرني صديقي جميل بانه يوشك أن يفرغ من كتابة روايته الثانية. .إن امتد به العمر…

أُمنياتي ان يمتد العمر بالصديق العزيز الفنان الكبير جميل عواد رفقة زوجته الفنانة الكبيرة جولييت عوّاد.