ثقافة وفن

الصّورةُ والرّمزُ في قصيدة- فُسْتَانُ زَفَافِكِ اعْشَوْشَبَ كَفَنًا للشاعرة آمال عوّاد رضوان

 

بقلم الناقد: عبدالمجيد عامر اطميزة

الصّورةُ والرّمزُ في قصيدة- فُسْتَانُ زَفَافِكِ اعْشَوْشَبَ كَفَنًا للشاعرة آمال عوّاد رضوان

كَوْكَبَةٌ مِنْ وَسائِدَ ضَبابِيَّةٍ

تَغَشَّتْ أَمْواجِي.. بِأَشْواكِ الشَّمْسِ

وَلَمْلَمَتْ بِتَوْبَةٍ هادِرَةٍ حِبْرًا

وَسَمَتْهُ أَلْوانُ فَراغِكِ

بِمَواعِيدَ رَخْوَةٍ.. انْطَفَأَتْ صامِتَة!

 

عَلى إِيقاعاتٍ جَنائِزِيَّةٍ باهِتَةٍ

أَبْحَرَتْ أَهِلَّةُ الْكَلامِ.. بِكَوْنِ أَسْرَارِكِ

لِعَمِيقِ مَجْدٍ عَتِيقٍ مَسْلُوخ!

 

مَنَادِيلُ أَمَاسِيكِ جَارِحَةٌ

تُ مَ زِّ قُ مَآقِيَ فَرَاشَاتِي

بِتَنْهِيدَاتِ بِلَّوْرِهَا.. بِأَقْفَاصِهَا الْمُفَخَّخَةِ

كَيْفَ أُغَافِلُ مِحْرَقَةَ ضَوْضَائِكِ

وَفِي قَوَافِي هَوَادِجِي.. أَبْجَدِيَّةٌ تُزَمْجِرُ وَلاَ تَنْطَفِئُ؟

مَوَاسِمُ وَيْلاتٍ ذَابَتْ أَحْبَارُهَا

فِي هَشِيمِ مَحَابِرِكِ الْمَغْدُورَة

دُوَاةُ الطُّهْرِ.. تَوَهَّجَتْ بِآثَامِهَا الشَّاحِبَة

وَعُيُونُ الْبَنَفْسَجِ اصْفَرَّتْ بِفُوَّهَةِ أَلَقِها

أَكَأَنَّمَا شُرِّعَتْ.. لِطَرْفَةِ احْتِضَارٍ لاَ يَرْمشُ؟

 

أَيُّ جُنُونٍ ذَا.. يَرْتَجِي خُطَى التَّمَاثِيلِ تَمَهُّلًا؟

أَيُّ فَجْرٍ ذَا..يَتَشَرْنَقَ دَيَاجِيرَ مَنْفًى

عَلَى جُفُونِ الْمَغْنَى؟

كَيْفَ لانْحِنَاءَةِ زَفْرَةٍ.. تسْتَقيمُ شَهْقَةً

فِي فُؤَادِ الْمُسْتَحِيلِ؟

 

وِشَايَةُ سِرَاجِكِ..

أَسْرَجَتْ تَجَاعِيدَ زَمَاني.. بِمَرَايَا الْخَطَايَا

غَطَّتْ أَرْوِقَةَ غُرْبَتِي.. بِأَدْعِيَةٍ ضَبَابِيَّة!

 

ضِحْكَةٌ مُتَثَعْلِبَةٌ ارْتَجَفَتْ.. طَيْشًا

وَ ا نْ هَ مَ رَ تْ

خَلْفَ سُدُودِ هَوَاءٍ جِدَارِيٍّ

كم تَهَالَكَ صَدَاهَا..

عَلَى قَارِعَةِ نَهْدِ عَاصِفَةٍ!

 

سَلْمٌ.. يَصْعَدُ دَرَكَاتِ سُلَّمِهِ

يَفُكُّ خِمَارَ انْتِظَارٍ.. تَوَارَى خَلْفَ أَزْرَارِ أَدْرَاجِهِ

وَيسَقُطُ عَارِيًا.. إِلّا مِنْ عُرْيِهِ!

لكِنَّهَا

مُدُنُ غُفْرَانِكِ الْمُقَنْدَلَةِ بِفُصُولِ خُيُولِكِ

أبَدًا.. مَا طَالَهَا زَبَدُ يَأْسٍ

وَإِنْ عُلِّقْتِ.. عَلَى أَسْوَارِ أَعْرَاسٍ مُؤَجَّلَةٍ

وَإنِ اعْشَوْشَبَ فُسْتَانُ زَفَافِكِ.. كَفَنًا

لَيْلِي اتَّقَدَ.. بِظُلْمَةِ حِكَايَاتٍ مَخْمُورَةٍ

وَبِرَعْشَةِ بَدْرٍ احْتَلَكَتْ ضَفَائِرُ شَحَارِيرِي

تَتَوَسَّلُ بُؤْرَةَ ضَوْءٍ.. أَغْلَقَهَا طِينُ الْعَتْمِ

لكِن..

غُبَارَ عَيْنَيْكِ طَوَى آمَالِي

تَعَرْبَشَ أَدْغَالَ احْتِرَاقِي

وَمِنْ عُمْقِ الظَّمَأِ انْبَثَقَ سَاقِي أَتْرَاحِي

يَعْتَصِرُ صَوْتيَ الْمَحْشُورَ.. فِي أَوْرِدَةِ الأَقْدَاحِ!

 

كَمْ مِنْ لَهْفَةٍ جَذْلَى.. تَلصَّصَتْ خُصُلاَتُها

عَلَى أَكْتَافِ الأَوْهَامِ.. وَمَا انْكَمَشَتْ!

أَيَا أَنْقَى الأَتْقِيَاءِ..

يَجْتَاحُنِي فَقْدُكِ التَّوْأَمُ!

كُوبُ  تَ بَ عْ ثُ رِ ي 

يَلْثَغُ عَلَى شِفَاهِكِ شَقَاوَةً:

أمَّاااااااهُ.. قَاطِرَاتُ وَجَعٍ..

 تَلَوَّتْ عَلَى سِكَّةِ يَقِينِي الْمُهْتَرِئَةِ

ملَاءَاتُ خَرَائِطِي..

تَنْقُضُنِي.. تَنْفُضُنِي مِنْ تَحْتِ عِطْرِ أَكْفَانِي

تُؤَرِّقُنِي.. تُورِقُنِي قَصَائِدَ عُمْرٍ مُقَنَّعٍ بِطَحَالِبِ طَلْعِكِ!

نَوَافِيرُ شِعْرِي مَا ازْدَهَرَتْ.. إِلَّا  بِحَرِّ حَرْفِكِ

يُمَوِّجُنِي بِسَطْعِ نَقَائِكِ

 

أَيَا أُقْحُوَانَةَ الثَّغْرِ اثْغَرِّي..

أَسْقِطِي أَسْنَانَكِ الرَّوَاضِعَ

قَلِّدِينِي بِفَوْحِ مِسْكِكِ وَسَامَةً

شُدِّينِي وَمْضَ نَقَاءٍ إِلَى عَيْنِ رَبِيعِكِ

وَفِي تَهَاويمِ مَجْدِكِ

أَنْبتِينِي أَيادِي طُفُولَةٍ.. تُمْسِكُ بِالشَّمْسِ

لِتَسْتَوِيَ عَدْلًا عَلَى جُزُرِ النُّورِ!

ثانيًا: التّحليلُ الأدبيّ: العنوانُ مُكوَّنٌ مِن مبتدأ؛ مضاف ومضاف إليه (فُسْتانُ زَفافِكِ)”1″، ومِن خبَرِ جُملةٍ فِعليّةٍ تلاها تمييزٌ منصوبٌ “كفنًا”، والفِعلُ سُداسِيٌّ “اعْشَوْشَبَ يَعْشَوْشبُ اعْشِيشابًا”، وبناؤُهُ لمُبالغةِ الّلازم؛ لأنّهُ يُقالُ عَشُبَ الأرضُ: إذا نبَتَ على وجهِ الأرض، ويُقالُ: اعْشَوْشَبَ الأرضُ إذا كثُرَ نباتُ وجْهِ الأرضِ.

العنوانُ مُوحٍ بما فيهِ مِن مُبالغةٍ، وتَساوي جُمَلِ كلٍّ مِنَ المبتدأ والخبر في عددِ الكلماتِ والوزن، ومِن انزياحاتٍ مُتتابعةٍ، ولْنَرْصُدْها. الشّاعرةُ تُخاطِبُ حبيبتَها فلسطينَ، فلم تُسنِدِ الزّفافَ لحبيبتِها مباشرة، فقد عدَلتْ عن ذلك، ونَسبَتْهُ إلى ما لهُ اتّصالٌ بها، وهو الفستانُ، كنايةً عن نسبة؛ وأيُّ فستان؟ هو فستانُ الزّفافِ، وهنا الانحرافُ والانزياحُ الجَماليّ، فالمُتلقّي عندما يَسمعُ عبارةَ “فُسْتَانُ زَفَافِكِ”، يتوقّعُ أن يَسمعَ كلمةً دالّةً على الفرَح، لكنّهُ يتفاجأ بسَماعِ كلمةِ “اعْشوْشَبَ”، وعندما يَسمعُ كلمةَ “اعْشوْشَبَ”، يتوقّعُ أن يَسمعَ كلمةً دالّةً على النّماءِ والخُضرة، لكنّهُ يتفاجأ أيضًا بسماعِ كلمةٍ دالّةٍ على الفناءِ والسّوادِ “كفنًا”: فالفلسطينيّونَ يتسلّحونَ بسِلاحِ الصّبرِ والأملِ والإيمانِ بعدالةِ قضيّتِهم، فالحبيبةُ ستحظى بعرْسٍ يليقُ بها، حتّى لو اعْشوْشَبَ فستانُ زفافِها، وعَلَتْهُ الطّحالبُ لطولِ انتظارِها لهذا العرْسِ. القصيدةُ مِنَ الشِّعرِ النّثريِّ مِن ديوانِ الشّاعرة الشّعريّ الثّالث “رحلةٌ إلى عنوانٍ مَفقودٍ”، حيثُ تخلّتْ عنِ الوزنِ ووحدةِ القافية.

