الأرشيفوقفة عز

الشهيد مصطفى يونس ورد .. وردة المنشية ومخيم عين الحلوة – نضال حمد

الشهيد مصطفى يونس ورد .. وردة المنشية ومخيم عين الحلوة – نضال حمد

في بلدة المنشية قرب عكا بقيت بيوت عائلة ورد الفلسطينية، التي استولى عليها الصهاينة فدمروا بعضها وسلبوا واحتلوا بعضها الآخر. خرجت العائلة سنة 1948 من هناك الى لبنان، فسكنت مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، حيث عاشت المنشية وعكا وفلسطين معها في خيمة ثم في بيت طين ثم تحت الزينكو ثم بيت باطون الى يومنا هذا.

هناك في المخيم ولد الشهيد مصطفى يونس ورد، وولد في نفس البيت شقيقه الراحل قبل أسابيع الرفيق نبيل ورد. وأيضا هناك كانت ولادة الشبل عدنان الذي ورث بندقية الشهيد مصطفى وارثه النضالي ونهجه الكفاحي وانتماؤه الوطني. عدنان الذي ودع مصطفى وهو ابن 11 عاماً وودع نبيل وهو ابن 55 سنة، حمل الأمانة وصانها وما حاد عن درب الشقيقين. يعيش في السويد على الانتماء والذكريات مخلصاً لوطنه، لقضيته ولمخيمه، ووفياً لوصايا الشهداء. كما للشهيد مصطفى شقيقه الأصغر سناً غسان ورد، الذي شارك في معارك الدفاع عن المخيمات الفلسطينية في لبنان، والذي كان أصيب بجراح في مواحهة مع القوات الفاشية اللبنانية في جبل الحليب بمخيم عين الحلوة في العاشر من نيسان 1985.

الشهيد البطل مصطفى يونس ورد من مواليد مخيم عين الحلوة عام ١٩٥٩ من بلدة المنشية قضاء عكا كما أسلفنا. التحق منذ الصغر بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فكان طفلاً شبلاً ثم مقاتلاً رجلاً. خضع لعدة دورات عسكرية، ثم تفرغ للعمل الفدائي فكان أحد أفراد سرية الطوارئ التابعة للجبهة الشعبية في مخيم عين الحلوة، التي كانت تتواجد حينها على مدخل المخيم على الشارع التحتاني، قرب معمل حجارة أبو محمود الغزاوي .

عام ١٩٧٥ شارك البطل مصطفى ورد في معارك بيروت على محور الأسواق التجارية والفنادق، حيث كانت تقاتل قوات الثورة الفلسطينية جنبا إلى جنب مع الحركة الوطنية اللبنانية، باسم القوات المشتركة، ضد القوات الانعزالية الفاشية الكتائبية اللبنانية حليفة الكيان الصهيوني.

عام ١٩٧٦ توجهت سرية الطوارئ التابعة لجبهة الحكيم للمشاركة باقتحام بلدة الدامور من حرش الصنوبر القريب من قلعة موسى والموصل الى بلدة دير القمر، نزولا إلى ملتقى النهرين. ففي مثل هذا الشهر شباط – فبراير 1976 ، كان الجو عاصفاً وبارداً وكان المطر شديد الغزارة، فيما نهر الدامور الذين كان على مصطفى ورفاقه عبوره، كان شديد التدفق، جارفاً للاتراب والأشجار. ليلا بدأت عملية التسلل عبر ضفتي النهر من خلال ربط حبلين عبورا إلى بلدة المشرف شرق الدامور، لكن خلال المحاولة للأسف تم رصد المجموعة الفدائية من قبل مواقع الفاشيين الانعزاليين، حيث رصدهم موقع رشاش ٥٠٠ من تلة المشرف المطلة على ملتقى النهرين. فدار اشتباك عنيف أثناء عبورهم النهر أدى الى اصابة الرفيق مصطفى ورد الذي ابتلعه النهر وفقد في ذلك اليوم.