تقولُ: كَوْكَبَةٌ مِنْ وَسائِدَ ضَبابِيَّةٍ/ تَغَشَّتْ أَمْواجِي بِأَشْواكِ الشَّمْسِ/ وَلَمْلَمَتْ بِتَوْبَةٍ هادِرَةٍ حِبْرًا / وَسَمَتْهُ أَلْوانُ فَراغِكِ بِمَواعِيدَ رَخْوَةٍ انْطَفَأَتْ صامِتَة!/ عَلى إِيقاعاتٍ جَنائِزِيَّةٍ باهِتَةٍ/ أَبْحَرَتْ أَهِلَّةُ الْكَلامِ بِكَوْنِ أَسْرارِكِ / لِعَمِيقِ مَجْدٍ عَتِيقٍ مَسْلُوخ! ونلاحظُ أنّ الشّاعرةَ قدِ اتّكأتْ هنا على الفِعلِ الماضي: تغشّتْ، لملمَتْ، وسَمَتْهُ، انطفَأتْ، فالفِعلُ الماضي يَصلحُ للسّردِ القصصيّ والحوار. الشّاعرةُ تُحاورُ حبيبتَها، وتسرُدُ قصّتَها المأساويّة: بدأتْها بكوكبةٍ ضبابيّةٍ، تتمثّلُ في اتّفاقيّاتٍ وأوراقٍ وحِبرٍ أُبْرِمَتْ بينَ الفلسطينيّينَ والإسرائيليّينَ، ولكنّها غيرُ واضحةِ المَعالم، فهي تقولُ:

(كَوْكَبَةٌ مِنْ وَسائِدَ ضَبابِيَّةٍ): كنايةً عنِ الاتّفاقاتِ الغامضةِ بينَ كلٍّ مِن إسرائيلَ والوفدِ الفلسطينيِّ المُفاوِض، فالوُعودُ والاتّفاقيّاتُ ساهيةٌ ونائمةٌ وغافيةٌ، والمُهيْمِنُ في الصّياغةِ الجانبُ الإسرائيليّ؛ للتّملُّصِ ممّا وَقَّع عليهِ والتزَمَ بهِ. وفي عبارةِ “وسائدَ ضبابيّةٍ” انزياحٌ إضافيٌّ، فالمُتلقّي عندما يَسمعُ كلمةَ “وسائدَ”، يتوقّعُ أن تُضافَ لكلمةٍ مناسبةٍ لها، لكن يتفاجأ بوجودِ كلمةِ “ضبابيّةٍ”، وهذا السّطرُ حافلٌ بالاستعاراتِ والانزياحاتِ، فللوسائدِ جَماعاتٌ، ولها ضبابيّة.

(تَغَشَّتْ أَمْواجِي بِأَشْواكِ الشَّمْسِ): هذهِ الاتّفاقيّاتُ العائمةُ اجتاحتْ أفكارَ الشّاعرةِ المُتلاحِقةِ كما الأمواج، تَضربُ أحلامَ الحُرّيّةِ والتّحرُّرِ والانطلاق.

(أشواكُ الشّمس): كنايةً عن الأشواكِ الحارقةِ؛ بسببِ الوسائدِ المُوخِزةِ والمُوجِعةِ، والشّمسُ كنايةً عن الحُرّيّةِ والتّحرّرِ، والرّمزُ سِمةٌ أسلوبيّةٌ، وأحدُ عناصرِ النّصِّ الأدبيِّ الجوهريّةِ في نصِّ شاعرتِنا، ونراها تُنوِّعُهُ وتُعمِّقُهُ، وتجعَلُهُ مُسيطِرًا على لغةِ القصيدةِ وتَراكيبِها، وصُوَرِها وبُنياتِها المُختلفة، والرّمزُ؛ بشتّى صُورِهِ المَجازيّةِ والبلاغيّةِ والإيحائيّة، تعميقٌ للمَعنى الشِّعريّ، وكأنّي بالشّاعرةِ تريدُ أنْ تقولَ، بأنّ الاتّفاقيّاتِ مُلتويةٌ وغامضة، فهي تقُضُّ مضجعَ العودةِ ومخدّاتِ الأعراس.

(وَلَمْلَمَتْ بِتَوْبَةٍ هَادِرَةٍ حِبْرًا): كنايةً عن الاتّفاقيّاتِ المُلتويةِ الغامضة، ويتكرّرُ كلٌّ مِن صوتَي الّلام والميم مرّتيْن في لفظةِ (لمْلَمَتْ)، وللتّكرارِ فوائدُ إيقاعيّةٌ، والّلملمةُ تحتاجُ لبعضِ الوقتِ، تمامًا كما عندَ نُطقِها تحتاجُ لبعضِ الوقتِ، للانتقالِ مِن صوْتٍ إلى صوتٍ آخرَ مُتقاربٍ لهُ، في مَدارجِ الأصواتِ ومَخارجِها عندَ النُّطقِ بكلِّ واحدٍ منهُما والرّجوع للآخَر، وهُما صوتا الّلام والميم المُكرَّرَيْنِ في الّلفظة..

(بِمَواعِيدَ رَخْوَةٍ انْطَفَأَتْ صامِتَة!): كنايةً عن مواعيد تنفيذِ الاتّفاقيّات، الّتي يلتفُّ عليها مَن صاغَها، مَتى أرادَ وكيفما شاءَ، ومِنَ الانزياحاتِ الإضافيّةِ في السّطرِ السّابقِ، تَظهرُ في كلٍّ مِن “بِأَشْوَاكِ الشَّمْسِ” وَ “ألوان فراغك”، يَكمُنُ فيهِما عنصرُ المُفاجأة، الّتي يُنتجُها حصولُ الّلامُنتظر مِن خلالِ المُنتظر؛ أي أنْ يَتوقّعَ المُتلقّي مضافًا إليهِ يتلاءَمُ والمضاف. كأنْ يَتوقّعُ بَعدَ كلمةِ “أشواك”، وجودَ مُضافٍ إليهِ مُناسِبٍ للأشواك، لكنّهُ يَتفاجأ بمُضافٍ إليهِ الشّمس”، وهكذا يُصبحُ لدينا انزياحٌ إضافيٌّ شِعريذٌ بحت، يُوفّرُ المُتعةَ الجَماليّةَ للمُتلقّي.

ويَظهرُ التّشخيصُ والتّجسيمُ والتّصوير: فللشّاعرةِ أمواجٌ كما للبحرِ، وللشّمسِ أشواكٌ كما للوردِ، وللتّوبةِ هديرٌ وحِبرٌ، وهو الحبرُ الّذي خُطّتْ بهِ الاتّفاقيّاتُ الغامضةُ العائمةُ، الّتي تَستهدِفُ سَلْبَ الفلسطينيِّ كلَّ بقيّةٍ مِن حقٍّ، وللفراغِ ألوانٌ، وللمواعيدِ شعلةٌ تَنطفئُ..، ومِن خصائصِ شاعرتِنا الأسلوبيّةِ، صُورُها الشّعريّةُ المُتّكئةُ على الاستعارةِ، ويَكمُنُ في الاستعارةِ المُبالغةُ في إبرازِ المَعنى المَوهومِ لصورةِ المُشاهدةِ كما رأينا. والقضيّةُ الّتي تُشغِلُ بالَ شاعرتِنا آمال، هي قضيّةُ الشّعبِ الفلسطينيِّ وواقعِ الاحتلال، فهذا هو المَعنى الأصليّ، وقد صاغتْهُ بطريقةٍ فنّيّةٍ جَماليّة، عبّرتْ فيهِ عن الواقع الّذي تُعايشُهُ الشّاعرة، وهناكَ مَعنيانِ للشّعر: معنى أصليٌّ، وآخَرُ فنّيٌّ يَهتمُّ بالوظيفةِ الجَماليّةِ، وهي سِمةٌ مِن سِماتِ شاعرتِنا، وخَصيصةٌ مِن خصائصِ شِعرِ الحداثة. (إنّ الفنّ هو الأكثرُ قدرةً على تبيانِ ذلكَ الوعيِ وتجْسيدِهِ وتَمثُّلِهِ، ولا يتبدّى ذلكَ في طبيعةِ المُعالجةِ الجَماليّةِ للواقعِ فحسْب، بل يتبدّى أيضًا في التّقنيّاتِ الفنّيّةِ، الّتي ليستْ في الحقيقةِ سوى تَمظْهُرٍ حِسّيّ لِما هو مَعنويٌّ جَماليٌّ مُجرّد،  فثمّةَ إذًا؛ علاقة جدليّة بينَ الوعي الجَماليّ والشّكل الفنّيّ).

ومِن هنا، فإنّ مُقاربةَ ذلكَ الوعيِ لا تتمُّ على النّحوِ الأمثلِ، إلّا مِن خلالِ مُقاربةِ الشّكلِ الّذي هو الوعيُ مُتمَظهِرًا، أو لنِقُلْ: إنّ الشّكلَ الفنّيَّ هو شكلُ الوعيِ الجّماليّ، ولذلك، فإنّ أيَّ تبدُّلٍ في الوعي سوفَ يَنعكِسُ تبدُّلًا في الشّكل، غيرَ أنّ هذهِ المسألةَ لا تتمُّ ميكانيكيًّا، أو بطريقةٍ حتميّةٍ، فقد يَتمكّنُ الشّكلُ مِنَ استيعابِ تبدُّلاتِ الوعيِ غيرِ الجذريّةِ أو الجوهريّة.‏ وتأسيسًا على ذلك، فقد نظرنا إلى الحداثةِ الشّعريّةِ على أنّها حداثةٌ في الوعيِ الجَماليِّ أوّلًا، ولا يُمكنُ لنا فهمُ الاختلافِ والتّميُّزِ بينَ النّصّ الحداثيِّ مِن جهةٍ، والنّصِّ الكلاسيكيِّ والتّقليديِّ المُعاصِرِ مِن جهةٍ أخرى، ما لم نأخذْ بالاعتبارِ الاختلافَ والتّميُّزَ بينَ الوعي الجّماليِّ لكلٍّ منهما، ولكن، إذا ما كان الوعيُ الجَماليُّ هو المُنطَلَقُ في تبيانِ الحداثةِ، فإنّ هذا لا يُؤدّي بنا إلى إغفالِ الشّكل الفنّيّ(2).

(عَلَى إِيقاعاتٍ جَنائِزِيَّةٍ باهِتَةٍ): كنايةً عنِ الموْتِ والدّمارِ والخرابِ الّذي يَحُلُّ بالفلسطينيّين.

(أَبْحَرَتْ أَهِلَّةُ الْكَلامِ بِكَوْنِ أَسْرارِكِ): كنايةً عن موادّ الاتّفاقيّاتِ الّتي صِيغتْ، لتَحملَ مَعانيًا عميقةً وبعيدةً لصالح الإسرائيليين، يُؤَوِّلونَها متى شاؤوا ومتى أرادوا، وكيفما يحلو لهم.

وتقولُ الشّاعرةُ: (أَبْحَرَتْ أَهِلَّةُ الْكَلامِ) وَ (بِكَوْنِ أَسْرارِكِ): وفي كلِّ جملةٍ مِن الجملتيْنِ انزياحٌ إضافيٌّ، ويتمثّلُ في المفاجأةِ الّتي يُنتجُها حصولُ الّلامُنتظرِ مِن خِلالِ المُنتظر؛ أي أنْ يتوقّعَ المُتلقّي مُضافًا إليهِ يَتلاءَمُ والمضاف، وفي المُحصّلة، جعَلَتْ شاعرتُنا مِن هذا التّزاوُجِ قيمةً شِعريّةً وفنّيّةً مُميّزة.

(لِعَميقِ مَجْدٍ عَتيقٍ مَسْلُوخ!): كنايةً عن أمجادِ فلسطين وتاريخِها العريق الّذي ذُبحَ وسُلخَ بفِعلِ الاحتلال، ونَلحَظُ الانزياحَ الإضافيَّ وما فيهِ مِن جَماليّةٍ في هذا السّطر.

مُجمَلُ السّطورِ السّابقةِ تَحملُ فكرةً؛ تتمثّلُ في المُفارقاتِ الجَسيمةِ بينَ الأمسِ واليوْم، بينَ الحاضرِ والماضي، فصورةُ البحرِ والشّاطئِ وما نتوخّاهُ مِنَ استجمامٍ ومُتعةٍ، بلوْنِهِ ورطوبتِهِ وهدوئِهِ، وهديرِ أمواجِهِ وإيقاعاتِها المُتلاحِقةِ، وبجَمالِهِ وبشاطئِهِ وشمْسِهِ، صوَرٌ تبعثُ الهدوءَ والرّاحةَ، والبحرُ يُعيدُنا إلى المَجدِ العَتيقِ إلى ما قبل النّكبة إلى يافا؛ عروسِ البحر ومينائِها التّاريخيّ. واليومَ تَنقلِبُ الصّورةُ رأسًا على عقب، فلْنَنْظُرْ إلى غزّةَ وما تُعانيهِ مِن ويلاتٍ، والشّمسُ رمزُ النّورِ والحُرّيّةِ وكلِّ ما هوَ جَلِيٌّ، لكنّها غدَتْ نورًا شائكًا وحُرّيّةً مُؤلمةً، وبينَ المُتوقّعِ والواقعِ هُوّةٌ عميقةٌ وصورةٌ عكسيّةٌ، فالشّاعرةُ توَلّتْ دوْرَ العاشقِ الّذي يُخاطِبُ حبيبتَهُ فلسطينَ؛ بَحرَها، وماءَها، وموْجَها، وهواءَها ….

وعندما نقرأ شِعرًا لشاعرتِنا آمال عوّاد رضوان، سنجدُ الغموضَ يَلفُّ ألفاظَهُ وتَعابيرَهُ، وهذا ليسَ بغريبٍ، والغموضُ يَحتاجُ لكَدِّ الذّهنِ لدى المُتلقّي، لتوليدِ المُتعةِ الذّهنيّة، وهنا يَبرزُ دوْرُهُ عندَ الرّمزيّينَ، فمِنْ سِماتِ شِعرِ الحداثةِ الغموضُ.

(ويذهبُ خليل حاوي إلى أنّ ظاهرةَ الغموضِ ارتبطَتْ بتَحَوُّلِ الشّعرِ الحديثِ، مِن تقريرِ الأفكارِ إلى التّعبيرِ بالصّورة، فالشِّعرُ الأصيلُ يَقومُ على الإيحاءِ لا التّقرير والمباشرة، كما أنّ الشِّعرَ يَبحثُ عن الباطن، ولا يَقِفُ عندَ الظّاهرِ، لهذا كانَ الغموضُ صِفةً ملازمةً للشّعر(3).

ويُرجِعُ أدونيس الغموضَ، إلى تَغيُّرِ مفهومِ الشِّعرِ في العصرِ الحديثِ، تبعًا لتغيُّرِ النّظرةِ إلى العالم، حيثُ “لمْ تَعُدِ القصيدةُ الحديثةُ تُقدِّمُ للقارئِ أفكارًا ومعانِيًا شأنَ القصيدةِ القديمة، وإنّما أصبحتْ تُقدّمُ حالةً أو فضاءً مِنَ الأخيلَةِ والصّوَرِ، ومِنَ الانفعالاتِ وتَداعياتِها، ولمْ يَعُدْ يَنطلِقُ (الشّاعرُ) مِن مَوقفٍ عقليٍّ، أو فكريٍّ واضحٍ وجاهز، إنَّما أخذَ يَنطلِقُ مِن مناخٍ انفعاليٍّ نُسمّيهِ تجربةً أو رؤيا”(4).

وتقولُ شاعرتُنا: مَنادِيلُ أَماسِيكِ جارِحَةٌ/ تُ مَ زِّ قُ مَآقِيَ فَراشاتي/ بِتَنْهيداتِ بِلَّوْرِها.. بِأَقْفاصِها الْمُفَخَّخَةِ/ كَيْفَ أُغافِلُ مِحْرَقَةَ ضَوْضائِكِ/ وَفي قَوافي هَوادِجي أَبْجَدِيَّةٌ تُزَمْجِرُ وَلا تَنْطَفِئُ؟/ مَواسِمُ وَيْلاتٍ ذابَتْ أَحْبارُها/ في هَشيمِ مَحابِرِكِ الْمَغْدُورَةِ/ تَوَهَّجَتْ دُواةُ الطُّهْرِ بِآثامِها الشَّاحِبَةِ/ وَعُيُونُ الْبَنَفْسَجِ اصْفَرَّتْ بِفُوَّهَةِ أَلَقِها/ أَكَأَنَّمَا شُرِّعَتْ لِطَرْفَةِ احْتِضارٍ لا يَرْمشُ؟/ أَيُّ جُنُونٍ ذا يَرْتَجي خُطَى التَّماثيلِ تَمَهُّلاً؟/ أَيُّ فَجْرٍ ذا تَشَرْنَقَ دَياجيرَ مَنْفًى عَلى جُفُونِ الْمَغْنَى؟/ كَيْفَ لانْحِناءَةِ زَفْرَةٍ تسْتَقيمُ شَهْقَةً في فُؤادِ الْمُسْتَحيلِ؟/ وِشايَةُ سِراجِكِ أَسْرَجَتْ تَجاعِيدَ زَماني بِمَرايا الْخَطايا/ غَطَّتْ أَرْوِقَةَ غُرْبَتي بِأَدْعِيَةٍ ضَبابِيَّة!

(مَناديلُ أَماسيكِ جارِحَةٌ): كنايةً عن مناديلِ الأعراسِ والأفراح، والأماسي هي ليالي الأفراح، لكنِ انقلَبَ الحالُ بسببِ المآسي الّتي تَحُلُّ بالشّعبِ الفلسطينيّ، وأصبحتْ مناديلُ مسْحِ البكاءِ تَجرَحُ المآقيَ والعيونَ، فلِلمآسي مناديلُ جارحةٌ.

(مَناديلُ أَماسيكِ جارِحَةٌ): كنايةً عن الأفراحِ الّتي تحوّلتْ إلى أتراح، فـ”المناديلُ” رمزٌ للأعراسِ والأفراح، و”الأماسي” رمزٌ للَيالي الفرحِ في تلكَ الأعراس، والرّمزُ مَصدرٌ للإدهاشِ، والتّأثيرِ، وتجسيدٍ لجَماليّاتِ التّشكيلِ الشّعريّ، ولقد أحسَنَتْ شاعرتُنا بتوظيفِها للرّمزِ بشكلٍ جَماليٍّ مُنسجِم، واتّساقٍ فِكريٍّ دقيقٍ مُقنِعٍ، ليُسهِمَ في الارتقاءِ بشِعريّةِ القصيدةِ، وتَعميقِ دلالاتِها، وشِدّةِ تأثيرِها في المُتلقّي. (تُ مَ زِّ قُ مَآقِيَ فَراشاتي): و”الفراشاتُ” رمزٌ للعرائسِ الصّغيراتِ الثّكالى قبلَ أوانِهِنَّ، ورمزٌ للأطفالِ اليتامى، بسببِ الأسْرِ والقتلِ والنّفيِ والتّنكيلِ، ويُعَدُّ الرّمزُ أسلوبًا مِن أساليبِ التّصويرِ، أو وسيلةً إيحائيّةً مِن وسائلِهِ، فكِلاهُما- الرّمزُ والصّورة- قائمانِ على التّشبيهِ، وعَلاقتُهُما أقربُ إلى علاقةِ الجُزءِ بالكلّ. وهي تقنيّةٌ عاليةٌ، يَرتفعُ بها شأنُ الصّورة.