بعد تطهير التلة المذكورة من القوات المعادية وتدمير الموقع الانعزالي في بلدة المشرف و الاستيلاء على بلدة الدامور، معقل نمور الأحرار ورئيسهم رئيس لبنان الأسبق كميل شمعون. في تلك الليلة شديدة البرودة والأمطار بدأ الرفاق في الجبهة البحث عن الشهيد مصطفى لكنهم لم يعثروا عليه. ومرت ثلاثة أيام من البحث دونما نتيجة. بعد ذلك تم ابلاغ العائلة بفقدان الرفيق مصطفى. على اثر ذلك بدأت العائلة أيضاً عملية بحث عنه. بعد أسبوع من فقدان مصطفى طلبت والدة الشهيد من الجبهة اصطحابها إلى الطريق حيث سارت السرية الفدائية، وكان شقيقه الشبل عدنان بعمر ١١ سنة وهو يرافق والدته في رحلة البحث عن مصطفى.

في هذا الصدد يقول عدنان ورد ” ترجلنا مشيا على الأقدام من حرش دير القمر نزولا إلى ملتقى النهرين، كانت مياه النهر لونها أحمر من أتراب الجبال.. وكان النهر عريضا وبينما الوالدة تسير على ضفة النهر مقابل المشرف وجدت كوفية بين الوحل فسحبتها وغسلتها، و بدأت تتفحص الكوفية ذات اللون الأسود والأبيض من أطرافها وفجأة انهمرت بالبكاء…

في تلك اللحظة سألها الفتى عدنان:

يما ليش عم تبكي؟

فقالت له: هذه كوفية أخوك مصطفى.

كيف عرفتي يما؟

قالت له من شهر طلب مني أخوك أخيط له أطراف الكوفية لأنها كانت (منسله)..

واصلا البحث مشيا على ضفاف النهر حتى المغيب فلم يجدا شيئاً، فعاد عدنان مع والدته إلى البيت وقلبيهما يعتصران ألماً. فقد أيقنا أن مصطفى سقط شهيدا لأن الكوفية عليها آثار دماء ويوجد ثقب بها أحدثته رصاصة..

بعد أربعون يوماً من اقتحام الدامور وهدوء النهر وتبدل الطقس نحو الأفضل قام أحد المزارعين اللبنانيين بالابلاغ عن وجود جثمان لشخص ما داخل النهر، بين الأشجار المنجرفة… وأن الشخص المتوفي يرتدي بدلة عسكرية خضراء، وعلى ظهره جعبة قذائف ب ٧ و على صدره جعبة صدر وسلاحه معلق بالأشجار داخل النهر.. على ما يبدو إنه جثمان الشهيد مصطفى يونس ورد. تم نقل الجثمان فوراً إلى براد مستشفى الحكومي اللبناني على مدخل مخيم عين الحلوة. وقبل أن تذهب العائلة لرؤية الجثمان، كان الرفاق في الجبهة الشعبية قد تعرفوا عليه، من خلال رقم سلاحه.. وقد تفحصت عائلة الشهيد الجثمان فتم التعرف أيضا عليه والتأكد من ساعة اليد الملتصقة بالجسد لأن الوجه كان مشوها .

شيعت الجبهة جثمان الشهيد مصطفى يونس ورد في موكب مهيب انطلاقا من المخيم إلى مقبرة صيدا القديمة وقد دفن هناك. في ذلك الوقت كان عمري أنا 13 عاماً وشاركت في جنازة الشهيد مع الشبيبة الفلسطينية. وأذكر لغاية اليوم الشهيد مصطفى ورد وهو يعبر الطريق من والى مكاتب ومقرات الجبهة الشعبية. فإحداها كان بجوار منزلنا في مخيم عين الحلوة. ومن ذلك المقر خرج الفدائيون لقتال الصهاينة في الجنوب اللبناني وفي شمال فلسطين المحتلة، ولمواجهة أعوانهم الانعزاليين في مناطق لبنانية أخرى. فاستشهدت مجموعة منهم أذكر منها الشهيد أبو أمين قائد المجموعة وقائد عملية بحرية لاقتحام الدامور، استشهد جراء استهداف زورقه في البحر مقابل الدامور… وأذكر الشهيد (الشلبي أو الشبلي) لم أعد أذكر اسمه بالضبط، أستشهد في الجنوب اللبناني. كما وأذكر الشهيد غالب الطلحة من مخيمنا عين الحلوة استشهد في اقتحام الفنادق في بيروت والشهيد حماد من مخيم نهر البارد استشهد في اقتحام الفنادق حيث أصيب بثلاث طلقات في صدره. أيضا أذكر قريبي الراحل فيما بعد غازي حمد – أبو العبد – الذي كان مع تلك السريّة والمجموعات الفدائيّة… لا أنسى جريح سوري كان اسمه الحركي كاسترو وشهيد كان اسمه الحركي أبو الفجر. كلهم كانوا في مقر الجبهة الشعبية بقيادة الشهيد أبو أمين قرب بيتنا بالمخيم.