الشّاعرةُ آمال مُجدِّدةٌ في لغتِها وأساليبِها، ونَلحظُ في جُلِّ قصائدِها ظاهرةً، الكلماتُ تَظهَرُ بحروفٍ مُتقطِّعةٍ أفقيّةٍ تارةً– كما في هذا السّطر- أو عموديّةٍ تارةً أخرى تُشكّلُ معناها، وهذا السّطرُ كنايةً عن كثرةِ البكاءِ، وفيهِ أيضًا انزياحاتٌ، فلِلمآقي فراشاتٌ تتمزّقُ، والفِعلُ “تمزّقت” جاءَ مُتقطِّعًا، ويَستغرِقُ وقتًا أطولَ أثناءَ النُّطقِ بهِ، فقد جزّأتْهُ الشّاعرةُ ومَزّقتْهُ لحروفٍ مُتناثِرةٍ، كما التّمزيقُ يَحتاجُ وقتًا ليَكتملَ.

(بِتَنْهِيداتِ بِلَّوْرِها.. بِأَقْفاصِها الْمُفَخَّخَةِ): كنايةً عن الوجعِ الّذي يَكمُنُ في المآسي والفواجِع، وما يُحدِثُهُ مِنْ تدميرٍ للنّفسِ وهدٍّ للرّوح، ومآقي الفراشاتِ الجميلةِ اسْتُبدِلَتْ بمَآقٍ زُجاجيّةٍ شكليّةٍ، لا جدوى بها ولا تُبصِرُ النّور، وللبلّوْراتِ الزّجاجيّةِ تنهُّداتٍ، ولها أقفاصٌ تُفَخُّخُ وتُدَمَّرُ بفِعلِ الاحتلالِ ومُخطّطاتِهِ، وبنودُ الاتّفاقيّةِ مُفخَّخةٌ.

(كَيْفَ أُغافِلُ مِحْرَقَةَ ضَوْضائِكِ): كنايةً عن الحُروبِ الحارقةِ، والمِحرقةُ رمزٌ للحربِ، وضوضاؤُها رمزٌ لويلاتِها، ولقد بدَأَتْ شاعرتُنا آمال نصَّها بأسلوبٍ خبَريٍّ، لتأكيدِ ذاتِها، وتبيانِ الفَواجعِ وفداحةِ المأساةِ، غيرَ أنّ هذهِ المآسي لم تنَلْ مِن عزيمتِها، وتنتقلُ للأسلوبِ الإنشائيّ، فالاستفهامُ يُفيدُ النّفيَ، وفي عبارة “مِحْرَقَةَ ضَوْضائِكِ” انزياحٌ إضافيٌّ، فللضّوضاءِ مِحرقةٌ كما للحُروب. وهذه الصّورةُ الّتي تَموجُ بالحركةِ والاضطرابِ والحيويّةِ والمَشاعرِ المُختلفة، مِن غفلةٍ وحرْقٍ وضوضاء ودهشة، هي وليدةُ الاستعارةِ الّتي بالغَتِ الشّاعرةُ  في استخدامِها، بطريقةٍ تسحَرُ لبَّ المُتلقّي، وتأسُرُ أحاسيسَهُ مِن هوْلِ الذّهولِ بالمَنظرِ الماثلِ أمامَها.

(وَفي قَوافي هَوادِجي أَبْجَدِيَّةٌ تُزَمْجِرُ وَلا تَنْطَفِئُ): في هذا السّطرِ تتزاحمُ التّحويلاتُ والانزياحاتُ أو ما سُمِّيَ بالتّوسُّعِ، وهوَ مِن أهمِّ الظّواهرِ الّتي تُميّزُ الّلغةَ الشّعريّةَ عن السّرديّة، معَ منْحِها شرَفَ الشِّعرِ وخصوصيّتِهِ، فإنَّ هذا النّوعَ مِنَ الانزياحِ يتّسمُ ببعضِ السِّماتِ المُصاحِبةِ لهُ، كالابتكارِ والجدة والنّضارة والإثارة، فذكرَتْ في سطْرِها السّابق القوافي “الجزء”، وأرادتْ بهِ الكلَّ “القصائدَ” مجاز مرسل علاقته الجزئيّة.

ويَظهرُ الانزياحُ التّركيبيُّ، وهو مُخالَفةُ التّراتبيّةِ المألوفةِ في النّظامِ الجُمَليّ، مِن خِلالِ بعضِ الانزياحاتِ المَسموحِ بها في الإطارِ الّلغويّ، كالتّقديمِ والتّأخيرِ في بعضِ بُنى النّصّ، كتقديمِ الخبَرِ على مُبتدئِهِ، كما في نحو “وَفي قَوافي هَوادِجي أَبْجَدِيَّةٌ”، وهنا مَكمَنُ الجَمالِ الأسلوبيّ، فلِلقوافي هوادجُ كما للعَروس، والهودجُ هو أجملُ ما في خيالِ العروسِ، وهو تابعٌ لصورةِ العُرسِ ولا يكتملُ إلّا بهِ، ولها أبجديّةٌ كما الّلغة، والهوادجُ روحُ الشّاعرةِ ومَطلَبٌ رئيسٌ لها، فهي تُزمجرُ كما الأسد، ولا تتوقّفُ ولا تنطفئُ جَذوتُها، مادامَ الاحتلالُ يَتملّصُ مِن تعهُّداتِهِ ويُراوغُ، وهنا مَكمَنُ التّصويرِ والتّجسيمِ وبَثِّ الحياةِ في الجَماداتِ، وهذا النّهجُ وظّفتْهُ شاعرتُنا باقتدارٍ وبهاءٍ وفنٍّ وجَمال، فهذهِ الصُّوَرُ الرّائعةُ الخلّابةُ المُؤثِّرةُ ما كانتْ لتكون، لو أنّ شاعرتَنا آمال التزمَتْ في التّعبيرِ القولَ على الحقيقة. وتُخاطبُ الشّاعرةُ أُمَّها وحبيبتَها فلسطين قائلة: (مَوَاسِمُ وَيْلاَتٍ ذَابَتْ أَحْبَارُهَا فِي هَشِيمِ مَحَابِرِكِ الْمَغْدُورَةِ): كنايةً عن الغدرِ الّذي يَلُفُّ لغةَ الاتّفاقيّاتِ بينَ الفلسطينيّينَ والإسرائيليّين، فلقدْ أفرَغَ الإسرائيليّونَ المُعاهداتِ والاتّفاقيّاتِ المعقودةَ مِن مَضمونِها، فأصبحتْ قيمتُها لا تُساوي الحبْرَ الّذي كُتبَتْ بهِ، ولقد نجحَتْ شاعرتُنا بتوظيفِها للأساليبِ التّعبيريّةِ، وهي مِن مَظاهرِ الحداثةِ، فالأسلوبيّةُ التّعبيريّةُ والدّلالةُ في النّقدِ الحديث، ترتكزُ على أنماطٍ مِنَ التّحوّلاتِ الأسلوبيّةِ في الشِّعرِ، ومنها الانزياح بأشكالِه، الّذي وظّفتْهُ شاعرتُنا آمال بعنايةٍ فائقةٍ، فلِلمَواسِمِ ويلاتٌ، ولها أخبارٌ تَذوبُ، وللمَحابرِ هَشيمٌ كما النّباتِ، وتُغدَرُ كما يُغدَرُ المَخلوقُ، فمواسمُ الأعراسِ انقلبَتْ إلى مواسم ويْلات.

 (تَوَهَّجَتْ دُواةُ الطُّهْرِ بِآثامِها الشَّاحِبَةِ): كنايةً عنِ المَحابرِ البريئةِ المُتمثّلةِ في عقودِ الزّواجِ والاتّفاقيّاتِ المُوقَّعةِ بالحبر، والّتي فرِحَ بها الفلسطينيّونَ، تتحوّلُ وتنقلِبُ بطُهْرِها إلى عقودٍ آثمةٍ شاحبةٍ؛ بسببِ تحويرِ بُنودِ الاتّفاقيّاتِ المُوقَّعةِ إلى بنودٍ خاليةٍ مِن مضمونِها، والّتي تُحلِّلُ للإسرائيليِّ سياسةَ استمرارِ القتلِ والسّجنِ والتّنكيل.

(وَعُيُونُ الْبَنَفْسَجِ اصْفَرَّتْ بِفُوَّهَةِ أَلَقِها): شبّهتِ الشّاعرةُ البنفسجَ بإنسانٍ لهُ عينان، والبنفسجُ رمزُ الطّهارةِ والحُبِّ والنّقاء، واستخدَمَتِ الفعلَ “اصْفَرَّ”، ليُفيدَ المُبالغةَ في الاصفرارِ الّذي يَرمزُ للضّياع، وهنا سِرُّ المُفارقات، فالاتّفاقيّاتُ والمُعاهداتُ شيءٌ جميلٌ يَفضُّ الخصوماتِ بينَ الفُرقاء، لكن يجبُ أن يَتوفّرَ فيهِما النّيّة الصّادقة، لا أنْ يتحوّلا لغُبنِ طرَفٍ على حسابِ آخَر،  تمامًا مثلما البنفسج وأزهاره فيهما العذوبةُ والجَمال، لكن تحوًلا إلى اصفرارٍ ومرارةٍ وقُبح، وزالَ بريقُهما بفِعلِ الغدْر. ومِن خصائصِ أسلوب شاعرتِنا آمال، الصّوَرُ الفنّيّة الّتي وظّفتها لتجسيم الأمور المعنويّة، وذلك بإبرازها للعيانِ، في صورةِ شخوصٍ وكائناتٍ حيّةٍ، يَصدُرُ عنها كلُّ ما يَصدرُ عن المخلوقاتِ مِن حركاتٍ وأعمال.

(أَكَأَنَّما شُرِّعَتْ لِطَرْفَةِ احْتِضارٍ لا يَرْمشُ؟): الاستفهامُ خرَجَ عن معناهُ الحقيقيّ؛ ليُفيدَ التّقريرَ، والسّطرُ كنايةً عن أنّ هذه المُعاهداتِ صِيغَتْ مِن أجلِ ذوَبانِ وموْتِ الشّعب الفلسطينيّ. وهنا تُشبِّهُ شاعرتُنا انتهاءَ صلاحيّةِ هذهِ الاتّفاقيّاتِ وقُربَ التّخلُّصِ منها، بإنسانٍ يَحتضِرُ ولا يَرمشُ عندَ موتِهِ، استعارةً مَكنيّة. (أَيُّ جُنُونٍ ذا يَرْتَجي خُطَى التَّماثيلِ تَمَهُّلًا؟): والاستفهامُ يُفيدُ التّعجّبَ مِن فِعلِ تحويراتِ وتأويلاتِ اتّفاقيّاتِ السّلامِ المُبْرَمة، و”خطى التماثيل”: كنايةً عن موْتِ روح الاتّفاقيّات، وكأنّما الشّخوصُ المتحرّكةُ القائمة على تنفيذِ الاتّفاقيّاتِ المعقودة، في عمليّاتِ السّلام، تماثيلُ مُتحرّكة، تُراوحُ مكانَها، فقد فقدَتْ كلَّ روحٍ وحياة، وللتّماثيلِ خطى. استعارةً مكنيّة.

(أَيُّ فَجْرٍ ذا تَشَرْنَقَ دَياجيرَ مَنْفًى عَلى جُفُونِ الْمَغْنى؟): الاستفهامُ هنا خرَجَ عن معناهُ الحقيقيّ؛ ليُفيدَ التّعجُّبَ مِن هذهِ الاتّفاقيّة، وعمليّةِ تحريفِها وتسخيرِها لخدمةِ أغراضِ المُحتَلّ، وتذويبِ الشّعبِ الفلسطينيِّ ونفْيِهِ عن وطنِهِ. وهنا المفارقاتُ، فالفجرُ يَرمزُ للتّحرُّر، لكن يتمُّ تحويلُهُ لسجنٍ وشرنقةٍ ونفيٍ، وتتزاحمُ الانحرافاتُ في السّطر تمامًا كانحرافِ اتّفاقيّاتِ السّلام، فالفجرُ يتشرنقُ، وللمنفى دياجيرُ، وللمَغْنى جفون.

(كَيْفَ لانْحِناءَةِ زَفْرَةٍ تسْتَقيمُ شَهْقَةً فِي فُؤادِ الْمُسْتَحيلِ؟): الاستفهامُ هنا أيضًا يُفيدُ التّعجُّبَ، فالشّاعرةُ تتعجّبُ مِن تحويرِ وانحرافِ اتّفاقيّةِ السّلام الّتي تهدفُ إلى تركيع الشّعب الفلسطينيّ، وهذا مستحيلٌ، والسّطرُ يَعجُّ بالاستعاراتِ والتّجسيم والتّصويرِ وبثِّ الحياة في المعاني، فللزّفرةِ انحناءة، ولها شهقة، وللمستحيلِ فؤاد. فالسّرُّ في قوّةِ تأثيرِ هذه الصّورةِ الشّعريّةِ وجَمالِها، راجعٌ إلى مفعول الاستعارة، هذا المفعول الّذي انتقلَ بالفِكرِة مِن عالم المعاني، إلى عالم المُدرَكاتِ. مبالغة.

(وِشايَةُ سِراجِكِ أَسْرَجَتْ تَجاعيدَ زَماني بِمَرايا الْخَطايا): الشّاعرةُ هنا وفي كلِّ السّطورِ تُخاطبُ حبيبتَها فلسطين، ولكي يُسيطرَ الإسرائيليّونَ على الأرضِ والشّعب الفلسطينيّ، فقد بثّوا العملاءَ والجواسيسَ، وهذه خطايا تُدنِّسُ معالمَ الوجهِ الفلسطينيِّ بحضارتِهِ عبْرَ التّاريخ، وفي لفظتَيْ “سراج” وَ “أسرجت”، تتكرّرُ حروفُ السّين والرّاء والجيم؛ لإشاعةِ الإيقاع الموسيقيّ في ثنايا المقطوعة، والرّاء صوتٌ مُكرَّر، تمامًا كما الوشاية تكرارُ قوْل، والسّراجُ رمزٌ للنّورِ والحرّيّة يُثري الوجهَ وضاءة، لكنّهُ يتحوّلُ بفِعلِ التّخطيطِ الإسرائيليّ إلى قتامةٍ وتجاعيدَ في وجهِ الفلسطينيّ.

في عبارةِ “تجاعيد زماني”: كنايةً عن تاريخِ الشّعب الفلسطينيِّ المُناضِلِ وما يُكابدُهُ. “وشايةُ سراجِك”: كنايةً عن ظاهرةِ بثِّ العملاءِ في صفوفِ الفلسطينيّين. “مرايا الخطايا”: كنايةً عن الأضرارِ والآثامِ الّتي تُلحِقُها الوشاية. وهذا السّطرُ حافلٌ بالانزياحاتِ- كما في كلِّ سطورِ القصيدة- الّتي عِمادُها الاستعارة. وهذا جان كوهين  يعتبرُ الاستعارة: “تُشكّلُ الخاصّيّةَ الأساسيّةَ للُّغةِ الشّعريّة”(5). فللسّراج وشايةٌ، وللزّمانِ تجاعيدُ، وللخطايا مرايا، وتجاعيدُ الزّمان تُضاء. (غَطَّتْ أَرْوِقَةَ غُرْبَتي بِأَدْعِيَةٍ ضَبابِيَّة!): وتعودُ الشّاعرةُ للأسلوبِ الخبّريّ، لتأكيدِ الذّاتِ وتوضيحِ حالتِها النّفسيّة، مُظهِرَةً أنّ كلَّ هذهِ المحاولاتِ العبثيّةِ لم تنَلْ منها ومِن صمودِها قيدَ أنملة، وإظهارِ تقديرِها لمَن تخاطبُها وهي الحبيبةُ فلسطين، وهذا السّطرُ كنايةً عن الحالةِ النفسيّةِ الّتي تعيشُها الشّاعرةُ في غربتِها في وطنِها، وهي أشدُّ أنواعِ الغربة، وأنّ تلكَ الاتّفاقيّاتِ زادتْ مِن غربتِها اغترابًا، ومِن ضياعِها في وطنِها ضياعًا، ولغةُ الشّاعرةِ مُوحِيةٌ، والشّاعرةُ تُتقِنُ فنّ توظيفِ الاستعارة، فالاستعارةُ تُحلّقُ بكَ في عالم الخيال، وتَعرضُ عليك أشكالًا مِن الصّورِ البيانيّةِ الرّائعة، الّتي تَسبَحُ بك في بحرِ الألفاظِ، وتنتقلُ سريعًا مِنَ المعنى الحقيقيِّ للّفظِ المُستعار، إلى المعنى المَجاز الّذي صارَ عليهِ ذلكَ الّلفظُ، وتُكسِبُ الّلفظَ حلاوةً وجمالًا ورونقا.

وتُعدُّ شاعرتُنا في قصيدتِها هذه وفي جُلِّ دواوينِها الشّعريّة، مِن أنجحِ الشّعراءِ الّذين أغرَقوا أنفسَهم في استخدامِهم الرّموز، فمِنَ الطّبيعيّ أنْ نجدَ الشّاعرةَ تُلبِسُ ألفاظَها حُلّةً جديدةً مَجازيّة، بعيدةً عن الواقع بطريقةٍ رمزيّة؛ لغرضٍ ما في نفسِها، والألفاظ الدّالة على الحزنِ، في هذهِ السّطورِ فقط، وليسَ في كلّ المقطوعة: أَماسيكِ، جارِحَةٌ، تُمَزِّقُ، بِتَنْهيداتِ، أَقْفاصِهِ، الْمُفَخَّخَةِ، أُغافِل،ُ مِحْرَقَةَ، تُزَمْجِرُ، وَلا تنطفئ، وَيْلاتٍ، ذابَتْ، هَشيمِ، الْمَغْدُورَةِ، بِآثامِها، الشَّاحِبَةِ، اصْفَرَّتْ، احْتِضار،ٍ ضَوْضائِكِ، أيَرْمشُ؟ أَيُّ جُنُونٍ ذا يَرْتَجي خُطَى التَّماثيلِ تَمَهُّلًا؟/ أَيُّ فَجْرٍ ذا تَشَرْنَقَ دَياجِيرَ مَنْفًى عَلى جُفُونِ الْمَغْنى؟/ كَيْفَ لانْحِناءَةِ زَفْرَةٍ تسْتَقيمُ شَهْقَةً فِي فُؤادِ الْمُسْتَحيلِ؟/ وِشايَةُ سِراجِكِ أَسْرَجَتْ تَجاعيدَ زَماني بِمَرايا الْخَطايا/ غَطَّتْ أَرْوِقَةَ غُرْبَتِي بِأَدْعِيَةٍ ضَبابِيَّة! ظهرَتْ أصواتُ الحزن أيضًا في الأساليبِ الإنشائيّة، فترتبطُ بانفعالاتِ الشّاعرة، الّتي غلبَ عليها الإنشاءُ الطّلبيُّ المُتمثِّلُ في الاستفهام: (أَيُّ جُنُونٍ؟) وَ (أَيُّ فجْرٍ؟) و(كَيْفَ لانْحِناءَةِ؟)، وهي استفهاماتٌ لا تُفيدُ بحسبِ مُقتضى الظّاهر، بل خرجَتْ عنهُ؛ لتُفيدَ معنى مُستلزمًا حواريًّا بحسَبِ مُقتضى الحال، وهي تُفيدُ التّعجّب. (ضِحْكَةٌ مُتَثَعْلِبَةٌ ارْتَجَفَتْ طَيْشًا): الإسرائيليّونَ مشهورونَ بالخداع، وجاءَ في لسان العرب في معنى “تثعْلَبَ”: جَبُنَ ورَاغَ، على التّشبُّهِ بعدو الثّعلب، قال: فإنْ رآني شاعرٌ تثعلبا/ وإنْ حَداهُ الحينُ أو تَذايَلَهُ(6).