حين تذكرت الشهيد مصطفى يونس ورد وقررت الكتابة عنه والتذكير به كمناضل وابن مخيم وشهيد وبطل. اتصلت بصديقي عدنان يونس ورد – أبو يونس- شقيق الشهيد، المقيم في السويد… وطلبت منع العون والمساعدة في معلومات اضافية عن الشهيد مصطفى. زودني بها مشكورا. لكن عندما أرسلها لي وجدتها مكتوبة بدموعه. فقد بكا حين أخذ يتذكر كل تلك الحكاية عن شقيقه الشهيد وعن أمه وهي تبحث عنه في النهر وعن شقيقه نبيل الذي كان له بمثابة الأخ والأب والرفيق والقائد. توفي نبيل في فلسطين المحتلة قبل أسابيع قليلة.

كتب لي أبو يونس:

“عزيزي نضال وأنا أكتب لك كنت أبكي لأنني تذكرت كل تلك الأيام وخاصة عندما والدتي وجدت الكوفية على ضفة النهر، عداك عن ٤٠ يوم عاشته العائلة بالحزن والدموع لفقدان أخي البطل مصطفى.. وحتى اليوم أنا الوحيد من العائلة احتفظ بنفس الصورة التي أهدتنا اياها الجبهة وكان مكتوب فوق الصورة شهيد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.”.

بندقية الشهيد تنتقل الى كتف شقيقه الأصغر

في سن ١١ سنة حمل عدنان نفس بندقية الكلاشنكوف التي كانت مع الشهيد مصطفى لحظة استشهاده، لأن الجبهة أهدته إياها, فيوم جاء الى منزل عائلة ورد وفد من الجبهة يذكر منه عدنان كل من الرفيق أبو صالح الأسدي (توفي قبل سنوات طويلة)، بطل رواية باب الشمس للياس خوري وبعض قصص لغسان كنفاني. والرفيق أبو عماد الجندواي (توفي قبل سنوات) والرفيقة رغدة شناعة.  يقول عدنان ورد:

“كانت بندقية الشهيد مصطفى كلاشن صيني، أخمص خشبي…

قال لي أبو صالح هذه أمانة أخوك مصطفى لك.

حتى أنني أذكر كان يوجد مكتب للجبهة الشعبية في حي البراد في مدينة صيدا اللبنانية، فكان أخي نبيل يأخذني معه إلى ذاك المكتب وعند الصباح كانوا الشباب يناموا ويوكلوا لي الحراسة. فكنت أجلس في دشمه من أكياس الرمل مسقوفة مقابل المكتب… وعندما يباشر أهالي الحي بالتوجه إلى عملهم، كانوا يتوقفون قرب الدشمة ويسألونني: ألا تخاف؟

فكنت أخرج من الدشمه وأنا فاتح الحربي الصيني حيث كان سلاحي أطول مني…

وأقول لهم طبعا لا أخاف وهذا السلاح لأخي الشهيد

فكانوا يقولون لي هل تحب أن تكون فدائياً مثل أخوك الشهيد

كنت أقول لهم ليس أنا فقط فالحب الأكبر أيضا هناك بالمكتب نائم. (يقصد شقيقه نبيل).

يختتم عدنان كلامه بالقوال: من وقتها أقسمت أن أمضي فدائي.

المجد والخلود للشهيدين مصطفى ونبيل ورد ولكل شهداء شعبنا وأمتنا وثورتنا وقضيتنا. والوفاء علينا وعلى عدنان وشقيقه الأصغر غسان، هذا الفدائي الشجاع، الذي جرح وأصيب في عدة مواجهات مع الصهاينة وأعوانهم في لبنان، حيث يشهد له مخيم عين الحلوة على شجاعته ونضاله.. فهو الشبل الذي سار على درب اخوته- رفاقه في العائلة المناضلة. الوفاء للشهداء أمانة ثقيلة يحملها كل فلسطيني لم ينسَ دماء وتضحيات الشهداء وقداسة القضية ونهج الكفاح والعودة والتحرير.

نضال حمد

4 شباط فبراير 2021