و”ضحكةٌ مُتثعلبةٌ”: كنايةً عن المُراوغةِ والمَكرِ والخداع، وشبّهَتِ الشّاعرةُ الضّحكةَ بشيءٍ يرتجفُ ويَطيشُ. استعارةً مَكنيّة. (خَلْفَ سُدُودِ هَواءٍ جِدارِيٍّ): وهنا الشّاعرةُ تَرمزُ إلى بناءِ الإسرائيليّينَ للجدارِ الفاصل، وهدفُ بنائِهِ خبيثٌ، فهو يُمكِّنُهم مِنَ الوصولِ أينما يُريدون، ولا يُمكِّنُ الفلسطينيّينَ مِنَ التّنقُّلِ أو حرّيّةِ الحركة، بل يُقسِّمُهم إلى كانتونات صغيرةٍ مُجزّأةٍ، مُحاصَرةٍ بجدارٍ أُقيمَ على أراضيهم، وابتلعَ منها ما ابتلعَ؛ ليُسهِّلَ السّيطرةَ عليهم. (كم تَهالَكَ صَداهَا عَلَى قارِعَةِ نَهْدِ عاصِفَةٍ!): “كم: كم للتّكثير، فللنّهدِ قارعةٌ كما للطّريق، ولها عاصفةٌ كما للرّيح.

(سَلْمٌ يَصْعَدُ دَرَكاتِ سُلَّمِهِ): كنايةً عن السّلامِ الّذي لا يُمَكِّنُكَ مِنَ الصّعودِ والاستفادةِ منه، بل مِنَ الهبوط، كما الجدارُ الفاصلُ لا يُمكِّنُ الفلسطينيّينَ مِنَ الحركة، بل شَلِّ حركتِهم، ويَخلو مِن معاني السّلام. (يَفُكُّ خِمارَ انْتِظارٍ تَوارى خَلْفَ أَزْرارِ أَدْراجِهِ): وللجدارِ بوّاباتٌ لا يَسمحُ الإسرائيليّونَ للفلسطينيّينَ بالدخولِ فيها أو الخروج منها، إلّا بأمرٍ منهم وبَعدَ طولِ انتظارٍ وامتهانٍ للكرامة، و”يفُكُّ خِمارَ انتظار”: كنايةً عن التّفتيشِ الدّقيقِ للفلسطينيّينَ الّذينَ لا يُسمحُ لهم بالدّخولِ، إلّا بعدَ طولِ انتظار. وهنا تتزاحمُ الاستعاراتُ والصّورُ الفنّيّة، فللانتظارِ خِمارٌ كما للمرأة، وللأدراجِ أزرارٌ كما للقميص.

(وَيسَقُطُ عارِيًا إِلَّا مِنْ عُرْيِهِ!): كنايةً عن أنّ هذا الجدارَ سيَسقُطُ كما سَقطَ جدارُ برلين، فحُجّتُهم عاريةٌ، لا تُقنِعُ أحدًا سوى أنفسِهم. (لكِنَّها): وتستدركُ الشّاعرةُ عندما ظننّا أنّ صوتَها قد وهَى وخبَا وضعُفَ؛ فإذا بنا نُفاجَأ بأنّ معنويّاتِها ارتفعتْ عاليًا، وازدادتْ دفقاتُها الشّعوريّة، وازدادَ ألقُها، وقد تسلّحَتْ بالعزم والمضاء والإيمان قائلةً مُخاطِبة أمّها: (مُدُنُ غُفْرانِكِ الْمُقَنْدَلَةِ بِفُصُولِ خُيُولِكِ/ أبَدًا.. ما طالَها زَبَدُ يَأْسٍ): كنايةً عن أنّ المُدنَ الفلسطينيّةَ لن تُصابَ باليأسِ والإحباطِ أبدًا، بفِعلِ منعتِها وعِزّتِها ومَجدِها، ولن يَنالَ منها بناءُ جدارِ الفصل. سنتوقّفُ قليلًا عندَ هذيْنِ السّطريْن، لنرى بعضَ الصّورِ الفنّيّةِ المُتلاحِقة، وهي سِمةٌ مِن سِماتِ شِعرِ الحداثة. تقولُ الشّاعرةُ: “مُدنُ غفرانِكِ”: فذكرَتِ المُدنُ “المكان”، وأرادتْ أهلَها الفلسطينيّين، مجاز مرسل علاقته المكانيّة.

وشبّهَتِ الشّاعرةُ المُدنَ بالقناديل، استعارةً مكانيّة. كما شبّهَتِ الخيولَ بشيءٍ لهُ فصول. استعارةٌ مكنيّة. وشبّهَتِ اليأسَ بماءِ البحرِ لهُ زبَدٌ، واستخدَمَتْ لفظةَ “أبد”؛ المُكوّنة مِن ثلاثةِ حروف، لكن معناها كبيرٌ جدّا، وهو مدى الدّهرِ وعلى طولِ الزّمن، ويَمتدُّ زمانُها مِن لحظةِ النّطق بها إلى ما لا نهاية مستقبلًا، وفيها معنى تأكيدِ صمودِها وعدمِ استسلامِها، ولقد قدّمتْها لأهمّيّتِها، ولخلْقِ المُتعةِ والجَمال، وحقُّها التّأخير على كلٍّ مِنَ الفِعل والفاعل، “مَا طالَها زَبَدُ يَأْسٍ”، وقد أسندَتِ الشّاعرةُ الزّبدَ لليأس.

(وَإِنْ عُلِّقْتِ عَلى أَسْوارِ أَعْراسٍ مُؤَجَّلَةٍ)- (وَإنِ اعْشَوْشَبَ فُسْتانُ زَفافِكِ كَفَنًا): كنايةً عن أنّ جدارَ الفصلِ لنْ يَمنعَ الفلسطينيّينَ مِنَ التّحرُّرِ وإكمالِ أعراس نصْرِهم، حتّى وإن ظهَرَ أنّ ثوْبَ العرْسِ قد تغيّرَ وتبدّلَ، وتحوّلَ إلى ما يُشبهُ الكفنَ، مِن طولِ عهدِ العبوديّة، لكنّه سيزهو. والصّورةُ الفنّيّةُ عندَ شاعرتِنا عمادُها الاستعارة، وهي صورةٌ مِن صُوَرِ التّوسُّعِ والمَجازِ في الكلام، وهي مِن أوصافِ الفصاحةِ والبلاغةِ العامّة، الّتي تَرجعُ إلى المعنى.

(لَيْلي اتَّقَدَ بِظُلْمَةِ حِكاياتٍ مَخْمُورَةٍ/ وَبِرَعْشَةِ بَدْرٍ احْتَلَكَتْ ضَفائِرُ شَحاريري/ تَتَوَسَّلُ بُؤْرَةَ ضَوْءٍ أَغْلَقَها طينُ الْعَتْمِ): كنايةً عن عودةِ الأملِ لروحِ الشّاعرةِ، فالّليلُ رمزٌ للقهْرِ والسّوداويّة، لكنّه تحوُّلٌ عندَ شاعرتِنا يَتّقدُ، فمِن رحْمِهِ تولّدَ الأملُ، والشّاعرةُ تُحاولُ بناءَ مُفرَداتٍ جديدة، فبحسَبِ علمي، لمْ يَرِدِ الفعلُ “احتلَكَ” بهذا البناء، وجاء في لسان العرب: “الحُلْكة والحَلَكُ؛ شدّةُ السّوادِ كلوْنِ الغراب، وقد حَلَكَ الشّيءُ يَحْلُكُ حُلُوكةً وحلُوكًا، واحْلَوْلَكَ مثله اشْتدَّ سوادُهُ، وأَسودُ حالِكٌ وحانكٌ ومُحْلَوْلِكٌ وحُلْكُوك بمعنى، وفي حديثِ خُزيمة وذِكْرِ السّنة؛ وتركَتِ الفَرِيشَ مُسْتَحلِكًا. المُستحْلِكُ الشّديدُ السّواد كالمُحترِق، مِن قولِهم: أَسوَدُ حالِكٌ، والحَلَكُوك بالتّحريكِ الشّديدُ السّواد، وأَسوَدُ مثلُ حَلَكِ الغرابِ وحَنَكِ الغراب، وشيءٌ حالِكٌ ومْحْلَولِك ومْحْلَنْكِكٌ وحُلْكُوك، ولمْ يأْتِ في الأَلوان فُعْلُول إلّا هذا..”

لقد ثارَ رُوّادُ الشّعرِ العربيّ الحُرّ على القاموس الشّعريّ، فلم يَعُدْ للشِّعرِ مُعجَمٌ خاصّ، لأنَّ “القصيدةَ لغةٌ وليستْ كلماتِ، وما دامت لغةً فهي علاقاتٌ، أو بعبارةٍ أدقَّ، نظامٌ خاصٌّ مِنَ العلاقاتِ، وبما أنّها كذلك، فهي لهجةٌ شخصيّةٌ غيرُ مستعارة”(7).

“لقد حاولَ روّادُ الشّعرِ العربيّ الحُرّ أن يُجدّدوا الشّعر مِن خِلالِ تجديدِ لغتِهِ. وأرادوا أنْ يُجدّدوا لغتَهُ ويُغنّوها مِن خِلال احتكاكِهم بالحياةِ الجديدة. وجدوا أنّ الّلغةَ التّقليديّةَ جامدةٌ وعاجزةٌ عن مُواكبةِ حركةِ الحياة فثاروا عليها. ووجدوا أنّ القاموسَ الشّعريَ قد أصبحَ مُجرّدَ ألفاظٍ ميّتة تحملُ مَعانيًا مُحدّدةً مُكرّرةً، لا تمتُّ إلى حياتِهم بصِلةٍ. ثمَّ كانَ لا بُدَّ مِنْ تَجديدِ الّلغةِ، على ضوءِ تجربةٍ جديدةٍ وفهْمٍ جديدٍ للحياة. “لقد أيقنوا أنّ كلّ تجربةٍ لها لغتُها، وأنّ التّجربةَ الجديدةَ ليستْ إلّا لغةً جديدةً، أو منهجًا جديدًا في التّعاملِ مع الّلغة”(8). فالّليلُ يتّقدُ، وللحِكاياتِ ظُلماتٌ مخمورة، وللبدرِ رعشةٌ، وللشّحاريرِ ضفائرُ، وكلُّها استعاراتٌ وانزياحات.

(أمَّاااااااهُ): وتنتقلُ الشّاعرةُ إلى أسلوبِ الإنشاء، ويتمثّلُ في النّداءِ، وحرْفُ النّداءِ محذوفٌ، والنّداءُ يُفيدُ التّقرُّبَ والتّحبُّبَ لحبيبتِها المَخاطَبة فلسطين، وللتّنغيمِ دوْرٌ كبيرٌ في خلْقِ إيقاعٍ مُناسِب، لهُ معنًى تقصدُهُ الشّاعرة، فقد أشبَعَتْ صوتَ الصّائتِ الألف في المنادى: “أُمّاه”، وكأنّي بها تريدُ أن تُخرجَ منها زفراتِ الألم والوجع، وتبوحَ لأمِّها بمُنغِّصاتِ حياتِها، وفي البوْحِ راحةٌ للنّفسِ والرّوح. (قاطِراتُ وَجَعٍ تَلَوَّتْ عَلى سِكَّةِ يَقيني الْمُهْتَرِئَةِ): كنايةً عمّا يختلجُ روحها مِن ألم جرّاءَ ما يَحصلُ في فلسطين، ولن أقفَ طويلًا عندَ الاستعاراتِ الّتي هي عمادُ الصّورِ الفنّيّة، بل سأشيرُ إليها إشاراتٍ سريعةً، فلِلوجعِ قاطراتٌ تتلوّى، ولليقينِ سكّةٌ مُهترئةٌ.

وكما يقول عبد القاهر الجرجاني: “إنّ فضيلةَ الاستعارةِ الجامعةِ تتمثّلُ في أنّها تُبرزُ البيانَ أبدًا، في صورةٍ مُستجَدَّةٍ تَزيدُ قدْرَهُ نُبلًا، وتُوجِبُ لهُ بَعدَ الفضلِ فضلًا، وإنّكَ لتجد الّلفظةَ الواحدةَ قدِ اكتسبَتْ فيها فوائدَ، حتّى تراها مُكرّرةً في مَواضعَ، ولها في كلِّ واحدٍ مِن تلكَ المَواضعِ شأنٌ مُفردٌ، وشرفٌ منفردٌ.. ومِن خصائصِها الّتي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها: أنّها تُعطيكَ الكثيرّ مِنَ المعاني باليسيرِ مِنَ الّلفظ، حتّى تخرج من الصَّدفةِ الواحدةِ عدّةً مِنَ الدّرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعًا مِن الثمر”(9).

وتقولُ: (ملاءاتُ خَرائِطي/ تَنْقُضُني/ تَنْفُضُني مِنْ تَحْتِ عِطْرِ أَكْفاني/ تُؤَرِّقُني/ تُورِقُني قَصائِدَعُمْرٍ مُقَنَّعٍ بِطَحالِبِ طَلْعِكِ!/ نَوافِيرُ شِعْري ما ازْدَهَرَتْ إِلاَّ بِحَرِّ حَرْفِكِ/ يُمَوِّجُنِي بِسَطْعِ نَقائِكِ): وهنا تتكئُ الشّاعرةُ على فِعلِ المُضارع الّذي يُوحي باستمرار الأسى والحزن والفواجع، مادامَ هناكَ عبوديّةٌ وتسلُّطٌ واحتلالٌ تعسُّفيّ. الأفعالُ المُضارعةُ كـ: (تَنْقُضُني/ تَنْفُضُني/ تُؤَرِّقُني/ تُورِقُني)، هذهِ الأفعالُ جميعُها تبتدئُ بالصّامتِ صوت “التاء”، وتنتهي كلُّها بصوتِ الصّائت الكسرة الطويلة، وهذا يدلُّ على التّوتّرِ الشّديدِ الّذي يَسري في روح الشّاعرة جرّاءَ هوْلِ ما يَحصل، وتِكرارُ الحرفِ يُولِّدُ إيقاعًا عذبًا في السّطرِ الشِّعريّ، فجاء الفِعلُ الأوّلُ والثّاني والرّابع على نفس الوزن.

ويذهبُ مدحت الجيّار إلى: “أنّ الموسيقى نظامٌ أو قانونٌ، يَربطُ القانونَ الصّرفيّ والقانونَ الصّوتيَّ في نسَقٍ عامٍّ وقانونٍ أعمَّ، على مُستوى الجملةِ أو البيتِ أو المَقطع. ذلك أنّ القانونَ الصّوتيَّ يَخصُّ طاقاتِ الحرفِ الصّوتيّةَ، وقدرتِهِ على التّنغيمِ، كالجَهر والهمْسِ والشّدّةِ والرّخاوةِ والتّفخيمِ والتّرقيقِ وغيرها، وعلاقةَ الحرفِ بما سبقَهُ ولحقَهُ، ومدى تناغُمِ هذهِ الحُروفِ فيما بينها حتّى تُشكِّلَ الكلمة. ويأتي القانونُ الصّرفيُّ ليأخذَ الكلمةَ وبُنيتَها، وتَحوُّلاتِها الصّوتيّةَ، وعلاقةَ الكلماتِ معَ غيرِها مِنَ النّاحيةِ الصّوتيّة. ثمَّ يأتي القانونُ الموسيقيُّ ليُفجِّرَ هذهِ الإمكاناتِ الصّوتيّةَ والصّرفيّةَ في إطارٍ عامّ، أي مستوى السّياق، بَعدَ أنِ اهتمَّ الأوّلُ بالحرْفِ، والثّاني بالكلمة، واهتمّ القانونُ الموسيقيُّ بالسّياق”(10).

إنّ مقطوعةَ شاعرتِنا آمال عوّاد رضوان كما في غالبيّةِ أشعارِها، تعتمدُ أفكارُها على نزعةٍ تصويريّةٍ، فيها كثيرٌ مِن الإحساسِ، تجري صياغتُها بلغةٍ شعريّةٍ، تتشكّلُ بدايةً مِن مجموعةٍ مِنَ الصّورةِ الجزئيّة الّتي تتكاملُ معًا، لتُشكّلَ بَعدَها صورةً كلّيّة. وتقولُ: أَيا أُقْحُوانَةَ الثَّغْرِ اثْغَرِّي/ أَسْقِطي أَسْنانَكِ الرَّواضِعَ/ قَلِّدِيني بِفَوْحِ مِسْكِكِ وَسامَةً/ شُدِّيني وَمْضَ نَقاءٍ إِلى عَيْنِ رَبيعِكِ/ وَفي تَهاويمِ مَجْدِكِ أَنْبتيني أَيْدي طُفُولَةٍ تُمْسِكُ بِالشَّمْسِ/ لِتَسْتَوِيَ عَدْلًا عَلى جُزُرِ النُّورِ: ففي السّطورِ السّابقةِ نرى أنّ البحرَ والجُزرَ والماءَ والسّماءَ والفضاءَ والشّمسَ والنّورَ رموزًا للحياةِ، وأنّ الطّفولةَ والأمومةَ هي مَباعثُ الحياةِ والدّيمومة. والرّمزُ مِنَ التّقنيّاتِ الّتي يَكثُرُ استخدامُها في الشِّعرِ المُعاصِر، وهو وسيلةٌ يَعتمدُها الشّاعرُ للإيحاء، بدلَ المُباشَرةِ والتّصريح، فيَنقلُ المُتلقّي مِنَ المستوى المُباشِرِ للقصيدة، إلى المعاني والدّلالاتِ الّتي تَكمُنُ وراءَ الكلماتِ، كما يقومُ باستكمالِ ما تَعجَزُ الكلماتُ عن تِبيانِهِ وتوضيحِهِ، فهو أبلغُ مِن التّصريح، “ﻓﺎﻟﻌﻼﻗﺔُ ﺒﻴﻥَ ﺍﻟﺸِّﻌﺭِ ﻭﺒﻴﻥَ ﺍﻟﺭّﻤﺯِ ﻗﺩﻴﻤﺔٌ، ﻭﺘﺩلُّ ﻋﻠﻰ ﺒﺼﻴﺭﺓٍ كاﻓﻴﺔٍ ﺒﻁﺒﻴﻌـِﺔ ﺍﻟﺸِّﻌﺭِ ﻭﺍﻟﺘّﻌﺒﻴﺭِ ﺍﻟﺸّﻌﺭﻱّ(11).

(أَيَا أُقْحُوانَةَ الثَّغْرِ اثْغَرِّي/ أَسْقِطي أَسْنانَكِ الرَّواضِعَ): وتنتقلُ شاعرتُنا إلى الأسلوبِ الإنشائيّ، والنّداءُ هنا يُفيدُ تحبُّبَ الشّاعرةِ وتَقرُّبَها مِن محبوبتِها فلسطين، والمُنادى هنا أقحوانةُ الثّغر ترمزُ إلى فلسطين وجَمالِها. والأمرُ في كلٍّ مِنَ الفِعليْنِ: “اثْغَرّي” و”أسقِطي” يُفيدُ كلّ منهما الالتماس، والمُتلقّي عندما يقرأ هذا السّطرَ الشّعريّ، يُدركُ أنّ المخزونَ الّلغويَّ لدى شاعرتِنا واسعٌ وكبيرٌ، فلقد وظّفتْ كلمَتَي “الثّغر” والفعل “اثْغَرّي”، وأتبَعَتْهُما بجملةِ “أَسْقِطي أَسْنانَكِ الرَّواضِعَ”، بحنكةٍ ودرايةٍ ووعيٍ لمكانِ كلِّ لفظةٍ وعبارة. وعندما نتصفّحُ مُعجمَ لسان العرب باب “ثغر”، سنجدُ الكثيرَ، وسأكتفي بنقلِ النّزرِ القليل فقط، لنُدلّلَ على أنّ شاعرتَنا واسعةَ الاطّلاع: “عن ابن الأعرابيّ: وأنشد لجرير: متى ألق مثغورًا على سوء ثغره/ أضع فوق ما أبقى الرياحي مبردا.

وقيلَ: ثغر وأثغرَ دقّ فمه. وثغر الغلامُ ثغرا: سقطت أسنانُهُ الرّواضعُ، فهو مثغور. وأثغر واتْغَرّ وادْغرّ، على البدل: نبتتْ أسنانُهُ، والأصل في اتْغرّ اثتغرَ، قُلبتِ التّاء ثاء ثمّ أُدغِمت، وإن شئتَ قلت: اتْغرّ بجعْلِ الحرف الأصلي هو الظاهر.. ومنهم مَن يَقلبُ تاء الافتعال ثاءً، ويدغم فيها الثاء الأصليّة، ومنهم مَن يَقلبُ الثّاء الأصليّة تاء، ويدغمُها في تاء الافتعال، وخصّ بعضُهم بالاثغار والاتغار البهيمة: أنشدَ ثعلب في صفة فرس: قارح قد فر عنه جانب/ ورباع جانب لم يتغر(12).

 لقد أدركَتْ نازك” “أنّ تطوُّرَ الّلغةِ وحياتَها إنَّما يَنبُعُ مِن حياةِ الشّاعرِ وتجربتِهِ، وليسَ مِن الكلماتِ ذاتِها. فالشّاعرُ قادرٌ مِن خلالِ إحساسِهِ الجديدِ بالمُفردات، وتجربتِهِ في الحياة، أن يُعطِيَ لها دلالاتٍ شِعريّةً، مِن خلالِ توظيفِها في سِياقٍ جديد. فالشّعرُ ليسَ صناعةً، بل تجربةً، والشّاعرُ يَستطيعُ أن يُقدِّمَ للّغةِ ما يَعجزُ النّحاةُ عنه. إنّه قادرٌ على إحياءِ الألفاظ، بفضلِ حِسِّهِ المُرهَفِ واطّلاعِهِ على الأدب القديمِ والحديث، العربيِّ والأجنبيّ. فهو يَستطيعُ أن يُضيفَ لونًا إلى كلمةٍ، ويَصنعُ تعبيرًا جديدًا، وإنْ خرَقَ قاعدةً استطاعَ أنْ يَخلقَ البديل، ليُصبحَ ما أبدعَهُ قاعدةً جديدة(13).

ونعودُ لسطرِ الشّاعرة: (أَيا أُقْحُوانَةَ الثَّغْرِ اثْغَرِّي/ أَسْقِطي أَسْنانَكِ الرَّواضِعَ): فالجُملةُ الثّانيةُ في هذا السّطرِ جاءتْ تأكيدًا للجُملةِ الأولى، والجُملتانِ بمعنى واحد، وهُما كنايةً عن أنْ تخلعَ حبيبةُ الشّاعرةِ ثوْبَ ماضي تجربتِها معَ الاحتلال، وما وَلّدَهُ في نفسِها مِن أسى وحزنٍ وإحباط، وأن تتسلّحَ بسلاحِ العزيمةِ والمضاءِ والوعيِ والبلوغ، وقد استخدَمَتِ التّرادفِ بينَ كلٍّ مِن “اثْغَرّي” وَ “أسْقِطي” وبنفسِ الوزن، والجُملتانِ فيهِما المُوازنة، كلُّ هذا، لتوليدِ الإيقاع الموسيقيِّ والبناءِ الفنّيّ الشّعريّ.

لقد أجادتْ شاعرتُنا توظيفَ أدواتِ الرّبط “وجودًا أو عدمًا”، وهذه التّقنيّةُ الأسلوبيّةُ ظهَرتْ بشكلٍ جلِيٍّ في الشّعرِ العربيّ الحديث، حتّى باتتْ تُشكِّلُ أسلوبًا فنّيًّا، يُمكنُ أن يُفيدَ منهُ النّصّ، ويُحقّقَ لهُ مستوًى جَماليًّا فريدًا. وقديمًا، صُنِّفَ هذا النّوعُ مِنَ الأسلوبِ تحتَ مُسمّى (الوصْل والفصْل)؛ بمعنى أنّ الوصْلَ هو عطفُ جملةٍ على أخرى. وعكسُهُ الفصل، وهذا مألوفٌ ومُتّبَعٌ في الجُملةِ النّثريّةِ الإيصاليّة. أمّا على مستوى الشّعر فيُصبحُ الأمرُ مُختلِفًا، إذ يكتفي الشّاعرُ بربْطِ جزئيّاتِ السّطرِ، معَ احتماليّةِ ترْكِ العطفِ، بفِعلِ أنّهُ أبلغُ مِن ذِكرِهِ. وشاعرتُنا تركَتِ الوصْلُ بينَ الجُملتيْنِ وهذا أبلغُ، وهو شكلٌ مِن أشكالِ الانزياح.

(قَلِّديني بِفَوْحِ مِسْكِكِ وَسامَةً): والأمْرُ هنا يُفيدُ الالتماسَ، والسّطرُ كنايةً عن عبَقِ فلسطين وشذاها وجَمالِها. (شُدِّيني وَمْضَ نَقاءٍ إِلى عَيْنِ رَبيعِكِ): كنايةً عن جَمالِ فلسطين، كُنهِها ومَظهَرِها، وفعلُ الأمرِ “شُدّيني” يُفيدُ الالتماسَ، فللنّقاءِ وميضٌ كما الشّعاع، وللرّبيعِ عيونٌ كما الإنسان، فالاستعاراتُ هنا حقّقتْ غرضَيْنِ مِن أغراضِ الاستعارة هما: الإيجازُ والبيانُ، كما تضافرَتْ معًا في رسْمِ جَمالِ الحبيبةِ، وإبرازِها في صورةٍ تأسُرُ القلوبَ بعذوبتِها وجَمالِها، صورةِ مخلوقٍ جميلٍ، نقيِّ السّيرة، باسِمِ الوجْهِ جذّابًا، فالاستعارةُ هي الّتي لوّنتِ المعانيَ الحقيقيّةَ هذا التّلوين، وهي الّتي بثّتْ في ثناياها كلَّ هذا القدْرِ مِنَ التّأثير.

(وَفي تَهاويمِ مَجْدِكِ/ أَنْبتينِي أَيادي طُفُولَةٍ تُمْسِكُ بِالشَّمْسِ): وهنا قدّمَتِ الشّاعرةُ شِبهَ الجُملةِ “وَفي تَهاويمِ مَجْدِكِ”، وحقُّها التّأخير، وأخّرَتِ الجُملةَ الفِعليّةَ “أَنْبتيني أَيْدي طُفُولَةٍ”، وحقُّها التّأخير، وسببُ التّقديمِ لأهمّيّةِ المُتقدّم، وللقيمةِ الجَماليّةِ، والسّطرُ كنايةً عن التّغنّي بالعِزّةِ والمَجدِ والتّطلُّعِ للحرّيّةِ والانعتاق، والشّمسُ رمزٌ للحُرّيّة، والطّفولةُ رمزٌ للبراءة. (لِتَسْتَوِيَ عَدْلًا عَلى جُزُرِ النُّورِ!): كنايةً عن التّحرُّرِ والانعتاقِ، فللنُّورِ جُزُرٌ، ومَطلَبُ الحُرّيّةِ والانعتاقِ عدلٌ. وبالنّظرِ إلى الشّكلِ والمضمونِ في قصيدةِ شاعرتِنا، يتبيّنُ لنا أنّ الشّكلَ لا يَظهرُ إلّا مِن خلالِ المَضمون، والمضمونُ لا نَفهمُهُ إلّا مِن خلالِ الشّكل، فهُما مُتّحِدانِ مُندَغِمان.

و(يَتّفقُ يوسف الخ

اترك تعليقاً